رحلة طويلة تقارب النصف قرن مع بورسعيد، عرفتها مزدحمة، وعرفتها خاوية، مجاهدة، صامدة، وفي كل الاحوال لا تستحق ما يجري لها الان كأن ذلك جري بالامس اللحظة الاولي لوصولي بورسعيد عام ثلاثة وستين من القرن الماضي، لا يمكن للمرء ان ينسي لحظة لقائه الاولي بأنثي جميلة او جذبته بدرجة ما، كذلك المدن، عندما وصلت المدينة ورحت ابحث عن عنوان فندق صغير في الحي الافرنجي، واجهته من خشب، كذا شرفاته، قريب من مدخل قناة السويس، للاسف، لا استطيع تحديد موقعه الان. ربما يكون ما زال قائما، ربما ازيل، ربما تغير الي نشاط آخر، لم اكن في حاجة الي قضاء وقت حتي اتكيف مع المكان، ألفته علي الفور ومنذ ذلك الحين بدأت حميمية العلاقة بيني وبين المدينة وما تزال. شعوران سيطرا عليّ عند وصولي الي بورسعيد. الاول هو احساسي انني بلغتها من البحر رغم انني جئت اليها عبر البر. ركبت من القاهرة حافلة قطعت جزءا من الطريق بجوار قناة السويس، وعندما طالعني مشهد السفن الضخمة المنتظمة في قافلة العبور رحت احاول استيعاب المشهد الجديد بالنسبة الي، واحساسي بالبحر يزداد قوة، لم يفارقني ذلك حتي اليوم، كلما بلغتها كأني جئت اليها عبر البحر. من البحر والي البحر أكون. اما الشعور التالي فبدأ عندما رحت اتجول في شوارعها، شارع الميناء »فرانسوا جوزيف سابقا«. شارع الجمهورية. شارع محمد علي الذي يصل شطري بورسعيد. الحي الافرنجي والحي العربي. شعور انني اتجول في مكان يخصني، في بيتي، وان تلك الشوارع ليست الا ممرات في فناء كبير يقوم في ركن منه مأواي، ربما يكون بيتا، ربما يكون فندقا، ربما يكون مقهي مثل مقهي البوسفور اقدم مقاهي المدينة، او مطعما انيقا مثل مطعم جيانولا القديم الذي انشأه احد السويسريين الذين عاشوا في المدينة مع ابناء جنسيات اخري كانوا يشكلون معا هذا التفاعل الانساني والثقافي الذي اضفي علي المدينة خصوصيتها، اقوي ما بقي من هذا التفاعل العمارة، عمارة بورسعيد الخاصة التي لفتت نظري بفرادتها، تلك الواجهات الخشبية المستندة الي اعمدة مزروعة في الارض، الزخارف المنحوتة بها، المشربيات البورسعيدية التي لا يوجد مثلها في اي مكان آخر، هذا التخطيط الدقيق للمدينة، تتقاطع الشوارع. تتجاور لكنها تؤدي الي بعضها البعض، الي البحر، وعند نقطة معينة يقوم مبني هيئة قناة السويس كأنه المرجع والمآل لكل ما فيها من عمارات ومبان بقبته البيضاء وطرازه المتميز، صار هذا المبني جزءا من تاريخنا القومي، واحد اركان الذاكرة، قبتان لا تغربان عني ابدا. قبة جامعة القاهرة وقبة مبني الهيئة لطالما حيرتني خصوصية العمارة البورسعيدية. لطالما حيرتني الواجهات الخشبية ان في الحي الافرنجي او العربي، تمر المدينة الرائعة بظروف وعرة الان ، تعاقب مثل المدن التي كانت تستباح من الغزاة ، ولكن الغزاة اجانب ، اما الان فالعقاب لما جري فيها، لما لا ذنب لاهلها فيه، تماما كما عوقبت بعد حادثة المواطن العاطل البسيط. العربي الذي حاول تقديم طلب ليعمل كما جرت العادة عند اهل المدينة زمن عبدالناصر، لكن لم يدر المسكين ان الزمن تغير ، فتحول جسده الي مصفاة برصاص الحرس. تاريخ خاص تمتد بورسعيد بأزمنتها عندي، ترتبط بتاريخي الشخصي وتاريخ وطني، المرحلة الاولي بالنسبة لي تمتد بين العامين 1963 - 1967 في تلك السنوات كانت بورسعيد تفيض حيوية، ما تزال محتفظة بطابعها الاقرب الي الوصف الذي طالعته فيما كتب عنها، حيث التنوع الانساني والثقافي ورغم هجرة العديد من الاجانب بعد عام 1956 الا ان كثيرين منهم بقوا ورغم حداثة المدينة نسبيا بالنسبة للمدن المصرية العتيقة، فإن ملامح خاصة تكونت للبورسعيدي الصميم، نستطيع ان نلمحها في اللغة، في مفردات الالفاظ، في طريقة التعبير، في الفن الشعبي الخاص بالمنطقة، اغاني السمسمية والطنبورة والرقصات ذات المضمون الفريد التي تعكس الصلة بالبحر والظروف الخاصة بعمل البمبوطية، ينحدر ابناء بورسعيد من اصول تمت الي مناطق مختلفة من مصر، بينهم احفاد العمال الذين حفروا قناة السويس واستقروا في المنطقة، ونسبة كبيرة منهم جاءوا من الصعيد، وآخرين جاءوا من دمياط القريبة، المطلة علي البحر الابيض ايضا، والتي صارت مدخلا الي بورسعيد في سنوات الحرب بعد ان قطع الطريق المحاذي للقناة منذ عام تسعة وستين مع بدء الاعمال القتالية التي شكلت حرب الاستنزاف والتي توقفت عام سبعين والف وتسعمائة، ورغم توقف اطلاق النار حتي اكتوبر عام ثلاثة وسبعين، عندما بدأت حرب اكتوبر، فقد ظل الطريق الي بورسعيد عبر دمياط بالنسبة للمدنيين، وللتحركات العسكرية ذات الطبيعة الخاصة، كانت المنطقة الواقعة بين الاسماعيلية وبورسعيد قد تأثرت بالقصف الجوي الاسرائيلي الكثيف واذكر انني رأيت منطقة الكاب القريبة من بورسعيد وكأنها جزء من ارض القمر المليئة بالثغرات والفوهات كان القصف الاسرائيلي بقنابل ثقيلة من زنة الالف رطل والالفين. كان انفجار هذا النوع يشبه انفجارات ذرية صغيرة. يونيو والتحول حتي يونيو عام سبعة وستين كان ترددي علي المدينة بدافع اكتشاف خصوصيتها التي نفذت الي وجعلتني اشعر بالفة مع المكان سواء في الحي الافرنجي الذي كان ما زال يحمل بقايا المدينة الكوزمو بوليتية متعددة الثقافات، والحي العربي الحميم الفريد بعماراته ذات الواجهات الخشبية ورائحة السمك المشوي التي يبدأ تصاعدها قبل الظهيرة، احتفظ في ذاكرتي برائحة السمك المشوي من اماكن عديدة مطلة علي البحر لكن ثمة خصوصية داخل الذاكرة لرائحة اسماك بورسعيد وذلك الشواء لم اعرف مثيلا له يعرف البورسعيديون اسماك البحر جيدا ولهم طرائق فريدة في اعدادها، ورغم انني طفت مدنا عديدة مطلة علي البحر الابيض فلم اعرف مثيلا للطهي البورسعيدي الخاص بالسمك. خاصة اذا اتيحت الفرصة وتم تناول الطعام مع اسرة بورسعيدية اصيلة. من الاسماك المفضلة التي لم اعرف لها مثيلا في اي مكان آخر نوع صغير من الحجم. في حجم راحة اليد، اسمه الشبار. ويعيش في المياه غير السريعة بالبحيرت، خاصة بحيرة المنزلة، سمك غزير اللحم، شاهق البياض من الداخل، يؤكل مع الارز المفلفل، كنت اتجول في الشوارع المتقاطعة المؤدية كلها الي البحر وكانت المسافة وقتئذ بين البحر والمباني فسيحة. كنت اجلس عند رصيف عمارة لويس كلافيتش الشهيرة باعتباره آخر حد المدينة. فأري البحر الآن تسد المباني الرؤية إليه . عبور القناة وكان عبوري القناة تجربة فريدة، العبارات التابعة للهيئة والتي ما تزال تعمل حتي الان، تنقل السيارات والدراجات والبشر، ما بعد الظهر وقت الذروة، خاصة في السادسة بالنسبة لي انا الجنوبي كان النيل يعني بالنسبة لي البحر. ولكنني مع الترحال رأيت البحر الاكبر، والانتقال من بورسعيد الي بورفؤاد يعني الانتقال الي قارة اخري، الي اسيا، لم يكن لي اصدقاء في ذلك الوقت بضاحية بورفؤاد الاوروبية الطابع، ذات المنازل الانيقة من طابق واحد. كنت اتجول في طرقاتها بدون هدف محدد امشي لساعتين او ثلاث، يتعمق عندي الشعور انني وصلت الي مكان مغاير. مختلف في بورسعيد يمدني الحي البلدي بالالفة خاصة شارع محمد علي الذي يقوم بدور الوصلة بين الافرنجي والبلدي. والمقاهي هي الاماكن المفضلة عندي. فيها سمعت لاول مرة كلمة »البوري« او »المصري« ويطلقان علي النرجيلة التي يتم تدخين المعسل فيها، هذه التوليفة المصرية الخالصة التي انتشرت الآن في العالم كله، شارع محمد علي باقواسه التي تذكرني بشارع محمد علي في القاهرة، وكلاهما له مرجعية استند اليها علي باشا مبارك الذي وضع اساس القاهرة الحديثة في منتصف القرن التاسع عشر، انه شارع ريفولي في باريس والذي قدر لي ان اشهده لاول مرة عام تسعة وسبعين من القرن الماضي. الشارع الباريسي ما زال يحتفظ باقواسه كاملة حتي الان، ولكن الشارع القاهري فقد معظمها. اما البورسعيدي فما زال يحتفظ بالعديد منها، مكاني المفضل مقهي البورصة اقدم المقاهي البورسعيدية كما يؤكد مؤرخ المدينة ضياء الدين حسن القاضي. حتي عام سبعة وستين كانت علاقتي بالمدينة علاقة اكتشاف للفرادة وللخصوصية، لكن هذه المدينة الآمنة، وهؤلاء البشر اللطاف الذين ما زلت احب الاصغاء الي لهجتهم ذات الايقاع الخاص جدا والتي لا ادري متي اتقنوها او متي اوجدوها رغم انهم جاءوا من اماكن عديدة من داخل مصر، تكامل الشخصية البورسعيدية واتخاذها سمات خاصة بها خلال فترة زمنية قصيرة من الامور التي أرجو ان تدرس بعناية ودقة. خاصة ان البورسعيديين لم يكتفوا باللهجة وخفة الحركة انما اوجدوا تراثهم الشعبي الخاص بهم. المتميز جدا. هؤلاء الناس الذين ارتبطوا بمدينتهم ارتباطا عميقا، وما زلت اذكر ايقاع جملة قالها لي صياد عند شاطئ البحر. ذات يوم من احدي سنوات الستينيات. قال لي »احنا البورسعيدية متربيين علي طبلية أهالينا«. حتي يونيو سبعة وستين كانت الحياة تمضي بشكلها البورسعيدي الحميم، ولكن مع حلول الخامس منه بدأت الايام الوعرة، وقدر لي ان أعيشها بتمامها وجميع تفاصيلها لكن تلك قصة أخري. في مرمي العدو بعد انتهاء حرب الأيام الستة، يونيو عام سبعة وستين، أصبحت مدينة بورسعيد في المرمي المباشر للأسلحة الخفيفة التي كان الجيش الإسرائيلي المعادي يصوبها من مواقعه في سيناء التي احتلها عدا مساحة صغيرة من الأرض، عشرة كيلومترات شرق القناة لم تستطع قواته احتلالها وعندما حاولت في الثلاثين من يونيو، أي بعد وقف إطلاق النار بحوالي عشرين يوما تمكنت قوة من المشاة المصريين قوات الصاعقة إيقاف تقدم المدرعات الإسرائيلية عند منطقة رأس العش جنوب شرق بورسعيد بعشرة كيلومترات. وبذلك نجت مدينة بورفؤاد التي تقع في الشرق من الاحتلال. في الشهور التالية ليونيو، سافرت إلي بورسعيد، كنت مازلت أعمل في مؤسسة التعاون الإنتاجي كأخصائي سجاد، لم يبدأ عملي بعد في الصحافة، كان سفري محاولة للاقتراب من المنطقة الساخنة، من جبهة القتال، تلك الجبهة التي سيقدر لي أن أعمل فيها مراسلا حربيا بعد فترة قصيرة. عندما سافرت إلي بورسعيد كان وقف إطلاق النار ساريا، ولكن ثمة خروقات تقع بين الحين والآخر، كان الطريق المحاذي للقناة مفتوحا، لم يغلق بعد، مازلت أذكر ذلك الحذر الذي يصل إلي حد الخوف علي ملامح السائق وهو يتطلع إلي الضفة الشرقية حيث جيش الاحتلال الإسرائيلي، كانت رؤية العلم الإسرائيلي مؤلمة جدا لي إذ يرتفع فوق أرض مصرية، لم أكن رأيت ذلك العلم إلا في الصور ونشرات الأخبار المصورة، ولكن أن أراه فوق أرض مصرية، فكان ذلك يمثل ذروة القهر وقتئذ، اللحظة المقابلة حلت بعد ست سنوات، لن يفهمها إلا من عاش اللحظتين، عندما بدأ الجيش المصري حربه التحريرية في السادس من أكتوبر، ثم انتزاع تلك الاعلام الإسرائيلية ورفع الاعلام المصرية من خلال القتال الذي استهدف دحر المحتل، لحظتان لن يدرك عمقهما إلا من عاشهما بالفعل، ولن يفهم معاناة أهالي بورسعيد بعد يونيو إلا من اقترب منهم، وقد اقتربت وعايشت. في تلك الزيارة رأيت وأحسست بالروح الوطنية العالية التي تميز أهالي بورسعيد، صحيح ان الحياة اليومية تمضي عادية، لكن المدينة بأكملها أصبحت تحت نيران العدو الذي لا يبعد عنها إلا عشرة كيلومترات إلي الشرق. وتعرضت بورسعيد بالفعل للقصف، واستشهد عدد من مواطنيها، وفي بداية عام تسعة وستين اتخذت القيادة السياسية والعسكرية قرارا بتهجير اهالي مدن القناة الرئيسية بعد أن بدأ العدو توجيه نيرانه إلي المدنيين، وكانت لحظات مؤلمة في تاريخ مدن القناة، قُدر لي أن أشهد بعضها في بورسعيد، كان الرجال والنساء والأطفال يذرفون دمعا، وقبل صعودهم إلي الحافلات التي ستقلهم إلي البلدان والقري التي ستأويهم مددا لم تكن معلومة وقتئذ بالدقة، كانوا ينحنون لتقبيل الأرض، وكانت ايديهم تقبض حفنات من ترابها في محاولة أخيرة للتشبث بالذكريات، والمدينة التي صارت جزءا منهم وصاروا جزءا منها. بدأ عملي في الصحافة، منتصف عام تسعة وستين، وفي سبتمبر من نفس العام قمت بأول رحلة صحفية إلي بورسعيد التي كان قد تم تهجيرها من أهلها، جئت إليها عبر دمياط، فقد أصبح طريق القناة تحت القصف اليومي، وفيما تلي ذلك عندما تفرغت لعملي كمراسل حربي صرت أتحرك عليه كثيرا وأقضي الليالي في مواقع عسكرية قريبة جدا من مياه القناة، رغم ترددي عشرات المرات علي بورسعيد خلال حرب الاستنزاف (9691 - 0791) وخلال وقف اطلاق النار حتي بدء حرب أكتوبر (0791 - 3791)، فإن زيارتي الأولي كصحفي بعد تهجير أهلها تركت عندي أثراً عميقاً لم يمح، مازلت أذكر لحظة وصولي إلي المدينة التي فوجئت بها خاوية، المباني مغلقة، الحركة محدودة جدا في شارع محمد علي. كان عدد من تبقي في المدينة من المواطنين، ثلاثة آلاف فقط، بينما هاجر ما يقارب ثلث المليون إلي أماكن بعيدة، أما الوحدات العسكرية فكانت تنتشر حول المدينة، كانت شوارعها شرايين عبور فقط بالنسبة للمركبات العسكرية واتخذت بعض الوحدات الإدارية مواقع لها في مبان عامة، عدد المقاهي المفتوحة محدود، بعض المطاعم لم يغلق أبوابه رغم انعدام الزبائن تقريبا، إلي جانب بعض المطاعم الشعبية، لم يغلق مطعم جيانولا »صاحبه سويسري الأصل«، بقي كذلك بعض البورسعيديين الذين لم يتصوروا إمكانية ان يعيشوا بعيدا عن المدينة، تحتفظ ذاكرتي بمشاهد عديدة للطرق شبه الخالية، لعتمة الليل التي لا تبددها إلا بعض الأضواء الخافتة، حضور البحر القوي، رائحته القوية.
بورسعيد خاوية أي مكان بدون بشر يثير الوحشة والاسي، وبورسعيد زمن الحرب بدون ناسها كانت تبدو أكثر وحشة ، ذات ليلة زمن حرب الاستنزاف، كنت عائدا من موقع متقدم في الشرق بصحبة زميلي مكرم جاد الكريم المصور الصحفي الشجاع ورفيق أيامي في الجبهة. شوارع خاوية، ممتدة، يتضاعف فراغها، واجهات البيوت مظلمة، صامتة، ثمة شيء إنساني في ملامح بنيانها يشي بأسي دفين، وحنين إلي من سعوا بها ويعيشون بعيدا مجبرين، من السيارة لمحنا دكانا مضاءً في شارع جانبي، طلبت من السائق ان يتمهل، ان يعود إلي المحل. محل حلواني، لافتة مضاءة بالنيون »حلواني عوكل«. حلواني في المدينة الفارغة، المهجورة، ومضاء ليلا، كنا قرب الفجر، ولم يكن حوله أي دكان مضاء، بمفرده، ترجلت من العربة وتقدمت من المحل، لمحت بداخله خلف دولاب العرض المستطيل رجلا نحيلا ربما تجاوز الأربعين، يرتدي نظارة طبية معدنية الإطار، كان أشبه بطبيب دقيق، قام واقفا، لم يبد عليه أي اثر للنوم، عرفته بنفسي وبزميلي، ولم أخف دهشتي من بقاء الدكان مفتوحا حتي هذه الساعة، أي زبون ينتظر في مدينة فارغة . قال لي عوكل : إنه رفض الهجرة وبقي ليقدم الحلوي للمقاتلين العابرين .. تري أين عوكل الآن ؟!. في مطعم جيانولا التقيت ب »الدكتور« .. هاجر أولاده إلي أوروبا -لا أذكر اسم البلد الآن- ومنذ سنوات توفيت زوجته، يعيش وحيدا، لقد لف العالم من خلال عمله قبطانا، قاد أنواعا مختلفة من السفن قبل ان يتقاعد، ويمضي ما تبقي له من عمر في بورسعيد، ثم قامت الحرب، جميع أصحابه هاجروا، لكنه رفض ان يمضي إلي مكان بعيد لم يعتد عليه، لم يصبح جزءا منه كبورسعيد، انه يعيش في شقة بمفرده، في عمارة مجاورة »فندق الغزل« وقتئذ كان اخر حد البناء، ثمة مساحة خالية منطلقة إلي البحر »الآن كلها مبان«، قال انه يجيئ يوميا إلي جيانولا ليمارس هوايته. سألته عن هوايته. اشار إلي نماذج عديدة من السفن، نماذج متقنة لمواكب شراعية، وسفن ركاب حديثة وناقلات نفط، وبضائع، وقوارب صغيرة، من كل الأنواع كان يحلم بالسفر، بالرحيل مع مدينته، هو يحتويها وهي تحتويه، لقد لف بحار العالم والآن يطوف المجرة من خلال بورسعيد، هكذا اذكر الرجل الذي غابت ملامحه عن ذاكرتي. وأذكر المئات من الذين صمدوا وتألموا .هكذا أري المدينة التي ماتزال تحتفظ بروحها الخبيئة رغم كل التشوهات، والصعوبات وأشكال العقاب التي تحاول ايذاءها، مدينة مثل بورسعيد تستحق التمجيد لا العقاب، خاصة انها بريئة من كل ما يلصق بها. من ديوان الشعر العربي قال الأبنودي في قصيدته »أمشير « مهاجر.. مهاجر غضوب النفس والعيون والحناجر ولا يقول يا ساتر ولا يخلي ساتر يقفل ويفتح بيبان البنادر يقلّع خيام العساكر يحوم تذاكر المسافر يعري البنات في الميدان في النهار يقول كلمته في كل شبر لا هو متكتكاتي وماهر ولا هو بيقرا وشاطر ولا هُو ولا هُو ولا مين اله وعمره ما ييجي في ايده كتاب وعمره ما ييجي في وشه ملامح نجس ولا طاهر لفين ولا من فين مهاجر كأنه اتولد جوا قلب التراب »من ديوان الفصول« 7691