بقدر طول خبرتنا مع الانتخابات التى تتنافس فيها الأحزاب السياسية، بقدر ضحالة هذه الخبرة. يسرى هذا على الانتخابات التى تم تنظيمها فى الفترة السابقة على عام 1950، كما يسرى على الفترة التى تلت عودة الأحزاب السياسية فى عام 1976. فخلال الفترتين هيمن حزب واحد كبير على المشهد السياسى والانتخابات، فاكتسح أغلبية مقاعد البرلمان فى مواجهة أحزاب صغيرة لم يكن لها أى أمل فى الفوز بأكثر من حفنة من المقاعد. قبل 1952 هيمن حزب الوفد على المشهد السياسى وفاز بالأغلبية الساحقة فى كل انتخابات غير مزورة تم تنظيمها فى تلك المرحلة، أما فى الفترة الممتدة منذ عام 1976 فقد انتقلت الهيمنة للحزب الوريث لتنظيم الاتحاد الاشتراكى، حزب مصر لدورة انتخابية واحدة، ثم الحزب الوطنى بعد ذلك. طوال هذه الفترة كانت نتيجة الانتخابات معروفة سلفاً ليس بسبب التزوير -الذى كان موجوداً دائماً حتى أصبح نوعاً من الفلكلور المصرى- ولكن بسبب القاعدة الشعبية العريضة التى ساندت حزب الوفد فى المرحلة الأولى ثم الحزب الوطنى فى المرحلة الثانية. فحتى عندما بدأت علامات الضعف تظهر على حزب الوفد بعد حادث الرابع من فبراير 1942، وعلى الحزب الوطنى منذ انتخابات عام 2000، ظل الحزبان يتمتعان بقدر من التأييد يكفى لاحتفاظهما بوضعية الهيمنة على البرلمان والسياسة المصرية. اشتراك «الوفد» و«الوطنى» فى الهيمنة على السياسة المصرية فى مرحلتين مختلفتين لا يعنى أن الحزبين كانا متشابهين أو متساويين، فحزب الوفد تأسس بين الناس فى خضم ثورة 1919، فيما تأسس «الوطنى» بمبادرة من الرئيس السادات فى إطار سعيه لتفعيل وتنظيم القاعدة الشعبية المؤيدة للنظام. حزب الوفد هو حزب الوطنية المصرية الذى قاد الكفاح ضد الاستعمار والقصر من أجل الاستقلال والدستور، والحزب الوطنى هو حزب الدولة الوطنية المصرية التى تضخمت أمنياً وبيروقراطياً واقتصادياً، حتى أصبحت الماكينة الأكثر فعالية لإنتاج الطبقة الحاكمة. انحل الحزب الوطنى بحكم قضائى فى عام 2011، وجرت انتخابات 2011-2012 البرلمانية فى غياب الدور المهيمن لحزب الدولة الوطنية، فكانت انتخابات فريدة من نوعها فى إطار الخبرة المصرية الطويلة فى مجال الانتخابات التعددية، ولكن بدلاً من أن تنتج هذه الانتخابات نظاماً سياسياً تعددياً حقيقياً، وجدناها تؤسس لحالة جديدة من الهيمنة تمثلت هذه المرة فى حزب الإخوان الذى عزز هيمنته بوصول مرشحه محمد مرسى لرئاسة البلاد. لم يكن وصول الإخوان لسلطتى التشريع والرئاسة هو المشكلة الوحيدة التى واجهتنا بعد إسقاط نظام مبارك، ولكن المشكلة الأهم هى أن الأحزاب المدنية المنافسة للإخوان لم تفز سوى بعدد قليل من المقاعد يذكرنا بما كان عليه الحال فى مراحل هيمنة حزبى الوفد والوطنى، الأمر الذى كان ينذر بتأسيس مرحلة جديدة من هيمنة الحزب والقطب السياسى الواحد على السياسة المصرية تشبه إلى حد كبير ما عرفناه طوال التسعين عاماً التى انقضت منذ أول انتخابات برلمانية تعددية فى هذا البلد. خبرتنا الطويلة مع هيمنة الحزب والقطب الواحد، وليس فوز الإخوان بالانتخابات والرئاسة، هى ما أخرجت الناس للشوارع لإسقاط حكم الإخوان، وها نحن نقترب من انتخابات برلمانية جديدة لا يوجد بين الأحزاب المتنافسة فيها ما يبدو مرشحاً للتحول إلى حزب مهيمن جديد. هذا فى حد ذاته جيد لأن غياب الحزب المهيمن هو أحد شروط الديمقراطية، لكنه ليس جيداً بقدر كافٍ لأن الديمقراطية تحتاج إلى تعددية سياسية متوازنة، تقوم على حزب أكثرية يحكم، فيما تعارضه أحزاب قريبة منه فى الشعبية والقوة، ولديها فرصة حقيقية لتبديل مواقعها مع الحزب الحاكم فى انتخابات لاحقة. فدارسو الانتقال الديمقراطى وخبراؤه يتفقون على عدم اكتمال التحول الديمقراطى فى بلد ما إلى أن يتم تداول السلطة بين حزبين سياسيين عن طريق الانتخابات. فإجراء الانتخابات التعددية الأولى فى حد ذاته ليس سوى خطوة أولى على طريق الانتقال الديمقراطى، أما الخطوة الثانية الضرورية فتتمثل فى وصول المعارضة إلى الحكم بطريقة سلمية دستورية فى انتخابات تالية، وهو ما غاب أى مؤشر على إمكانية حدوثه فى ظل حكم الإخوان، ولهذا كانت الثورة عليهم ثورة من أجل الديمقراطية بقدر ما كانت ثورة من أجل حماية الهوية الوطنية. الاختبار الذى يواجهه نظامنا السياسى فى انتخابات مجلس النواب المقبل هو اختبار مزدوج، فالمطلوب هو تأسيس نظام سياسى قابل للتحول إلى نظام ديمقراطى حقيقى، ومطلوب أيضاً توفير القدرة على إنتاج سلطة شرعية قادرة على ممارسة الحكم، فتحفظ الأمن وتحقق الاستقرار وتسرع بالتنمية وتحقق العدالة وتقود الوطن نحو التقدم، ومطلوب منا أن نحقق كل ذلك فى وضع تغيب عنه الأحزاب الكبرى التى هيمنت على السياسة المصرية طوال القرن الماضى، فلا يوجد بين أحزابنا من يمتلك ادعاء تمثيل الوطنية المصرية، ولا الدولة لها حزبها، أما حزب الإخوان فقد تم وضعه خارج الخدمة والشرعية. غياب القوى الثلاث الكبرى لا يبقى فى الساحة سوى أحزاب ثانوية لا تبدو حتى الآن قادرة على إشاعة الشعور بجدية المنافسة السياسية، أو بفعالية التمثيل السياسى المترتب عليها، وهذا هو الاختبار الأكبر الذى نواجهه. ففى غياب المنافسة الجادة والتمثيل الحقيقى لمكونات المجتمع ينصرف الناس عن السياسة والانتخابات، وهو ما نشهد مظاهر كثيرة له فى أيامنا هذه، ليس نتيجة لإجراءات سلطوية كما يظن البعض، ولكن نتيجة للشك فى قدرة الأحزاب القائمة على ملء الفراغ الذى خلفته أحزاب الوطنية المصرية والدولة الوطنية والإسلام. هذا هو الاختبار الذى يواجه الدولة والأحزاب، وهذا هو ما يجب عليهما التعاون لمواجهته.. ولهذا حديث آخر.