سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
المصرى بين هروبين: إلى الله «منتحراً».. ومن الله «ملحداً» شهادات أصدقاء المنتحرين: «مالقوش حد يطبطب.. أكيد ربنا أحن عليهم من الناس والحكومة والكوكب كله»
فيمَ كانوا يفكرون؟ كيف أقبلوا على خطوة الانتحار بهذه البساطة، تاركين خلفهم أصدقاء وأهلاً وعالماً كاملاً يتساءل بذهول: «لماذا؟.. ألم يكن هناك حل آخر»، وكيف هانت الحياة بهذه الطريقة؟ صدمة كبرى وأسئلة عديدة لن يجيب عنها المنتحرون، وإن كانوا يعلمون إجابتها جيداً فى مكانهم فى الجانب الآخر من العالم، البعض اقترب كثيراً مع عوالم هؤلاء، بحكم الصداقة تارة، وبحكم المصادفة أخرى، فى لحظات القرب البسيطة قبل الحدث الضخم توافرت بعض الإجابات التى يسوقونها مجيبين عن الأسئلة الأبرز: «كيف ولماذا؟». «عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية.. كرامة إنسانية»، شعارات رفعها الشباب فى ثورة يناير. شهور وسنوات مضت دون أن يجدوا لأى منها أثراً على أرض الواقع، سلسلة من الانتحارات المتتالية أصبحت شبه يومية، لكل منها سبب، ولكل سبب علاقة مباشرة بأحد الشعارات الأربعة، إما غياب العيش وظروف الحياة الآدمية، أو غياب الحرية، أو غياب العدالة أو غياب الكرامة. «كل خبر جديد بسمعه بيخلينى أنا وكل اللى زيى عاوزين ننتحر»، يتحدث مصطفى عبدالرحمن الشهير ب«كاجو» الشاب الذى اقترب كثيراً من حوادث انتحار فى محيطه أصبح لديه الكثير ليقول له حول تلك التجارب القاسية: «بقالى فترة بحاول متبعش أخبار عشان أحافظ على حالتى النفسية»، حرص لا يكاد يكتمل مع المكالمات التى تعاجله لحظة بعد أخرى بانتحارات متتالية لأشخاص لم يعد الشاب يحاول أن يعرف المزيد من التفاصيل عنهم كى لا يكتشف أنه يعرفهم من قريب أو من بعيد. «من بعد زينب الموضوع قفل معايا أوى، زينب المهدى كانت زلزال وفعلاً الموضوع كبير، فكرة الانتحار مبقتش حاجة غريبة للشباب من سن 15 ل40 سنة، وبشكل خاص شباب الثورة اللى أنا واحد منهم» لم يعد الشاب البالغ من العمر 27 عاماً، وكثير من أصدقائه يرون جدوى للحياة: «لما نعيش فى مجتمع أصبحت كلمة شاب فيه تهمة، تخليه معرض للقتل والاعتقال والإهانة وحاجات كتير كفيلة تضيع مستقبله أكتر ما هو ضايع، صوتنا مش مسموع، والكل بيبص لنا ويتعامل معانا على أننا خربنا البلد ودماغنا بايظة». بخلاف زينب المهدى، الصديقة المقربة، يعرف «مصطفى» أكثر من صديق شارفوا على التجربة القاسية: «كل شوية أخبار سيئة، عدد اللى بيفكروا فى الانتحار أكبر من اللى عملوها فعلاً، واصلين لدرجة من الشعور بالعدمية رهيب، لو كنا فى دولة محترمة بنسبة 20% كانت الحكومة قدمت استقالتها بعد كم الانتحار ده، أربعة فى أسيوط انتحروا ورب أسرة على يافطة إعلانات وواحد فى العاشر، كلها أزمات مالية ونفسية وسياسية ونلاقى النقاش بين الناس هو اللى مات ده كافر ولا لأ، محدش بيناقش السبب، مين اللى وصّل رب أسرة إنه يموت ولاده ويموت نفسه، لو اللى بينتحر من الجوع كافر أمال اللى وصله لكده يبقى إيه؟ الناس دى مش لاقيين حد يطبطب عليهم، فى اللحظة دى بالذات بيفكروا إن ربنا أكيد هيكون أحن عليهم من الناس والحكومة والكوكب، ربنا هيطبطب، لذلك بيحطوا نهاية للعبة السخيفة وبيروحوا للى أحن من الأب والأم.. لربنا». حالة من الشعور بالخطر أصبحت تداهم الجميع: «ليا زمايل بحضنهم وبقولهم أرجوكم ماتبقوش أنانيين، لو شايفين إن ده مريح إعرفوا إنكم هاتبهدلوا وراكم أصحاب وأهل وناس كتير هتتعب أوى، ليا صديقة مشتركة مع زينب المهدى واصلة لنفس المرحلة، كل لما بشوفها بقولها أرجوكى إوعى، بشوف فى عنيها إنها وصلت للعدمية». لم يكن «مصطفى» يفترق أبداً عن صديقه «هشام رزق» الفنان والممثل ورسام الجرافيتى الشهير. لا توجد صورة مع مصطفى إلا وتجمعه بصديقه المقرب الذى اختفى طويلاً قبل أن يجدوا جثته فى النيل: «تلاقيه انتحر» قالها عمال المشرحة بلا مبالاة لوالده و«مصطفى» الذى كان حاضراً، لم يصدق الشاب لحظة أن صديقه المقرب قد يفعلها، كذلك الوالد: «منتحرش ولحد دلوقتى معرفش مات إزاى.. لكن النتيجة إن صديق عمرى مش معايا». «خطر»، هذا هو الشعور الذى أصبح أحمد مبارك يشعر به تجاه كل من يعرفهم، مع كل صباح أصبح يراجع قائمة الأصدقاء على موقع التواصل «فيس بوك» يرى من أغلق منهم صفحته، من لم يغرد قبل فترة طويلة، المسألة لم تعد هينة بالنسبة إليه: «كلنا عندنا اكتئاب وإحباط وفقدان أمل، مفيش حد من الفاسدين اللى الناس قامت ضدهم بثورة جراله حاجة، الناس بقت تسيب لهم الدنيا وتمشى». لم يصل «أحمد» للمرحلة التى يقرر معها إنهاء حياته، لكنه عايش تجارب قاسية جعلته يقترب من التجربة، أصبح يدرك جيداً أن التخويف من الانتحار لم يعد مجدياً: «طريقة التهديد وكلمة هتموت كافر بتخلى الشخص يعند أكتر، ساعتها بيتاكد إن محدش حاسس بيه وإنه مظلوم وغلبان ولازم يفارق كل الناس اللى معادتش حاسة». يفكر «أحمد» كثيراً فى طريقة عملية تجعله بأمان مع أصدقائه من تجربة الانتحار: «بفكر فى تنظيم دواير فضفضة، نتفق مع دكاترة نفسيين، نعمل رقم تليفون للمساندة، أكيد فى حل، نحاول نقرا أكتر عن الحلول وطريقة التعامل اللى تخليهم يبقوا أحسن.. كلنا معرضين للانتحار دلوقتى». لم يكن مايكل أرمنيوس يتخيل أنه سيكون شاهداً على حالة انتحار حقيقية، الشاب الذى يدرس بكلية الألسن يتابع الأخبار المتواترة كل يوم عن حالات الانتحار المتكررة، كان يلخص الأسباب فى الظروف المادية الصعبة والأوضاع السياسية المتخبطة، لكنه اكتشف أسباباً أخرى للانتحار، حين شاهد فتاة تعتلى سور كوبرى قصر النيل وتقفز بسرعة لم يتخيل معها أن ما حدث حقيقى: «أسباب الانتحار عمالة تزيد، محدش بيحس بالتانى، التحرش وقلة الأدب بقت حاجة عادية، عايشين فى دولة مش بترعى حقوق الإنسان والفقير ملهوش لازمة، كل دى أسباب كافية الواحد يقرف من حياته وينتحر، البنت نطت لأنها عارفة محدش معاها، المجتمع ده بقى بيضيق على الإنسان من كل الاتجاهات والحل فى رأيهم بقى الإيمان الشديد بربنا لدرجة أنهم يروحوله بسرعة من خلال الانتحار، أو الكفر بوجوده وبمساعدته عن طريق الإلحاد».