جمال الغىطانى ياه ، عبرتني الأوقات بسرعة ، يخطر لي رغبتي في العودة، فقط ، أطل طلة علي ماكان مني ، من هنا بدأت دفاتر التدوين وتلك بعض من أوراق دفتر »في وداع الاشياء« ما بين مدرسة خان جعفر المهجورة منذ أن وعيت عليها وحتي الآن وحتي مقهي البنان هِوّ ، خاصة بعد أن تغلق دكاكين الموازين أبوابها كذلك وكالة الشطة التي يعطس كل من يمر أمامها، أيضا أبواب مصلحة الدمغة والموازين توصد في الثانية ظهراً ، يبقي البناء خاوياً حتي صباح اليوم التالي خزائنها مغلقة علي الذهب والفضة، كميات كبيرة أودعها تجار الصاغة للحصول علي المشروعية، قرب المصلحة من الخان وسوق الذهب يقلل الأخطار رغم ندرة حوادث السرقة في المنطقة للحراسة الكثيفة وإحكام الإغلاق ، عدا حوادث تقع خلال الاضطرابات العامة ، الانتفاضات، الثورات ، الشارع قديم أسمه بيت المال، يبدو انه استقر في مكان بعد زوال القصر الشرقي يستمر حتي شارع حبس الرحبة عند مدرسة جمال الدين الاستادار ، غير أن للصمت ، لذلك الخواء مدي يتوقف عنده رغم امتداد الشارع، بالتحديد عند مقهي البنان ، سواء القديم أو الحديث يخف مرور القوم، ما من مبان مسكونة ، في الليل أفضل المرور بحارة الوطاويط رغم تعرجاتها وضيقها وعتمتها شبه الدائمة ، ما أن يتم تركيب المصباح حتي يختفي بعد يوم أو أثنين ، حار الناس في ذلك حتي اعتقد بعضهم في عفريت اللمبة، أمد الخطي عبرها حتي أبلغ دكان دياب لتجارة الورق القديم، الي جواره مطعم السمك ومدخل حارة المرلي، أسم غريب لم استدل علي معناه أو دلالاته. هذا المسلك حيرني ، ولكم استعدته عند ترحالي في مختلف اطواري، لماذا بشتد ذلك الاحساس بالفراغ إلي هذا الحد كأنه مستقر الحرم، هل لارتباطه برحيل شقيقي؟ أم لخلو المباني من السكان؟ مصلحة حكومية ودكاكين لا تفتح الا نهارا وفندق تصطف داخله الاسرة كأنه عنبر في مستشفي او معتقل ، لا يصدر عنه صوت ولا ينبعث منه ضجيج. انه المكان الوحيد الذي أري فيه الصمت ، السكون الممتد ، المتصل حتي ليكاد يعني العدم. غير ان ذلك الفراغ انتج امتلاء ، لا فراغ بدون امتلاء والا ما كان اصلا هذا أو ذاك، بجوار البوابة، في الجدار الحجري الممتد نافذتان متجاورتان، مغطيان بشكبة من حديد وراءها قضبان، انه سجن قسم الشرطة دائما امر به من الخارج من هذا الطريق الصامت غير انني أراه الآن من الداخل حاجز حديدي يفصله عن بقية المبني حيث الادارات المختلفة ومكتب التجنيد، لمبات كهرباء مضاءة ليلاً ونهاراً كيف دخلت اليه ، لماذا لا ادري لكنني ارجح انه سبب يتعلق بعملي الصحفي، عندما اعتقلت اقتادوني الي مبني المباحث مباشرة المجاور لوزارة الداخلية في لاظوغلي ، مثل كل السجون المؤقتة تبدو موقوتية الاشياء في احط حالتها، الاقامة بعض الوقت تنشيء صلة بالموضع حتي لو كان سجنا او مستشفي للامراض العقلية قصدت الخانكة لزيارة اول مريض يحصل علي حكم قضائي بانه عاقل ناضل لمدة ثلاثة عشر عاما من اجل تحقق ذلك والوصول اليه، رفع القضية بعد اعتقاله مباشرة، جري ذلك لانه اراد لفت نظر السلطات المسئولة تم تجاوزه في ترقية وظيفية عندما قاربه اليأس كتب خطابا الي الرئيس جمال عبدالناصر زعيم البلاد وقتئذ، كتب علي المظروف اسماً اخر لا يخطر علي بال، جولدا مائير وزيرة خارجية اسرائيل، لم يفته تدوين اسمه وعنوانه، وهاتف البقال المجاور، دل علي شخصه، ردد اكثر من مرة اثناء جلوسي اليه انه اراد فقط لفت النظر ليأخذ حقه، غير ان بعده عن العمل السياسي افقده معرفة رد الفعل، اعتقلوه، عندما استوثقوا بعد بحث طويل انه بدون ماض شيوعي او اخوانجي انه بدون ميول سياسية قرروا اعتقاله وتحويله الي مستشفي الامراض العقلية، مجرد التحويل للفحص يتضمن اشارة الي الاطباء المتعاونين مع الامن يقررون احتجازه للعلاج يصبح من نزلاء العنبر التاسع، انه المخصص للحالات ذات الخلفية السياسية، اثناء ترددي قابلت مفكرا ومترجما شهيرا، من اعلام الماركسيين في مصر، حاد الذكاء ، متوقد الذهن ، غير انه يتوقع خطرا يستهدفه من المخابرات المركزية قال صاحبي العاقل المتزن رءوف نظمي بعد ترحال طويل في الوجود انها النتيجة التي يصل اليها البعض بعد طول تعرض للمراقبة والملاحقة لكل حده لا قدرة علي التحمل رأيته منهمكا في القراءة الي جوار سريره منضدة مغطاة بمفرش ابيض فوقها اناء تطل منه زهور افرنجية وراديو ترانزستور صناعة مصرية وكان منتشرا في ذلك الحين، اعرف ملامحه ولا يعرفني، لم أقبل عليه لكنني تحدثت مع الجار الذي يليه ، قبطي من المنيا استاذ رياضيات بحتة، عندما رأيته كان يقارب ربع قرن من الاقامة المتصلة، آخر مرة زاره من يمت اليه بصلة قرابة منذ خمسة عشر عاماً، نسوه ، ولانه مضطر ان يدفع للممرضين والفراشين خشية اضطهادهم وحقنه قسرا بالمهدئات والمواد الجالبة للنوم، اضطر الي ممارسة العمل ، اطلعني علي ثلاثة عشر كتابا ترجمها من الانجليزية وصدرت بأسماء آخرين، ونصوص مطبوعة علي الآلة الكاتبة لسبع رسائل جامعية، أربعة لزوم الدكتوراه ثلاثة للماجستير قال انه قام بذلك ومازال حتي يدبر مصاريفه، كل هذا خرج إلي الناس تحت أسماء أخري، رأي بعضهم يناقش امورا في التليفزيون قرأ عن رفع اخرين لتقارير تدير امور البلاد. علي ما أذكر اسمه مينا، من مركز صدفا باقليم اسيوط قبضوا عليه في ازمة اربعة وخمسين بسبب انحيازه الي الديموقراطية ورفضه للدكتاتورية اعتبروه مجنونا ومازال، أستعيد ابتسامته الحزينة بشكل ما . له حضور راهب ، يجلس الي جوار السرير، العنبر ممتد، الملاءات بيضاء نظيفة، النوافذ مفتوحة. البلاط نظيف، كل شيء مرتب محدد قمعت فضولي للاصغاء الي كل منهم، الوقت يكفي لإجراء الحوار المكلف به مع اول من يحصل علي براءة من تهمة الجنون بدا قوي الحضور والمقاومة التفاصيل عديدة زارني في مقر عملي وحدثني عن مشاريعه للمستقبل ، وللزواج من اخري بعد ان حصلت الاولي علي الطلاق بعد عامين من دخوله المستشفي، استعدت تأخري بعد انصراف الزوار بالضبط في تمام الخامسة فقط بقيت دقائق بعد خلو العنبر، اقتحمه الممرضون، هكذا استعيد دخولهم سحبوا اللاءات والمفارش، حملوا اصص الزهور، كل الاشياء الملطفة لجهامة العنبر ولونه الرمادي قال الرجل الذي نسيت اسمه يحتاج الامر الي بحث في الارشيف للعثور علي ما كتبته عنه ، قميص ابيض بنطلون رمادي ما يرتديه ممتلئ الي حد ما يميل الي الامام عند حديث لا ادري كيف عرفت انه عثر عليه في بيته مشنوقا قيل انه انتحر اتصل بي محام قال انه ترافع عنه متطوعا لمدة، قال إن ثمة جهات رسمية يهمها اثبات عدم دقة الحكم القضائي الصادر بصحته العقلية يمكن ان يتكرر ذلك وهذا إيذاء للطب النفسي والعصبي هكذا قال، فكرت كثيرا لكنني لم اقدم علي فعل شيء، فقط استعيد وجوه البعض خاصة الدكتور مينا ، فاتني القول انه تخرج من جامعة كمبردج في انجلتر واعتقل بعد عودته بشهرين لم يتسلم العمل في كلية العلوم جامعة اسيوط لذلك ظل بدون مورد بلا اي مصدر، دخول التمرجية المفاجيء ، لا يرد علي خاطري محبس قسم الجمالية الا واري عنبر رقم تسعة ، وهذه الانثي ، لا .. اعني صوتها فلم اقف منها علي شيء لكن قبل ايراد ما يتصل بها يلح عليّ سجن التراحيل بقسم الخليفة انه من اماكن الحصر المؤقت. لذلك يمكن ان يحدث به اي شيء انه مخصص لمن صدرت ضدهم احكام بالسجن يخرجون اليهم من المحكمة حيث يمضون يوما او يومين بدقة ليلة او ليلتين، لان كل المصائب تحدث بعد الغروب، خاصة الاغتصاب الجماعي لصغار السن، وصف صاحبنا غالب هلسا اغتصاب صبي عنوة في ليلة اقامته قبل ترحيله الي المطار لطرده الي سوريا، بعد اعتراضه علي اتفاقية كامب ديفيد ، لم اعرف هذا البناء الا من الخارج عند مروري به صباحا ونزولي عبر شارع الصليبة الي شارع الحوض المرصود ثم ميدان ام هاشم، مدخله يشبه قلعة ما، يقف امامه اهالي المساجين لعلهم يرون ابناءهم قبل ذهابهم لقضاء مدد الحبس في احد السجون الكبري، منذ ثورة يناير لم يعد له وجود اصبح طللا باليا لم يتبق الا الواجهة حاملة اثار النيران التي التهمت كل شيء حتي قسم الخليفة المجاور، اعود الي ميدان بيت القاضي، اجتياز البوابة ، التفاتي الي قبة قلاوون ، شارع مستقيم فتح منذ حوالي مائة عام، اتوقف عند نفس النقطة التي تمكنت عندها من التدثر بصوتها ، منها تسربت نغماته الي كل شيء كادت الاحجار ان تنجب منه، يا لغرابة ذلك. ما بين الرفاعي والسلطان حسن تهجرني الموجودات إلي الشرق مآذن وقبة مسجد محمد علي يعتلي القلعة كلها، يختزلها ويلخصها، مشرف، مهيمن، قرب مستوي الأرض باب العزب، نوافذ المعتقل المستطيلة، المتجاورة، هكذا يبدو من هذه النقطة، الآن خالياً، أُعد كمتحف، كأني لم أمكث فيه أكثر من شهر، لم أكد ألقي حتفي فيه، ربما لأنني لا أرغب تذكر أيامي التي انقضي علي مرورها الآن أكثر من أربعة عقود، كل مكان عرفته، كل زمان مررت به حننت إليه، استعدته في وعيي أو حلمي، باستثناء السجن، لم أحلم به قط، لم أستعده إلا في حكاياتي مع من زاملتهم فيه يوماً، لا يكون هدفاً، إنما يجيء عرضاً. لم أعرف موضعاً في الدنيا يماثله في كثافة الشعور بالوقت، خاصة بعد الزوال، مع العصر، أما دنو الغروب فلو قدر له أن يدركني هنا فلا أقدر علي تحمله، أنوء به ويتواري حضوري حتي يتقلص إلي أقل من مقدار ذرة، غير أنها كثيفة، لا قبل لإنسان بها لذلك أفر، ليس من الموضع، إنما من حواسي، من كينونتي، وهذا من أصعب أحوال الوداع، أن يودع المرء نفسه بنفسه، أي ينأي عن وقته قسراً، يحيد عن الجوهر، عن لُب المسار، ليست الحياة المحصورة بين بداية ونهاية إلا انتقالاً مستمراً، من لحظة إلي لحظة، من وقت إلي وقت، وكل انتقال وداع، غير أنني لا أعي، أنا لا أنتبه، لكن في ميدان القلعة تدركني شتي حالات الوداع، عندما أقف بين المدرسة والمسجد مولياً ظهري لشارع محمد علي المنحدر إلي شارع الخليج بورسعيد الآن حيث دار الكتب ومتحف الفن الإسلامي، نزولاً إلي ميدان العتبة الذي يطل عليه مبني البريد، والمطافئ، وفندق البرلمان، والمسرح القومي، شارع مستقيم شق المدينة القديمة، عند بدايته كان عريضاً، أنيقاً بمقاييس الوقت، لاتزال بقايا بعض الأشجار التي غرست علي الجانبين، أما البوائك الحجرية التي استهدف علي باشا مبارك أن تكون نسخة من شارع ريفولي في باريس، فقد انهار بعضها، وأزيل الآخر، وبقي منها المفرد غير المتصل بشيء، بقايا أسنان في فم مريض، في نهاية القرن التاسع عشر مد خط للترام فيه، يبدأ من الإمام الشافعي وينتهي في السبتية قرب النيل حيث مقر مصلحة الكهرباء، عندما تنقطع الكهرباء عن إحدي مناطق المدينة يقول الناس لابد أن الفأر قرض السلك هناك، من هنا جاءت عبارة »فأر السبتية« التي ظلت لزمن الستينيات مثار تندر ومصدر أفكار كاريكاتورية، للصحف السيارة، عربات الترام كانت مفتوحة من الجانبين، داخلها دكك طولية تتوالي حتي الجزء المغلق الحاوي لدكتين متقابلتين، هذا مخصص للحريم، أما مكان السائق فمعزول من الجانبين، كان السائق يرتدي حلة صفراء، من الصوف في الشتاء، ومن القطن صيفاً، يغطي الرأس بطربوش طوال العام، في الحر الشديد يضع تحته فوطة محلاوي حمراء، مقسمة إلي مربعات صغيرة، يمتص العرق، عرفت هذه المركبات المفتوحة، بلجيكية الصنع، بالتحديد في مدينة شارلروا، لماذا أذكر اسمها وقد غابت عني أماكن حميمة أمضيت فيها أوقاتاً تركت عندي أثراً، لكنني لا أستعيدها، لماذا أذكر شارلروا الآن مع أنني لا أعرفها ولم أطأ أرضها ولم أتنفس هواءها وفي المؤكد أنني لن أبلغها، ماذا يحكم الذاكرة؟، لماذا تبقي علي هذا وتنفي ذاك؟ لا أدري، ركبت هذا النوع علي خط آخر كان يبدأ من جنوبالمدينة، بالتحديد من المذبح، حيث تنحر الذبائح وتمهر بالخاتم الرسمي دليل خلوها من الأمراض وصلاحيتها للاستهلاك الآدمي، ويعرف الموضع باسم آخر، »السلخانة« كان رقم الخط 22 وينتهي في العباسية، يمر بشارع الخليج العرضي والذي رصف بعد ردم الخليج الذي كان يمد القاهرة بالماء حتي عام عشرة وتسعمائة وألف، فقد وظيفته بعد أن مدت شركة إيطالية خطوط المياه والغاز إلي سائر أنحاء المدينة، هكذا انتهي عمل السقائين الذين استمروا قروناً ينقلون الماء في قرب الجلد المراقبة جيداً من إدارة المدينة علي ظهور الجمال والبغال والحمير، جفت الأسبلة التي كان إنشاؤها من أجل أعمال الخير، تحولت إلي منشآت مهجورة يجري الحفاظ عليها من البلي للفرجة، مع ازدحام المدينة تباطأت حركة الترام، بعد أن استمر كوسيلة سرعة، صار عبئاً، بدأ اقتلاعه شيئاً فشيئاً، أزيل من شارع محمد علي في نهاية الستينيات، أوائل الثمانينيات أجريت عملية ترميم للمدرسة والمسجد، أعيدت صياغة المنطقة، أغلقت المسافة الفاصلة علي العربات، ولم يعد الترام القديم يمر إلا عبر رؤاي، الأسلاك معلقة في الفراغ، منها تستمد المركبات الطاقة، ما يصل بينهما السنجة، تحيلني إلي الشراع، غير أنها مجرد عصا طويلة مائلة تنتهي بعجلة حديدية تحتوي السلك فيما بينها، الخطوط لا تزال ماثلة، رقم اثنين وعشرين يبدأ من المذبح وينتهي في العباسية، ترتجف مركباته المفتوحة عند تدفقها في مخيلتي، تمر بشارع الخليج الذي أصبح اسمه شارع بورسعيد، وكان ذا أهمية، يبدأ من الجنوب إلي الشمال، أو من الشمال إلي الجنوب، قديم عندي، انتقلت به خلال دراستي بالعباسية الثانوية الفنية، جري ذلك بين عامي تسعة وخمسين، واثنين وستين، أي منذ نصف قرن تقريباً، ياه عبرتني الأوقات بسرعة، يخطر لي أحياناً رغبتي في العودة، فقط أطل طلة، لا أسعي إلي إقامة. من ديوان الشعر العربي إن الزمان الذي مازال يُضحكنا أُنساً بقربهم قد عاد يبكينا »ابن زيدون«