فى المرحلة الابتدائية عرفت رحلة اليوم الواحد إلى القناطر الخيرية، وقد بقى منها فى الذاكرة تلك المساحات الخضراء التى تآكلت مع الزمن. أما القناطر ذاتها فقد عدت إليها كثيراً فى مراحل مختلفة من العمر لأتأمل هذا الأثر الفريد الذى أنشأه أحد أعظم من فهموا مصر وإمكانيات شعبها رغم أنه أجنبى عنها. أعنى محمد على باشا، مؤسس الدولة المصرية الحديثة التى تتآكل الآن، قناطر لتنظيم النهر تشيد على الطراز الإسلامى. لم أعرف أثراً مائياً كهذا فى أى جزء من العالم. ولى عودة إلى عصر محمد على بما حوى من عناصر نهضة حقيقية. كانت منطقة الهرم هدفاً للرحلات المدرسية، ويليها المتاحف؛ المصرى فى التحرير والزراعى فى الدقى وهذا من أروع وأهم متاحف الشرق أنشأه الملك فؤاد ويتدهور الآن بسرعة شديدة، والمتحف القبطى فى الفسطاط، والمتحف الإسلامى فى باب الخلق، ولأننى اتجهت إلى الدراسة الفنية بعد المرحلة الابتدائية وكان مجموعى سبباً فى إلحاقى بقسم السجاد والصباغة بمدرسة العباسية الثانوية الفنية، ورغم الصدفة فإننى أدركت نعمة ما اتجهت إليه فيما تلا ذلك من سنوات ولو عاد الزمن لأخترت الدراسة نفسها. الملاحظ هنا أن دراسة المراحل المتعاقبة لتاريخ مصر كانت متوازنة لا تعارض لا تناقض بينها، والحقيقة أن معرفة مصر كوطن وشعب لا يمكن أن تتم إلا من خلال استيعاب المراحل الأساسية للتكوين المصرى القديم بمراحله المختلفة والقبطى ثم العربى بالنسبة للمرحلة الأولى، كان مما ندرسه عنها حتى بداية السبعينات وافياً إلى حد معقول. ما زلت أذكر كتب التاريخ القديم وتوقفى الطويل أمام صور اللوحات الفرعونية واللغة التى تمنيت فك أسرارها. إلى أن تحقق بعض من ذلك منذ عشرين عاماً، أى بعد اقترابى من الخمسين، خلال الندوة الأسبوعية التى كان يقيمها فى بيته المرحوم محسن لطفى السيد، كان يلقى محاضرات فى التاريخ القديم. ودروساً فى اللغة، كنت تواقاً إلى قراءة النصوص المصرية القديمة المكتوبة على الجدران أو أوراق البردى دون ترجمة، وقد تحقق لى ذلك خلال تلك الدروس، رحمه الله رحمة واسعة. ترجع هذه الرغبة إلى أول رحلة طويلة خرجت فيها من القاهرة ضمن فريق الكشافة الذى انضممت إليه عام واحد وستين خرجنا من القاهرة سيراً على الأقدام قاصدين الأقصر وأسوان. تخلل الرحيل ركوب عربات نقل ومسافات قطعناها بالقطار لكن المشى كان هو الأساس وقد انتهت الرحلة بحضور حدث بارز فى تاريخنا المعاصر؛ تفجير عبدالناصر لأول شحنة متفجرات فى بناء السد العالى، غير أن قطع الوادى سيراً على الأقدام كان له أثر روحى عميق لعله من أهم الأحداث التى أثرت فىّ، خاصة بعد تجاوزى مركز طهطا والاتجاه جنوباً، كانت الرحلة مع الأسرة إلى «جهينة»، مسقط رأسى، طقساً سنوياً لم نختلف عنه حتى وفاة جدتى فى الخمسينات، كنا نركب القطار من القاهرة، قطاراً يتحرك فى الثامنة صباحاً يتوقف عند المراكز يصل إلى طهطا عصراً، حيث ننتقل بعربة أجرة إلى «جهينة»، التى تقع غرباً على حدود الصحراء، فيها نمضى إجازة الصيف. فيها عشت الصعيد.. وسمعت ما يرويه القوم عن الأوصاد التى تلحق الأذى بمن يقصد دخول مقابر الأقدمين، كذلك المساخيط الكامنين فى مغارات الجبل الغربى ما تزال مصر القديمة حية، خاصة فى الصعيد، وقد حاولت رصد ذلك فى كتابى «نزول النقطة» فى تلك الرحلة اكتشفت مصر جمالياً. وأبصرت فنون الأجداد القدامى، هزنى معبد أبيدوس وأصبح من أهدافى الأساسية فى الحياة ولكن الأقصر ما زالت تبهرنى حتى الآن، كنت أرى وأسمع ما تيسر من شرح. وعدت لأقرأ سليم حسن الذى عثرت على أجزاء كتابه فى سور الأزبكية ولم أهدأ إلا بعد إعادة طبعه فى الهيئة، ثم فى مشروع مكتبة الأسرة، أحد أهم مشروعات القراءة فى العالم العربى، ولحسن الحظ أنه ما زال مستمراً ولكن يجب ألا ننسى مؤسسته السيدة سوزان مبارك، فهذا من أجل ما قامت به، قرأت كتاباً جليلاً لعالم أمريكى اسمه جون ولسون صدر فى الألف كتاب وبدأت السعى إلى كل ما يفسر لى ما رأيته وما أسعى إلى رؤيته مما تبقى سواء الفرعونى أو القبطى أو العربى إذا لم تتكامل معرفة هذه المراحل المتداخلة فلن يعرف المصريون وطنهم.