أستعيد وقوف القطار عصراً فى محطة «دراو» قبل أسوان، كأنى أرى المشهد الآن، أعواد القصب متناثرة بجوار العربات؛ على جانبى القضبان، وتحت العربات. الرصيف قصير، أو القطار أطول بعرباته المتعددة. كنا فى المؤخرة، تطلعت من النافذة، بيوت القرية كلها من الطين أو الطوبة الخضراء كما تسمى حتى الآن فى أقاصى الجنوب، بالقياس إلى الطوبة الحمراء التى ابتلى به الريف المصرى بعد الانفتاح وعودة العاملين فى الخليج. البلاد التى مررت بها بعد طهطا كلها جديدة علىّ، اعتدت النزول مع الأسرة فى طهطا وركوب عربة الأجرة إلى جهينة عبر الطريق الغربى غير المرصوف، كنت أتابع القطار بعد مغادرته الرصيف، لا يزال الباب الذى يتوسط العربة الأخيرة له تأثير عميق عبر الذكرى، فما البال بعد مرور أكثر من نصف قرن؟ رغم كل هذه السنوات فما زال القطار عندى هو ذا المقدمة التى تعمل بالبخار «الأسود» الذى ينفث دخاناً، أما الباب الأخير الذى يتضاءل مع المسافة فيرعش قلبى. لأول مرة فى تلك الرحلة أبلغ البلاد التى لم أعرفها من قبل، كنت أدون أسماءها بدءاً من سوهاج وما تلاها جنوباً، نزلنا بالأقصر وتجولنا شرقاً وغرباً، ولهذا تفصيل يطول أمره، ورأيت مزارع السكر الشاسعة والقطارات الأصغر حجماً التى تحمل الحيوان، عبرنا كوم أمبو وإدفو، ودهشت لأن الطريق الذى تمضى فوقه السيارات كان غير مرصوف لمسافة تبلغ المائتى كيلومتر، شريان ضيق متخلف يصل أسوان بالقاهرة، طريق واحد فقط، كنت أتطلع إلى القرى التى تمر بنا أو نمر بها كأنى أطالع ديواناً من الشعر. ذلك النخيل الموحى بالأبدية، ثابت فى مواجهة الريح، النهر، الصخر، الرمال الممتدة إلى الغرب، بيوت الطين، مفردات تلمس أغوار قلبى أنا الجنوبى الممعن فى الاتجاه جنوباً، مزيد من الجنوب، كنت أفارق القطار مع أهلى فى طهطا وها هو الوقت الذى أرحل فيه منفرداً بعيداً عن الأسرة قد حل، ولسوف يبدأ رحيلى بمفردى. وما زال مستمراً، توقف القطار بدراو، وطال الوقت، أحد أعيان البلدة دعا السائق إلى الغداء، الخط مفرد ولا يمر عليه إلا قطارات محدودة على أوقات متباعدة، عندما علمت بذلك تجرأت ونزلت السلالم المتعددة، وقفت أتحدث إلى بعض أبناء البلدة، سألنى أحدهم: تبدو من نواحينا.. قلت مفتخراً: أنا من جهينة.. قال: آه.. من بحرى.. دهشت، بل أقول بدقة إننى فوجئت، أنا المفتخر بصعيديته، بانتمائه إلى جهينة، كيف أكون من بحرى؟ بحرى يعنى الدلتا، وحتى هذه اللحظة من عمرى عام واحد وستين لم أكن أبحرت إلى أى بلدة فى الشمال، لم أعرف البحر إنما سمعت عنه من الوالد الذى يتردد أحياناً على أقاربه فى الثغر، تطلعت متجهاً إلى محدثى غير أننى شيئاً فشيئاً بدأت أستوعب ما اعتبره جنوباً بالنسبة إليه بحرى، وها نحن فى الجنوب لكن بالنسبة لمن فى أسوان فنحن بحرى، إذن الأمر نسبى، لا جنوب مطلق ولا شمال مطلق، إذن لا جهة، إنما هى أسماء رمزية لا غير لا تعنى شيئاً دون الإنسان، إنما كل تلك الآفاق جهات نولى الوجه تجاهها، اليوم موجودة وغداً أو بعده ربما لن تقوم لها قائمة، فكل ما نراه، كل ما نعرفه يتضمن نقيضه فى كيانه، الأمر نسبى، الأمر نسبى.