كان «خروشوف» الرجل الاستثناء فى تاريخ القادة السوفيت، بمثل ما كان «جون كينيدى» فى الولاياتالمتحدةالأمريكية. وكان بإمكان العالم العربى أن يستفيد كثيراً لو بقى أىٌّ من الرجلين فى موقعه، غير أن «خروشوف» سرعان ما تم إقصاؤه، و«جون كينيدى» جرى اغتياله. وربما لو لم يوجد الرجلان فى ذلك العصر معاً، لفقد الزمن السياسى وقتها الكثير من جاذبيته وحضوره. (1) يذكر السفير «مراد غالب» سفير مصر الأسبق لدى الاتحاد السوفيتى والصديق العائلى لأسرة «خروشوف»، أن الزعيم السوفيتى جاء ليمثل ثورة جديدة فى الاتحاد السوفيتى، وفى الحزب الشيوعى الحاكم، فهو أول من كشف أخطاء «ستالين» والجرائم البشعة التى ارتكبها، وعمل على إرساء شكل جديد من العلاقة بين الحزب والشعب السوفيتى، وكان حريصاً على لقاء العلماء السوفيت بانتظام ومقيماً لعلاقات شخصية معهم، يلتقيهم فى غداء أو عشاء يستمع إليهم ويتبادل الرأى معهم. إذ كان «خروشوف» يرى أن التكنولوجيا هى المخرج للاقتصاد السوفيتى من التخلّف إلى التقدّم. ويكمل السفير مراد غالب فى مذكراته: حين أتأمل ما جرى للاتحاد السوفيتى بعد ذلك بسنوات، فإننى أتذكر ما كان «خروشوف» يردّده باستمرار عن اقتناعه بأهمية العلم والتكنولوجيا فى أن تلحق بلاده بالولاياتالمتحدة من حيث التقدّم، وكان ل«خروشوف» مقولته الشهيرة للأمريكان: «سوف ندفنكم»، وقد فهم الأمريكيون المقولة على أنه يقصد فناءهم، لكنه كان يقصد أنه سيحقق تقدماً اقتصادياً وعلمياً يدفن النموذج الأمريكى. وكان الرئيس الأمريكى «نيكسون» أكثر الرؤساء الأمريكيين فهماً ل«خروشوف» وإعجاباً به، ويعتبره أذكى من تولى الحكم فى الاتحاد السوفيتى، خاصة بالنسبة إلى من جاءوا بعده. وحدث أن قال لى -يحكى «مراد غالب»- علماء فى أكاديمية العلوم السوفيتية إن لدينا أبحاثاً خطيرة للغاية، لكنها حبيسة أدراج المكاتب، منها أبحاث عن أجهزة تصيب كل معدات الرادار وأجهزة التوجيه بالشلل التام. لكننا ليست لدينا القوة التكنولوجية التى تملكها أمريكا، والتى تساعدنا على تحويل ما لدينا من اكتشافات نظرية إلى أجهزة ومعدات عملية. ومرة سألت -يستطرد «غالب»- أستاذاً للرياضيات بجامعة موسكو عن انطباعه بعد عودته من زيارة للولايات المتحدة، فقال لى كلمة واحدة: «التكنولوجيا». (2) إلى جانب رؤيته للعلم كان «خروشوف» جاداً فى الإفادة من دروس السياسة، وينقل «مراد غالب» عن «خروشوف» فى حديث جرى بينهما فى عقب أزمة الصواريخ الشهيرة قلقه على مستقبل العالم إذا ما تهورت القوى العظمى وافتقدت المسئولية.. قال «خروشوف» ل«غالب»: إن «الموقف الدولى يحمل عناصر إيجابية وعناصر سلبية، فلقد كان العالم على وشك مواجهة حرب نووية تدمر كل شىء، واستخلصنا من هذه المواجهة درساً بأن علينا ألا ندفع بالعالم إلى حافة الدمار الكلى لكوكب الأرض. إن الولاياتالمتحدة من جانبها قد وعت هذا الدرس جيداً، والبعض من السياسيين الأمريكيين الكبار قالوا لى لقد كنت حكيماً، لأن أى خطأ كان يمكن أن يدمر الكرة الأرضية. أما عن العناصر السلبية فما زال فى العالم الكثير من القنابل الهيدروجينية والذرية ولا أحد يعلم الظروف التى قد تأتى فى المستقبل، وربما يقع ما يُسبب توتر العلاقات الدولية بدرجة مخيفة. (3) سألت الرئيس «بن بيللا» عن الزعيم السوفيتى «خروشوف»، فقال: «كان شخصية خصبة، كان أخصب من (كينيدى)، وكان عفوياً، ولم يكن عنده كلام المتحذلقين، وكانت عفويته مفرطة ومذهلة وكانت تركيبته الشخصية طبيعية وجذابة». ويكمل «بن بيللا»: «إننا نقدّر ل(خروشوف) تهديده دول العدوان الثلاثى، باستخدام السلاح النووى إذا لم يخرجوا من مصر، واضطرهم بذلك إلى الركوع، كما نقدّر له دوره العظيم فى بناء السد العالى فى مصر، وفى تسليح ودعم حركات التحرّر الوطنى».. «لكننى كنت ذات مرة سأتركه وأذهب إلى المطار، لأنه هاجم (عبدالناصر) بسبب اعتقال (عبدالناصر) للشيوعيين». وكان رأى «خروشوف» أن «عبدالناصر» يحصل على دعم موسكو، لكنه يعتقل الشيوعيين فى بلاده، وهذا نكران وجحود، واتهم «خروشوف» العرب عموماً بعدم الوفاء. (4) ويسرد السفير مراد غالب ما جرى بين «خروشوف» و«بن بيللا»، قائلاً: «فى أول مايو 1964 كان (خروشوف) فى مصر لافتتاح المرحلة الأولى من السد العالى، وكان فى الاحتفال أحمد بن بيللا وعبدالسلام عارف. وقد دارت أحاديث متنوعة بيننا ونحن نسير على السد.. (عبدالناصر وخروشوف وبن بيللا) وأعضاء مجلس قيادة الثورة وأنا. تحدث (خروشوف) عن الحركة الشيوعية ودافع عن دورها فى حركات التحرير ومساعدته لها ودور الشيوعيين فى تحرير الشعوب. ولكن (بن بيللا) استوقفه ليرد عليه، وأشار بيده ناحية جمال عبدالناصر، وقال: أقول لك بكل صراحة: لولا هذا الرجل ما كنا استطعنا أن نقوم بالثورة فى الجزائر. إن الحزب الشيوعى الجزائرى كان يدافع عن ضم الجزائر إلى فرنسا، لأن هذا كان رأى الحزب الشيوعى الفرنسى. وأنا لا أنكر مساعدتكم لنا، التى كانت تأتينا عن طريق مصر، لكن أريد أن أؤكد أن هذا الرجل، وأشار مرة أخرى إلى (عبدالناصر) هو صاحب الفضل فى قضيتنا». ويتابع «مراد غالب» الرواية منتهياً: «لقد دارت بعد ذلك أحاديث كثيرة عن السد العالى واستصلاح الأراضى ومشكلة الإسكان.. ولاحظ (عبدالناصر) أن (خروشوف) كان محتضناً (بن بيللا)، رغم ما قاله عن دور الشيوعية!». على أى حال لم يمكث «خروشوف» فى السلطة طويلاً.. فقد اجتمعت اللجنة المركزية فى جلستها الشهيرة لمحاسبة «خروشوف» على ما اعتبرته سياسات خطيرة غير مقبولة وقررت عزله عن منصبه، وبادرت القيادة الجديدة التى خلفته فى الحكم بتصفية جميع إصلاحاته، ودخل الاتحاد السوفيتى مرحلة الجمود.. (5) سألت «بن بيللا» عن المشهد الختامى فى حياة «خروشوف» سياسياً.. فقال: «يوم أقالوه كان غائباً، فقد اجتمعوا وأقالوه، وجاءت (الترويكا) لتحكم.. وفى ذلك الوقت كنت لا أزال فى السلطة، ورفضنا مقررات الحزب الشيوعى بإقصائه، ورفضنا (الترويكا) التى جاءت بعده فى الحكم».. «حين أنظر الآن إلى (خروشوف) أشعر.. كم كان الرجل إيجابياً وفعالاً.. وكم خدمنا كثيراً فى العالم العربى».