حياة مبارك مليئة بالأحداث والمفاجآت.. وقد تأملت حياته وسجنه ثم البراءة بعين الذى يلتمس العبرة لنفسه ولغيره.. فلم أفرح بسجنه لأنه سجننى ربع قرن.. ولم أحزن لخروجه لأنى أعلم أن الحكم النهائى العادل سيصدر فى الآخرة من رب العالمين الحكم العدل.. وأن الدنيا ليست بدار عدل ولا حق مطلق وكل ما فيها نسبى. وقد عاهدت نفسى ألا أشمت فى أحد وأن أنأى بنفسى وقلبى عن التشفى فى أحد.. وألا أقترب ممن تربع على عرش السلطة.. وأن أقترب من الفقراء والمساكين واليتامى والأرامل والصالحين والعلماء والمفكرين ممن لا جاه لهم ولا سلطة.. وعندما تأملت حياة مبارك وجدت الآتى: أولاً: مبارك أول رئيس مصرى يُسجَن.. ولعل الله أراد أن يريه السجون التى سجن واعتقل فيها عشرات الآلاف بقانون الطوارئ. لقد كان هناك قرابة ألف معتقل فى أواخر التسعينات من الرهائن فقط «أى آباء وأشقاء أو أقارب المطلوب القبض عليهم».. فقد تميز عهد مبارك بالسجون.. فما يكاد يخرج المعتقل حتى يعود إليه.. وقد حصل بعض المعتقلين على 45 حكماً بالبراءة ولم يفرج عنه.. وبعضهم مكثوا فى السجن 15 عاماً بعد الحكم لهم بالبراءة.. وكانت هناك أسر بأكملها فى السجون.. وكان الاشتباه والشك هو سيد الموقف.. ولعل الله أراد أن يريه مع أسرته صعوبة السجن ومشقته ومظالمه حتى يكفر بعض ذنوبه ويتوب عليه.. ولعل الله فرج كربه سريعاً لأنه غير سياسته فى السجون منذ عام 2002 فأنهى عهده بتحسن السجون وكثرة الإفراجات ووقف حملات الاشتباه والتعذيب. وقد تفكرت فى مصير القذافى وصدام حسين ومبارك و«بن على».. فوجدت أن مبارك لم يكن يميل إلى قتل خصومه، رغم حدوث ذلك. أما القذافى وصدام حسين فقد كانا يسرفان فى قتل الخصوم السياسيين حتى إن صدام قصف الأكراد بالكيماوى.. أما «بن على» فكان يطرد خصومه للخارج فطرد مثلهم.. فكل عوقب بنفس فعله.. ولعل الله رحم مبارك بعطائه العظيم فى حرب أكتوبر.. والحقيقة أن مبارك كان أعقل وأهدأ من صدام والقذافى وبن على. ثانياً: يمكننى أن أقسم حياة مبارك إلى قسمين: 1- كان فيها عسكرياً منضبطاً بعيداً عن السياسة مهتماً بعمله مخلصاً له يعطيه وقته وجهده ولا يعرف سواه.. وقد توج هذه الفترة بقيادته لسلاح الجو المصرى فى أول وأهم نصر مصرى وعربى على إسرائيل فى حرب أكتوبر المجيدة. 2- حكم مصر ثلاثين عاماً تدهورت فيها الخدمات الصحية والتعليمية.. وزادت فيها الرشوة والفساد والمحسوبية والتربح من الوظيفة الحكومية مع خصخصة الوظائف وبيع القطاع العام بثمن بخس والرشوة والتربح فى بيعه ومحاولة توريث الحكم.. وكأنه أحسن فى ثلاثين وأساء فى مثلها.. فخرج لا له ولا عليه. ثالثاً: يمكن تقسيم عهد مبارك إلى قسمين: قبل ظهور جمال مبارك وأتباعه وما بعده.. فما قبله كان مبارك نشيطاً مجتهداً يهتم بدعم مكانته كرئيس جديد.. فيحاول أن يتم المشروعات الكبرى التى بدأها السادات.. والتى نسب أكثرها إليه. أما بعد ظهور جمال وأتباعه فقد شلت حركة مبارك عن كل مناحى الدولة سوى الأمنية والعسكرية.. وتغول جمال وأنصاره فى أركان الدولة فسرقوا ونهبوا وفسدوا وارتشوا وزوروا الانتخابات وخصخصوا الوظائف وورثوها وأهملوا التعليم والصحة وسائر الخدمات.. وأصبح مبارك ضعيفاً محصوراً ينتظر فقط لحظة التوريث النهائى. رابعاً: كان مبارك حاكماً عنيداً شرساً.. ليس لديه أدنى إبداع فى تطوير الدولة.. أو الاستفادة كإسرائيل من مرحلة السلام.. فقد تطورت إسرائيل تطوراً عظيماً فى كل شىء فى الوقت الذى وقفت فيه فى مصر «محلك سر» بعد أن آلت أمور الحكم عملياً لجمال ومجموعته وشلته. خامساً: لولا أن مبارك حظى بمجموعة من المستشارين المخضرمين فى بداية حياته ما حقق الطفرة الأولى فى بداية حكمه وأهمهم صوفى والمحجوب وأبوغزالة وعبدالعزيز حجازى وفؤاد محيى الدين وكمال حسن على والباز والفقى.. فلما خلا الملعب من هؤلاء وقفز جمال وأتباعه ممن لا تهمهم إلا مصالحهم الشخصية ضاع الحكم ومصر. سادساً: لم يكن مبارك حنوناً ولا عطوفاً ولا يحب العفو.. حتى بدا كجلمود صخر لا يأبه بالعواطف والمشاعر ولعل تربيته العسكرية الجامدة ساعدت على ذلك وابتعاده عن الفنون والآداب وما شابه ذلك طوال عمره وغياب التجارب الإنسانية العميقة طوال فترة عمله الشاق والمضنى.. كل ذلك جعله مثلاً لا يعفو حتى عن قائده فى حرب أكتوبر الفريق الشاذلى ليخرج مثل أى سجين.. ولا يعفو حتى عن المرأة السجينة التى تسلّمت منه جائزة حفظ القرآن. ولك أن تقارن بين مبارك والملك حسين الذى لم يعدم أى سياسى طوال 40 عاماً رغم حدوث 40 محاولة انقلاب واغتيال ضده. سابعاً: يحسب لمبارك أنه كان مثل حكام مصر جميعاً وطنياً صلباً لم يعرف الخيانة لوطنه ولا لدينه.. وكل ما شاب عهده من قصور فى حق مصر لم يكن من باب العمالة أو الخيانة للوطن.. ولكن غلبته شهوة حب توريث الحكم لابنه.. وهذا حدث مع بيبرس وقلاوون فى آخر حياتهما مع اختلاف الوقائع. ثامناً: يحمد لمبارك أنه ترك الحكم بسهولة بعدما انحاز الجيش إلى ثورة 25 يناير. تاسعاً: أكبر جرم وقع فيه مبارك أنه وضع مصر فى ثلاجة التجميد والركود السياسى والاجتماعى والفكرى والاقتصادى والعلمى والتقنى طوال 30 عاماً.