مصر كلها كانت تدّعى أن من الخطأ التعليق على أحكام القضاء، سواء متوافقة أو غير متوافقة مع المزاج العام. اليوم صدرت أحكام بالبراءة فى حق مبارك وبعض أركان حكمه، فإذا بمصر كلها -التسعين مليوناً- تعلق على الحكم، تأييداً ورفضاً: ناس تطبّل وترقص وتتبادل الأحضان، وناس تولول وتندب و«تتمرمغ» فى التراب. صدر الحكم، وهو جنائى وليس سياسياً، لكن قطاعاً عريضاً من المصريين، والنخبة فى صدارتهم، «سيّسوه»، واعتبروه إرهاصاً بعودة نظام مبارك وبعثاً جديداً لرموزه، خاصة مع اقتراب الانتخابات البرلمانية. هذا هو الخطأ الأول: فلا نظام مبارك سيعود، لأن هذا ضد المنطق والواقع، ولا انتخابات البرلمان تصلح معياراً أو دليلاً على عودة هذا النظام، لأنها «علاقة مباشرة» بين المرشح والصوت الانتخابى، أو هى علاقة منفعة متبادلة، لا شأن للسياسة بها. الخطأ الثانى وقع فيه دراويش «25 يناير»، إذ قرروا فوراً وبصورة قاطعة أن هذه البراءة تُعد المسمار الأخير فى نعش «ثورتهم» المجيدة، وإهداراً لدماء شهدائهم ونضال الملايين التى اكتظت بها شوارع وميادين مصر. وأنا لا أفهم أى «ثورة» تلك التى تنتهى -بشهدائها ونضالاتها وشعاراتها ومطالبها- لمجرد صدور حكم قضائى من محكمة جنايات بتبرئة مبارك وعدد من رموز نظامه!. لا أفهم كيف يباهى دراويش «25 يناير» بأن «ثورتهم» عظيمة وغيّرت وجه مصر ولا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.. ثم يقطعون بأن هذه البراءة تعنى ضمناً «إدانة» هذه «الثورة»، ومن ثم «موتها» إلى الأبد!. أى تناقض هذا؟! من جهتى ما زلت أراها «مؤامرة» وليست «ثورة»، حتى لو صدر الحكم إعداماً، لكننى لا أظن أنها ماتت تماماً (ليتها يا أخى تموت بالفعل)، إذ ما نزال وسنظل نعانى من آثارها المدمرة، وأتمنى بالفعل ومن كل قلبى أن يكون هذا الحكم «نهاية» لتداعيات ما جرى فى هذا اليوم المشئوم. أما تلك «المندبة» التى نصبها دراويش «25 يناير» فور صدور الحكم فإنها تؤكد أن الواقع تجاوزهم، وتجاوز «ثورتهم»، وأن المصريين الآن لم يعد يشغلهم إن كانت هذه «البتاعة» قد ماتت وطُويت صفحتها أم أنها «مستمرة» كما يحلمون!. المصريون الآن يلهثون وراء لقمة عيشهم ويتطلعون إلى مستقبل لا مكان فيه لفاسد أو ظالم أو تاجر دين، ولا مكان فيه أيضاً للمرتزقة وتجار الثورات، ممن يقبعون فى عزلتهم، ويبحثون عن مصالح و«ثارات» شخصية، وعن قشة يتعلقون بها وتبرر بقاءهم فى المشهد. هؤلاء المرتزقة يدركون تماماً أن «ثورتهم» ماتت مائة مرة، وأن كل ما بقى لهم منها هو «الثأر» من مبارك والحلم برؤيته مشنوقاً فى التحرير، وكأن هذا سيكون بعثاً جديداً لهم ول«المرحومة»!. ثمة خطأ ثالث هو الأهم فى تقديرى، إذ خرج البعض ب«فرية» تقول إن براءة مبارك تنطوى ضمناً على إدانة للرئيس السيسى ونظام حكمه، وهذا تطاول وخلط صفيق للأوراق!. ما شأن السيسى ببراءة مبارك أو إدانته؟. وماذا كان ممكناً أن يقول هؤلاء لو أن الحكم صدر بالمؤبد أو الإعدام: هل سيكون السيسى رجلاً عظيماً فى نظرهم؟. هذه الفرية مع الأسف اخترعها حمدين صباحى، وحوّلها «مرتزقة 25 يناير» إلى «فزاعة» للسيسى، بدليل أن خونة «6 أبريل» هتفوا فور صدور الحكم: «يسقط حكم السيسى - مبارك». هذا الربط المخل والبذىء بين السيسى ومبارك -فى سياق إدانة- لا يصدر إلا عن خصوم السيسى والمعادين لمشروعه السياسى والوطنى، وستركب عصابة الإخوان وحلفاؤها فى الداخل والخارج هذا الحكم لإشعال فتنة سياسية، وسيقال -أو قيل بالفعل- إن دولة السيسى حشدت ل«28 نوفمبر» تحسباً لرد فعل الشارع على براءة «محسومة» وليس لمواجهة ما يسمى «ثورة الهوية» التى بشّرت بها عصابة الإخوان وجبهتها السلفية!. هذا تأويل مُغرض وجزء من حرب ضارية ضد السيسى، لكن الغبار سيهدأ، وستعود «25 يناير» إلى حيث تستحق أن نسميها: «مؤامرة». خلافاً لهذه الأخطاء الثلاثة: لماذا لم ينتفض مرتزقة 25 يناير عندما صدرت أحكام براءة فى «موقعة الجمل»، وفى ظل حكم عصابة الإخوان، بمن فيهم نائبهم «الخاص» طلعت عبدالله؟. هل كانوا على علم بأن المتهم الرئيسى هو تلك العصابة؟. لماذا لا يحترمون حكماً قضائياً ويغضون الطرف عن آخر؟ هل لأن لديهم ثأراً مع مبارك ولديهم مصالح مع الإخوان؟ مبارك برىء جنائياً ومُدان سياسياً: ما شأن السيسى بذلك؟. ولماذا لا يطالب هؤلاء المرتزقة بإعدام محمد مرسى وعصابته، مع أن تهمة الخيانة ثابتة ضدهم؟. لماذا لا يبحثون عن قتَلة متظاهريهم الحقيقيين؟. لماذا لا يطوون صفحة «25 يناير» ويبدأون نضالاً جديداً لإرساء قيم العدل والمساواة.. بدلاً من البكاء والندب «وقلقلة المرحومة» فى قبرها؟