ندوة توعوية موسعة لهيئة التأمين الصحي الشامل مع القطاع الطبي الخاص بأسوان    نهائي دوري أبطال أفريقيا.. الجباس يتحدث عن خبرات لاعبي بيراميدز قبل مواجهة صن داونز    وزير الشؤون النيابية يهنئ وزيرة البيئة بأمانة اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر    عيار 21 الآن.. سعر الذهب اليوم الجمعة 23-5-2025 في مصر بعد ارتفاعه الكبير بالصاغة    توجيهات بسرعة الانتهاء من تطوير شارع «سوهاج- أسيوط» بنهاية الشهر الجاري    المشاط: الاستقرار الاقتصادي ضرورة لدفع النمو لكنه لا يكفي بدون إصلاحات لتمكين القطاع الخاص    مسؤولة أوكرانية تدعو لإعداد الأطفال لحرب طويلة مع روسيا    جامعة هارفارد تقاضى ترامب بعد إلغائه حقها فى تسجيل الطلاب الأجانب    جوارديولا: مواجهة فولهام معقدة.. وهدفنا حسم التأهل الأوروبى    انتهاء الاختبارات العملية والشفوية لطلاب كلية العلوم الرياضية    حريق هائل بمخزن كاوتش بأحد قرى الدقهلية    علم الوثائق والأرشيف.. أحدث إصدارات هيئة الكتاب    صفاء الطوخي: أمينة خليل راقية وذكية.. والسعدني يمتلك قماشة فنية مميزة    المجمعات الاستهلاكية تستقبل المواطنين اليوم الجمعة حتى هذا الموعد    لبحث الاستعدادات النهائية لانطلاق المنظومة.. قيادات «التأمين الشامل» في زيارة ميدانية لأسوان    وفاة موظفة بديوان عام محافظة المنيا صدمتها سيارة    ضبط مدير مسئول عن شركة إنتاج فنى "بدون ترخيص" بالجيزة    ننشر مواصفات امتحان العلوم للصف السادس الابتدائي الترم الثاني    البريد المصري يحذر المواطنين من حملات احتيال إلكترونية جديدة    بينها عيد الأضحى 2025.. 13 يوما إجازة تنتظر الموظفين الشهر المقبل (تفاصيل)    قصور الثقافة تعرض مسرحية تك تك بوم على مسرح الأنفوشي    "طلعت من التورتة".. 25 صورة من حفل عيد ميلاد اسماء جلال    خطيب المسجد النبوى يوجه رسالة مؤثرة لحجاج بيت الله    الأهلي يجهّز ملف شامل للرد على شكوى بيراميدز بالمحكمة الرياضية    بدون خبرة.. "الكهرباء" تُعلن عن تعيينات جديدة -(تفاصيل)    منها «استقبال القبلة وإخفاء آلة الذبح».. «الإفتاء» توضح آداب ذبح الأضحية    أخبار الطقس في السعودية اليوم الجمعة 23 مايو 2025    القاهرة الإخبارية: الاحتلال استهدف أهالي حاولوا الوصول إلى شاحنات المساعدات    محافظ الجيزة: الانتهاء من إعداد المخططات الاستراتيجية العامة ل11 مدينة و160 قرية    غدًا.. جلسة عامة لمناقشة مشروع قانون تعديل بعض أحكام "الشيوخ"    "فيفا" يعلن استمرار إيقاف القيد عن 7 أندية مصرية.. ورفع العقوبة عن الزمالك بعد تسوية النزاعات    أسعار الحديد والأسمنت اليوم فى مصر 23-5-2025    استمرار تدفق الأقماح المحلية لشون وصوامع الشرقية    انطلاق قافلة الواعظات للسيدات بمساجد مدينة طلخا في الدقهلية    أرني سلوت ينتقد ألكسندر أرنولد بسبب تراجع مستواه في التدريبات    شرطة الاحتلال تعتقل 4 متظاهرين ضد الحكومة بسبب فشل إتمام صفقة المحتجزين    على غرار اليابان.. نائب أمريكي يدعو لقصف غزة بالنووي    وفد الصحة العالمية يزور معهد تيودور بلهارس لتعزيز التعاون    "بئر غرس" بالمدينة المنورة.. ماء أحبه الرسول الكريم وأوصى أن يُغسَّل منه    رئيس بعثة الحج الرسمية: وصول 9360 حاجا من بعثة القرعة إلى مكة المكرمة وسط استعدادات مكثفة (صور)    صلاح يتوج بجائزة أفضل لاعب في البريميرليج من «بي بي سي»    الدوري الإيطالي.. كونتي يقترب من تحقيق إنجاز تاريخي مع نابولي    غلق كلي لطريق الواحات بسبب أعمال كوبري زويل.. وتحويلات مرورية لمدة يومين    ضبط 379 قضية مخدرات وتنفيذ 88 ألف حكم قضائى فى 24 ساعة    الهلال يفاوض أوسيمين    يدخل دخول رحمة.. عضو ب«الأزهر للفتوى»: يُستحب للإنسان البدء بالبسملة في كل أمر    المشروع x ل كريم عبد العزيز يتجاوز ال8 ملايين جنيه فى يومى عرض    بسمة وهبة ل مها الصغير: أفتكري أيامك الحلوة مع السقا عشان ولادك    رمضان يدفع الملايين.. تسوية قضائية بين الفنان وMBC    رئيس الأركان الإسرائيلي يستدعي رئيس «الشاباك» الجديد    جامعة القاهرة تعلن عن النشر الدولى لأول دراسة بحثية مصرية كاملة بالطب الدقيق    مصادر عسكرية يمينة: مقتل وإصابة العشرات فى انفجارات في صنعاء وسط تكتّم الحوثيين    زلزال بقوة 6.3 درجة يهز جزيرة سومطرة الإندونيسية    دينا فؤاد تبكي على الهواء.. ما السبب؟ (فيديو)    نموذج امتحان مادة الmath للصف الثالث الإعدادي الترم الثاني بالقاهرة    أدعية مستحبة في صيام العشر الأوائل من ذي الحجة    خدمات عالمية.. أغلى مدارس انترناشيونال في مصر 2025    أسرة طائرة الأهلى سيدات تكرم تانيا بوكان بعد انتهاء مسيرتها مع القلعة الحمراء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوميات آلاخبار
خطوط ماثلة
نشر في الأخبار يوم 24 - 04 - 2012

تندفع مركبات الترام في الذاكرة، بعد أن اندفعت سنوات طويلة في الشوارع تحمل البشر والمصائر ثم اختفت
أقول الآن وداعاً لكل شيء، تسعة وخمسين، دخولي المدرسة أول مرة، تقع إلي جوار مخزن الترام، مأوي المركبات والقطارات بعد انتهاء الخدمة اليومية، منطقة معزل، علي أطراف المدينة وقتئذ، كان حضور الخلاء قوياً، وهذا من أسباب كثافة الوداع عندي، ذلك ان الوقوف عنده فيه تأهب واستشراف لرحيل غامض، الشارع المؤدي إليها فسيح بمقاييس الوقت، ورؤيتي أيضاً، أجده ضيقاً الآن إذا مررت قربه، مزدحماً، الجانب الأيسر للصاعد من شارع السرايات إلي المدرسة سور كلية الشرطة، لم تكن الكلية بالنسبة لنا إلا سوراً يخفي تماماً ما ورائه، ثم بوابة رئيسية علي جانبيها حرس وحملة أعلام يقفون في ثبات، أحياناً تجيء أصوات موحدة من الداخل.
واحد، اثنان، ثلاثة.. واحد، اثنان، ثلاثة.
سرعان ما ينزل الصمت، يستأنف أعمق وأفضل تأثيراً، علي مقبرة مستشفي الحميات، يليها مستشفي الأمراض العقلية، في مصر اثنان من التخصص الأخير، العباسية، الخانكة، كلا المكانين إشارة إلي الخلل النفسي، كثيراً ما أصغيت إلي حوار تتخلله عبارة »دا عباسية خالص«، »دا خانكة خالص«، أحياناً يدل المكان علي ما لا يتصل به في الظاهر، معني ما، لكن المدرسة كانت قصية بمقاييس الوقت، مبناها صارم، ربما كان مصمماً للغرض في الأصل، وربما كان مأوي للجنود، لا أعرف، المنطقة كلها كانت مقراً لثكنات الجيش الانجليزي، لا تزال بعض المباني التي شيدوها قائمة، مثل هذا الذي أشرفت عليه من الغرفة التي أقام فيها أخي عندما رحنا نتحدث في ترتيبات الوداع، كنا نناقش أوضاعنا، وسائر ما يتعلق بها كأننا نرتب رحلة ننتقل بعدها من طور إلي طور، من حال إلي حال، ليس الوداع إلا نذير انتقال، وإشارة عبور إلي ما نجهل، ما لا نعرف، وما لم نطلع عليه، ما لم نحط علماً بما سيجري لنا فيه سكون مجلبة للأسي، وهذا من لوازم الفرقة، خاصة عندما ننسلخ قسراً عما ألفناه وعهدناه، لكم تلوح الإشارات وتبدو البوارق، غير أننا لا ننتبه إلا بعد فوات الأوان إذا جري ذلك حقاً!
ثمة أماكن أقمت بها قدراً غير هين من الوقت، عندما فارقتها لم أرجع إليها قط حتي الآن، وفي الأغلب الأعم لن أراها أبداً، منها السجون التي تنقلت بينها، وقصر آل الشريعي الذي اتخذته مقراً خلال عملي القسري، سنة تشبه النفي عرفت خلالها صعوبات عيش يهون وقتي بالحبس إذا ما قورن بها، وقد ذكرت بعضاً مما عانيت، مما عرفت في الدفتر الثاني، والسابع، إضافة إلي تفاصيل وزعتها هنا وهناك، من تلك المباني والأماكن مدرسة العباسية تلك، حتي الآن أمر بالقرب منها في شارع السرايات أو طريق صلاح سالم الذي شق فيما بعد، لم أشرع قط في إلقاء نظرة، لم يدفعني فضول لأطلع علي ما آلت إليه الأحوال، أو لأستعيد نثيرة وقت مما أمضينا، بل إنني أتجنب الاقتراب أو الاستعادة حتي بالمخيلة، ولا أظن أنني استعدتها بالحلم، لذلك أسباب، تتضح حيناً كما في حالة المعتقل، وتغمض حيناً آخر، أشدها وأوعرها ما يتعلق بالمدرسة مع أني عرفت داخلها أوقاتاً من البهجة والانخراط في الصحبة، بقدر ما أجتهد لأستعيد أماكن فقدتها أو أوشك، بقدر ما أفر من أخري وأتجنب، ثمة لحيظات أخشي استعادتها، أقصيها إذا لاحت، أحاذر الاقتراب منها، لكنني أذكر بعضها لعلي أزيل الرهاب، ومن أكثرها حدة ما جري لي في الترام.
تسعة عشر
ترام رقم تسعة عشر
مجرد وصلة، لم يرق إلي مرتبة خط قائم بذاته، يدفع فيه الراكب مقابل التذكرة، بنفس الورقة يركب خطاً آخر، رقم ثمانية إلي شبرا، أو خمسة عشر إذا قصد الجيزة، أو اثنين وعشرين إلي العباسية.
مركبتان، بكل منهما قسم خاص للحريم، لا مقاعد، إنما دكتان طويلتان متواجهتان، نوافذه عريضة.
أرتدي جلباباً، قادم من سور الأزبكية، تعلقت بناحية اليسار، لم أكن أجيد الشعبطة، أو القفز من مركبة متحركة، لم أعرف المهارات التي يتقنها أقراني مثل ركوب الدراجات، لعب الكرة، القفز من حافلات متحركة، التعلق بجهة الشمال يعني التهرب من دفع قيمة التذكرة أو محاولة السرقة.
كنت أري الصبية الأصغر سناً يقفزون إلي الأرض، أجسادهم تميل عكس الاتجاه، ينتقلون من مركبة إلي أخري، حذرني أبي، وما نبهني إليه كدت ألقاه.
الوقت عصر.. تبدأ الحركة متمهلة، ينتقل خلالها الترام من خط القدوم إلي الذهاب، لمحني الكمساري، يرتدي حلة صفراء، يتدلي من كتفه حقيبة جلدية كانت من لوازم الشغل، جلد طبيعي متين، تماماً مثل حقيبة ساعي البريد، أراها فيما بعد معروضة كتحفة في واجهة محل متخصص في الجلود النادرة، يلوح الكمساري بيده مهدداً، ينتابني خوف، إنه سلطة بشكل ما، كل ما يمت إليها كان مهاباً وقتئذ، من أعلي المراتب إلي أدناها، موضعي خطأ، أبادر بالقفز، ولأنني أقوم بالحركة لأول مرة كدت أسقط فوق الأرض، تعلقت بالباب، بدأت المركبة تسحبني، ولأنها سوف تنتقل من خط إلي آخر بميل فهذا يعني مرورها فوقي.
أتعلق متشبثاً، أنظر إلي شيء ما، الطلاء أصفر، لون السقف الداخلي أبيض، مستسلم تماماً، مشدود إلي لحظة فارقة، مدرك لما سيجري غير أنني لا أعرف الخلاص.
ماذا جري؟
كيف أفلت؟
لا أعرف
ربما لحقني أحدهم، ربما تمهل المركبة عند الانتقال، ما أستعيده الآن تعلقي، وثوقي من نظرة وداع استقرت في حدقتي، جلبابي بني مخطط بالأبيض، كم أبلغ؟، ربما الثانية عشرة، الرابعة عشرة، عرفت طريقي إلي سور الكتب الشهير مبكراً.
أتفادي فضولي، الاستعادة، ما جري، لا أتمهل للفحص، أحيد بسرعة، رغم انني عانيت موقفاً أشد حلكة غير أنني عند استعادته، أو وروده علي الخاطر لا أجزع ولا أرهب.
أقترب من نهاية شارع الغورية، بالضبط ما بين القبة والمسجد، إذن.. أنا قادم من ناحية باب زويلة، من أين؟ لا أعرف، أمثل في مكان، مجرد موضع منقطع عن الأسباب، عن المصدر والمآل، لولا ما جري لما علقت اللحظة.
صبي يجري، رأيته بعد أن تجاوزني، متجه بسرعة أعجب من صدورها عنه حتي الآن، حافلة من النقل العام تعبر أمام السوق، يسقط لسبب ما أجهله، العجلة الضخمة تمر فوق دماغه تماماً، اختلاط الدم بالشعر، ما يشبه الانفجار، اختلاجة الجسد، كنت علي قرب شديد.
لماذا أستعيد فلا أجزع؟
لأن الأمر خص غيري، أما ما حدث قرب ميدان العتبة فمما أتلافاه وأنأي عنه، متعلق بي، تهديد وقع، دنا واقترب منذ نصف قرن أو أكثر، حدته لاماتزال، فكأنه يمثل مرة أخري بمجرد الاستعادة.
الترام يسري، يمضي من وقت إلي وقت، من زمن إلي آخر، يصعد هؤلاء وينزل هؤلاء، تتقاطع النظرات، ويعلو الصرير عند المنحنيات، يقفز المتعجلون، أو المختلسون وقتاً أو أشياء لا تخصهم.
في صدارة المقعد الأمامي يجلس الشيخ صالح الجعفري، مهيباً، حضوره يفيض علي ما حوله. أعرفه من درس العصر في صحن الأزهر، يبدأ بعد الصلاة، يتحلق فوقه القوم، من طلاب العلم والراغبين في الزيادة، يجلس بينهم والدي، يصغي مرهفاً السمع، قال إنه قابل الشيخ يوماً الذي أمضي أربعين سنة كاملة مقيماً فوق حصيرة تتصل مباشرة بالأرض داخل رواق الجعافرة، كان يمشي الهوينا قاصداً البقال المواجه لزاوية العميان، بعد السلام الموقر تابعه الوالد، توقف عند البقال وكان هدفه الحديث في الهاتف، قال الوالد إن ذلك حيره، يعرف بوجود هاتف داخل الرواق، لكن الشيخ أوضح ذلك لمريديه وطلابه، عندما يرغب الحديث إلي أهل بيته في أسوان لا يستخدم الهاتف العمومي، هذا أمر يخصه لابد أن يدفع مقابلاً من جيبه.
يجلس الشيخ في مواجهتي، لا أجرؤ علي مصافحته، أتطلع إليه برهبة، ما علق عندي قوله مخاطباً من أجهل:
»إن عينا لم تر جمالك لهي عين شقية..«
قالها ثلاث مرات، كل مرة من مقام مغاير، أرددها عند زيارة ضريحه الذي أصبح مقصداً للزائرين والمريدين، وحوله قامت منشآت، تطالعني طلته من الأبدية، أتطلع إلي الصورة التي يحددها الإطار، أو من اللامكان، حيث ذاكرتي التي أنفذ عبرها إلي كل ما لم يعد في المتناول، أجهل قوانينها وأحوالها وما تحتفظ به، أنطقها كأني أخاطبه.
»إن عينا....«
خطوط ماثلة
يندفع ترام رقم أربعة في رؤياي كطلقة بادية، بينما يزحف رقم ثلاثة عشر كأنه سلحفاة مع أن لكل منهما نفس السرعة، والوجهة. أربعة، يندفع ظاهراً عند المنحني، ليس أي منحني، لكنه بالتحديد ذلك المؤدي من شارع محمد علي إلي ما بين مدرسة السلطان حسن ومسجد الرفاعي، كان مرور الخط بينهما باتجاهيه يباعد ما بينهما ويوجد بُعداً خفياً يوحي بوجود مكان عبر المكان، إنه أول ترام يتم مده في القاهرة، كان حدثاً هائلاً في مساء المدينة وتطورها، بدأ ذلك عام ألف وثمانمائة أربعة وتسعين حتي عام خمسة وثمانين بعد التسعمائة، عندما أجريت الترميمات الواسعة، وأزيل خط الترام، قصر الطريق علي المشاة فقط، ضاقت المسافة واقترب المسجد من المدرسة وبعد مرور سنة بدأ الوضع كأنه مستقر منذ قرون.
يصلان بين السبتية والإمام الشافعي، أي ما بين بولاق وجنوب القاهرة، أربعة أقدام، من الخطوط الأولي، لم تتغير عرباته المكشوفة من الجانبين، جزء صغير مغطي، المخصص للحريم، داخله مقعدان مستطيلان متواجهان، يتحرك الكمساري علي السلم الطويل المحاذي للعربة كلها، وعندما يتعلق البعض وقت الزحام، تبدو مهمته صعبة، غير أن كلا منهم أتقن ذلك، الانتقال من شخص إلي آخر، بل إنه أحياناً يقفز في الفراغ ليضع مقدمة الحذاء علي السلم مرة أخري بدون أن يسقط طربوشه، أو الحقيبة الجلدية التي تباع الآن في محلات التحف مع حقيبة البوسطجي، جلد سميك متقن، في العشرينيات جري إضراب شل الحركة تماماً وكان المطلب الرئيسي اعتبار الحقيبة والحزام والحذاء ملكية لمن يتسلمهم وليست عهدة مؤقتة يتم تسليمها مع نهاية الخدمة، استجابت الشركة وصار ذلك مستقراً إلي أن تبدلت الأحوال منذ نهاية الستينيات، ولم يعد ملزماً للكمساري أو السائق أن يرتدي كل منهما زياً خاصاً، أصبح صعباً تمييزهما، إلا بلوحة التذاكر، أو مكان السائق، تبهدلت أحوالهما وصار أمرهما رثاً حتي زوال الخطوط جميعاً.
رقم أربعة من عربة واحدة، مصنوعة في بلجيكا، مدينة شارلروا، أتذكرها، أتذكرها جيداً، مقترنة بمصاعد عمارات وسط البلد التي مضي علي بعضها أكثر من قرن، ماركة أوتيس، لست متيقناً من المنشأ، بلجيكا أم بلد آخر؟
ثلاثة عشر يتكون من عربيتين، مغلقتين، نوافذهما فسيحة، لماذا يبدو حضورها عابساً؟ لا أدري، هل لوجود تشابه بين العربة والتابوت؟ أو لأن المحطة الأخيرة قرب الإمام الشافعي، هذا يعني أربع محطات داخل منطقة مراقد الخلفاء، ومقابر الإمام وامتدادها قرافة سيدي عقبة، والإمام الليث.
أربعة وثلاثة عشر يعنيان الأبدية، منذ وصولي إلي ميدان القلعة يغمق قلبي، يغلب عليّ اللون الرمادي، أنتقل من وجود إلي آخر، لم أعرفه بمفردي إلا بعد اجتيازي الطوق، قصدته بصحبة الوالد لزيارة الشيخ محمد، العالم بالأزهر، صحبته إلي مقابر لا أعرف أماكنها الآن لزيارة راحلين لم يعرفهم في سعيهم إلي بالاسم، سياسيين وفنانين، خاصة المطربين الذين حفظ أغانيهم عن ظهر قلب، غير أنني عرفت الطريق بمفردي رغم انقباضي وضيقي، لا أعرف أربعة أو ثلاثة عشر إلا عبر اتجاه واحد، ذلك أنني لم أركب أيا منهما إلا في اتجاه مقابر الخلفاء والإمام عابراً ميدان القلعة.
زميلي في المدرسة الثانوية اسمه قاسم، يسكن في حوش قرب الإمام، كان يركب الخط من أوله ويبدل في باب الخلق ليأخذ ترام رقم اثنين وعشرين، يصل جنوب المدينة بشمالها، من العباسية حيث نهاية الخطوط كلها ومأوي العربات بعد انتهاء الخدمة، معروف مخزن الترام، كان كله حتي منتصف الستينيات يعتبر من حدود المدينة، حيث مستشفي الحميات، والأمراض العقلية، كلاهما معزولتان، علي مقربة كلية الشرطة، بابها عتيق، علي جانبيه مدفعان، إلي جوار كل منهما جندي يقف مثل التمثال، في المواجهة مبني مدرسة العباسية الثانوية الصناعية، عند أول الشارع مدرسة السرايات للبنات، رداء التمليذات بني اللون، للمتفوقات، لذلك تبدو الخصوصية في العناية بالمظهر، الجدية، معظمهن يجئن من أماكن بعيدة، لي مع إحداهن أمر سأقصه بعد قليل، ذلك أن المكان يقوي عليّ وقت هذا التدوين، يحضرني كما كان وقتئذ، هذا لم يعد موجوداً، ازدحم، اختفت المعالم القليلة المحددة ومنها مخزن الترام، مازال مبني كلية الشرطة قائماً، لكنه تواري في مواجهة الأبراج المرتفعة، انتقلت الدراسة إلي مبني حديث في امتداد القاهرة إلي الشرق، أما مستشفي الأمراض العقلية فصارت في قلب الطريق المؤدي إلي مدينة نصر التي لم يكن لها وجود وقتئذ.
كان اسم المكان »العباسية« يستحضر البُعد لأنه علي طراف المعمورة، عند الحد، ويعني الجنون لوجود المستشفي، إذا أراد البعض وصف أحدهم بالخلل يقول »دا عباسية خالص..« أو »دا خانكة..«.
إنها الصحراء، الامتداد اللانهائي، اللاحد، الهباء، الاقتراب من جوهر العدم، ذلك ما أدركته في مطلع الستينيات، رغم تناثر بعض المباني، وجود معسكرات الجيش الممتدة حتي كوبري القبة، أقام فيها الجيش الانجليزي من قبل، رغم المواصلات التي ينتهي معظمها في ميدان العباسية، ويستأنف بعضها إلي ضاحية مصر الجديدة، التي يربطها بميدان الحديد ترام أسرع، أكثر تطوراً، عُرف في بدايته بالمترو الأبيض، رغم جزر العمران تلك لم أعرف مكاناً في العالم أدركت فيه الصحراء وغمرتني مثل هذا المكان، يتكثف حضورها ما قبل الظهيرة وما بعدها، الأشجار المصطفة في شارع السرايات أمام المباني الأنيقة تزيد من حدة حضور الخلاء، الذي لم أعرف له مثيلاً حتي عند خروجي في دوريات الصاعقة إلي أقاصي الغرب، إلي أماكن لا وجود لها علي الخرائط، وكنت أشارك أحياناً في تسميتها أي إظهارها إلي الوجود، هناك في الجلف الكبير حيث الرمال التي لم يلمسها بشر لم يدركني تجسيد الصحراء كما عرفتها في ظهيرة أخرج فيها من المدرسة إلي محطة أوتوبيس رقم سبعة عشر ويتبع شركة فؤاد درويش الخاصة حتي تأميمها، يمر بالدراسة ولم يكن الطريق مرصوفاً، أري من خلاله المقابر ومصلحة سك النقود ودير الاباء الدومينكان ومطبعة الحلبي، ومقبرة اللواء سليم زكي حكمدار القاهرة الذي اغتاله الإخوان، أنزل في الأزهر، يستمر حتي السيدة نفيسة، مكانها قصي، تحت القلعة، ولم يكن مغموراً بالخلق والزحام العمراني كما هو عليه الحال الآن، مركبات الخط قديمة، بطيئة، تنفث بخاراً، وآلة التنبيه معلقة خارج النافذة المجاورة للسائق، يمد يده فيضغط ما يشبه القربة الصغيرة فيصدر صوت غليظ كخوار الجاموس، لا يوحي به الحجم الصغير، في الترام آلة التنبيه تحت قدم السائق، معدنية مستديرة، يضغطها فتصدر رنات جرس مازلت أسمعه حتي الآن، كنت أفضل استخدام الترام علي مرحلتين، الأولي من الأزهر إلي العتبة، أو شارع الخليج بورسعيد فيما بعد وصلة رقم تسعة عشر، حتي الآن لا أمر أمام سوق الخضار إلا وأجزع بدرجة، كدت أفقد ساقي هنا، وربما حياتي، من الخليج أركب ترام اثنين وعشرين، عربتان من الطراز القديم، بلا جدران، المقاعد مكشوفة، من العتبة، أول شارع الجيش الأمير فاروق قبل الثورة يمر الترام رقم ثلاثة وثلاثين القادم من امبابة والذي تحول فيما بعد إلي تروللي، أي حافلة لها سنجة متصلة بخطوط الكهرباء، تماماً مثل الترام، غير أن العجلات من الكاوتش غير مقيدة بقضبان، رأيته أول مرة عندما صحبت العائلة يوم جمعة لزيارة عائلة الحاج أحمد عمر، بلدياتنا من طهطا، وساكن الطابق الأول من بيت درب الطبلاوي، وصاحب أول راديو في الحارة قبل الست روحية، بعد محاولة اغتيال جمال عبدالناصر في ميدان المنشية، وقد سمعت الطلقات الثماني في عين توقيتها عبر المذياع المنبعث من المنور، علمت أن أحمد عمر قرر الانتقال مع أسرته إلي مدينة العمال الجديدة بامبابة حيث حصل علي مسكن مستقل من طابقين يحيطه حديقة، أحد أقاربه المتنفذين توسط له لأنه تاجر وليس عاملا، في قعدة العصر فوق السطح، سمعت أمي تقول: يا سلام لو كان لنا بيت مثله، قال أبي: نحتاج إلي واسطة والأهم المقدرة، غمرني حزن لأن الانتقال مرتبط بثريا ذات البهاء والإمارة، ابنة الحاج، تكبرني سناً لكنني تعلقت بها عن بعد، كل ما غمرني وهدهد روحي كان علي البُعد، وما زلت، أيضاً ثناء ذات العينين الخضراوين، أول لون أخضر أراه في حضرة بشرية، تمت إليهم بقرابة، صحبتها في الحارة وأنفقت عليها خمسة وعشرين قرشاً كانت في كيس جلدي، عثرت عليه أمام جامع سيدي مرزوق، ظلت تتجول بصحبتي وتطلب حلوي ولعبة وعروسة صغيرة وشربنا سوبيا عصير أرز قرب الخرنفش، وخروب أمام المسجد والضريح الحسيني، وعندما سألتني قرب المغرب عما تبقي وتطلعت إليها صامتاً، قالت: يعني مفيش؟، أدارت ظهرها وقالت إنها سترجع بمفردها، مشيت متمهلاً أبحث عن موضع ألقي فيه الكيس الفارغ خشية سؤال من أمي أو استفسار من أبي فأضطر إلي الاعتراف، إنني أنفقت من فلوس حرام، لا تخصني، ولكنها ثناء، رغم انها تركتني وتطلعت إليّ من فوق، كانت تتقدمني بعامين، أما ثريا فليس أقل من خمسة، أراها الآن رغم العدم، لا أعرف إن كانت ساعية أم انها في اللاهناك، عيناها القديمتان، تماماً مثل أميرة الجيزة صاحبة الثوب الأبيض والجالسة حتي الآن في المتحف المصري إلي جوار زوجها.
من ديوان الشعر العربي
جار الزمان علينا في تصرُّفه
وأيّ دهرٍ علي الأحرارِ لم يَجُرِ
عندي من الدهر ما لو أن أيسرهُ
يُلقي علي الفلَكِ الدّوارِ لم يَدُرِ
ابن لنكك البصري


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.