فى هذه الحلقة يمضى خروشوف في رحلة الذاكرة ليوضح وجهة نظره فى الشيوعيين بوجه عام بغض النظر عن انتماءاتهم القومية، وكشف عن انه ما دام السيد الرئيس هو الذي طرح هذه القضية فانه يجد لزاما عليه ان يقول ان كل الشيوعيين اذا كانوا شيوعيين حقا، متساوون لانهم ينطلقون في معتقداتم من مبادئ النظرية الماركسية اللينينية. وقال انه ذكر لعبد الناصر انه اذا كان يعتبر الشيوعيين السوفييت ،شيوعيين جيدين واولئك الشيوعيين الاخرين سيئين فانه يكون مخطئا في ذلك. واعاد الى الاذهان بعضا من تاريخ بلاده بما في ذلك ما جرى ابان حكم القيصر وما فعله لينين للاطاحة به على راس مجموعة صغيرة من الجسورين الشجعان. واشار الى ان عبد الناصر قال له آنذاك انه لا يريد تعددا للأحزاب وانه سوف يكتفي شان الحال في الاتحاد السوفييتي بحزب واحد وهو «الاتحاد القومي». وقال خروشوف انه صارحه بان هذا المثال غير موفق، لانه يوجد في الاتحاد السوفييتي حزب واحد لان المجتمع هو مجتمع اشتراكي لا يوجد فيه راسماليين وكبار ملاك ولا يوجد اناس يعيشون على حساب استغلال الاخرين. كما ان الحزب الشيوعي السوفييتي يعبر عن مصالح كل الكادحين وكل الشعب عمالا وفلاحين وانتليجينسيا. وتوقف خروشوف عند ما سبق وقاله حول انه اورد مثالا قال فيه ان الشعب المصري فيه مسلمون مؤمنون وعمال ورأسماليون، وانه سأله عن اي من هؤلاء يؤيد الرئيس عبد الناصر وهو ما لم يجب عليه. وخلص خروشوف في هذه النقطة عند سؤاله عبد الناصر عمن يقف الى جانبهم من هؤلاء العرب وعن كيفية الجمع بين كل هؤلاء في حزب واحد، مؤكدا استحالة انكار الصراع الطبقي وصعوبة حظر انشاء الاحزاب سرية كانت او علنية. وقال ان ذلك لا ينطبق على الجمهورية العربية المتحدة وحدها. .................................. «لقد ادهشتموني عموما بما صدر عنكم علانية حول اننا وكأنما نتدخل في شئونكم الداخلية. ولعلكم تذكرون جيدا سيادة الرئيس انكم قلتم اكثر من مرة في احاديثكم معي في موسكو انكم اقتنعتم عن تجربة شخصية بان الاتحاد السوفييتي لا يتدخل في شئون البلدان الاخرى. وضربتم مثالا على ذلك بسلوك وعمل الخبراء السوفييت في الجمهورية العربية المتحدة مؤكدين انهم يلتزمون تماما في نشاطهم بقضايا تقديم المعونة التقنية. كما انكم وكما تذكرون قلتم انه وعن تجربة اقتنعتم بان الاحزاب الشيوعية لا تدار من موسكو. وقلتم انه وعلى سبيل المثال لا يوجد في مصر حزب شيوعي واحد، بل مجموعات شيوعية متفرقة ولو كان النشاط الشيوعي يدار من الخارج لكان من الممكن ان يكون موجودا حزبا واحدا». ..................................... «لن اخفي عليكم ان اكثر ما ادهشنا كان اعلانكم في خطابكم في 22 مارس الذي قلتم فيه انكم اعتمدتم على الله وعلى انفسكم فقط في صد العدوان الثلاثي الانجلو فرنسي اسرائيلي وحتى السادس من نوفمبر، وانكم كنتم وحدكم حتى نهاية القتال وانكم لم تروا اي تلميح بالمساعدة من جانب الاتحاد السوفييتي . هنا سيادة الرئيس انتم تنتهجون طريق انكار الحقائق الجلية للعيان. فالجميع يعرفون ان الاتحاد السوفييتي ومن اليوم الاول لازمة السويس اعلن موقفه بحسم ومنطقية للدفاع عن الحقوق المشروعة لمصر فيما قدم كل اشكال الدعم المعنوي والسياسي والمادي الواسع». ................................... واستعرض خروشوف ما قامت به الحكومة السوفيتية من خطوات في مواجهة الهجوم المسلح من جانب انجلترا وفرنسا واسرائيل، فيما أشار الى الانذار السوفييتي ، فضلا عن تاكيده على ما قدمه الاتحاد السوفييتي وتشيكوسلوفاكيا قبل ذلك من خطوات للاستجابة لطلب مصر حول امدادها بالاسلحة اعتبارا من 1955. كما اعاد خروشوف الى الاذهان ما كان عبد الناصر اعترف به خلال مباحثاته في الكرملين في مايو 1958. وانتقد محاولات عبد الناصر استخدام الدين لتبرير سياسات الجمهورية العربية المتحدة في معرض الحرب الكلامية ضد الاتحاد السوفييتي وما قام به من ثورة في عام 1917، مشيرا الى ان عبد الناصر لمس بنفسه مدى احترام السوفييت لمشاعره الدينية في العديد من المدن السوفيتية التي يحظى المسلمون فيها بحرية العبادة حسبما لمس بنفسه حسبما يعتقد. واختتم خروشوف رسالته بالاعراب عن يقينه في تجاوز كل عوارض الحاضر التي قال انها تحول دون رؤية الاشياء على حقيقتها، بما يمكن معه تطوير التعاون والصداقة شأنما كان الحال في الماضي، ليس فقط بين شعوب الجمهورية العربية المتحدة والاتحاد السوفييتي وحسب بل ومع كل الشعوب المحبة للسلام. فماذا كان رد عبد الناصر؟ قالت الدكتورة هدى عبد الناصر في مقال نشرته على صفحات «المصري اليوم» بتاريخ 15 نوفمبر 2013 : «أرسل عبدالناصر الرد على رسالتى خروشوف، فى 12 مايو 1959 فى جواب سرى لم ينشر- من 63 صفحة استعرض فيه العلاقات بين البلدين منذ بداية ثورة 1952؛ التى أشارت الصحف والإذاعات السوفيتية إليها فى ذلك الوقت، باعتبارها حركة فاشية! «إن الثورة المصرية بدأت فى مواجهة الاستعمار وتطويقه قبل أن تتوثق علاقاتها بالاتحاد السوفيتى؛ فقد كان الأمر مبادئ آمن بها قاده الثورة. ومع احتكار السلاح، طلبته مصر من الاتحاد السوفيتى؛ فتغير موقفه من الثورة الوطنية المصرية، وأصبح يعرفها على حقيقتها، ثم بدأت العلاقات بين البلدين تدخل طوراً جديداً تقوم أسسه على مبادئ التعايش السلمى. وهكذا دخلت علاقات مصر مع الاستعمار فى مرحلة عنيفة، بدأت بمحاولة عقابها؛ وكان من ذلك سحب عرض المساهمة فى تمويل السد العالى. وكان على مصر أن تصمد، وعادت قناة السويس إلى الشعب الذى حفرها. وقد قمنا بهذه الخطوة وحدنا، لم نتشاور فيها معكم، وكنا ندرك منذ البداية أن المعركة ستكون عنيفة مضنية. ولقد كان عرفاننا وتقديرنا بالغاً، لما أعلنتم بعد 36 ساعة من تأميم قناة السويس؛ أنكم تؤيدون موقفنا... وجاء العدوان فى نفس الوقت الذى كنا نستعد فيه للمفاوضات فى جنيف، يوم 29 أكتوبر 1956. لقد قلت فى خطاب ألقيته فى دمشق: إننا كنا نقف فى مواجهة العدوان الثلاثى فى ميدان القتال وحدنا، لا ننتظر معونة أحد، ولكن هذه العبارة- على ما أحسست من خطابك ومن تصريحات لك- لم تقع منك موقع الرضا! إنه لم يخطر فى بالى أن أقلل من قيمة الإنذار الذى وجهه بولجانين- رئيس الوزراء السوفيتى فى ذلك الوقت- ولكن لقد كنا فى ميدان القتال وحدنا؛ كان جنودنا فى سيناء يحاربون وحدهم، وكان جيشنا وشعبنا يحاربون فى شوارع بورسعيد وحدهم. وكانت زيارة شكرى القوتلى لموسكو فى 30 أكتوبر 1956، وأتيحت له فرصة التباحث مع بولجانين بحضور عدد من قادة الاتحاد السوفيتى وكبار ماريشالاته العسكريين. وتلقيت رسالة بعث بها القوتلى حددت موقفكم من العدوان؛ أن الاتحاد السوفيتى غير مستعد لدخول حرب عالمية، وعلى هذا الأساس لا يستطيع أن يتدخل عسكرياً، ولو بإرسال متطوعين، وأن أقصى ما يمكنه عمله لمساعدتنا هو إرسال بعض المعدات إلينا، ومعها بعض الفنيين! وقد كان ما فعلته؛ أننى نزعت هذه الرسالة من الملف الذى كان يضمها، ووضعتها فى جيبى؛ لأنى لم أشأ أن يطَّلع عليها من قد تتأثر روحه المعنوية بقراءتها، وعادت إلى مكانها كإحدى وثائق الدولة بعد أن انتهت المعركة. إن هذه الوثيقة شرف لنا؛ فهى خير دليل على أننا حاربنا، ولم نكن فى ميدان القتال وحدنا فقط، وإنما كنا ندرك أننا سنظل وحدنا! إن الانذار السوفيتى- الذى لا يستطيع أحد أن ينكر أثره- قد صدر من موسكو مفاجأة لنا، بعد أن مرت 9 أيام كنا فيها فى ميدان القتال وحدنا، وكان كل شىء- حتى الإنذار السوفيتى- يتوقف على صمود هذا الشعب، واستعداده للتضحية. ولقد كان الأمر الذى استوجب التصريحات- التى لم تقع منكم موقع الرضا- عن الحقيقة فى أمر العدوان الثلاثى؛ أن إذاعات تنطق باسمكم، وصحفاً تصدر فى بلادكم، راحت- وسط مناقشات بيننا وبين الحزب الشيوعى السورى - تعود بالفضل كله إلى هذا الإنذار! وكان واجباً أن أضع دور الشعب المصرى فى مكانه الصحيح. إننا نقدر موقفكم ونفهم دوافعه، ولم يخطر ببالنا أن نطلب منكم أن تدخلوا حرباً عالمية من أجلنا! لقد اتهمتمونا بالتدخل فى الشؤون الداخلية لغيرنا، بل أيضا فى شؤون الاتحاد السوفيتى! وبالنسبة للوحدة فقد كانت الشواهد تشير إلى أن الاتجاه الجديد إليها لا يلائم ميولكم ورغباتكم. وقد كان موقف الحزب الشيوعى من الوحدة؛ أنه لم يتقبل الإجماع الشامل للشعب السورى على قيامها، وكان النائب الشيوعى خالد بكداش هو الوحيد الذى فضل أن يهرب، ثم وجدناه يلجأ إلى بعض بلدان الكتلة الاشتراكية. وأخيراً وقف بجواركم فى احتفال المؤتمر ال21 للحزب الشيوعى، وراح يتهجم على حكومة بلاده، الأمر الذى سبب لنا القلق والانزعاج؛ ومبعثه أن تنتهك مبادئ التعايش السلمى بهذا الشكل العلنى! وكان أيضاً مما يشير إلى اتجاهكم؛ أن الاتحاد السوفيتى، بعد إعلان الوحدة فى أول فبراير 1958من القاهرة، ظل أكثر من أسبوعين حريصاً على الامتناع عن إبداء رأيه فيها. ولقد كانت ثورة العراق بداية للأزمة الطارئة على علاقاتنا، وإن كان الكثير مما ورد فى خطابكم، قد فتح عيوننا إلى أن أسباب سوء الفهم بيننا كانت تمتد إلى ما قبل هذه الثورة بكثير! ومن عجب أننا نسمع من دوائر مختلفة هجوماً على القومية العربية كأساس! إن التضامن مع ثورة العراق بدأ منذ وقت طويل؛ فإن عدداً من قادة ثورة العراق- وبينهم قاسم رئيس الحكومة العراقية- قد اتصلوا بنا قبل الثورة، وطلبوا أن نساعدهم فى تخطيطها. وكانت نصيحتنا إليهم؛ أن يحفظوا أمرهم سراً حتى علينا، وألا ينشدوا العون إلا من شعبهم، وألا يتولى وضع خطة الثورة إلا الذين سوف يقع عليهم عبء تنفيذها. وبعد أن نجحت ثورة العراق، أراد الحزب الشيوعى العراقى انتهاز الفرصة للسيطرة عليها؛ فاستغل خلافاً شخصياً نشب بين قاسم ونائبه عارف؛ لكى يخلق جواً من البلبلة يساعده على تحقيق أغراضه! وقد أدهشنى أنك فى خطابك ناقشت ما قلته فى إحدى خطبى؛ من أن الشيوعيين أتباع يتلقون التعليمات من الخارج! ولقد كان توحد الأحزاب الثلاثة الشيوعية الموجودة فى مصر، هو الذى فرض علىَّ، يوم الاحتفال بالجلاء عن بورسعيد فى 23 ديسمبر الماضى، أن أشير إلى النشاط المعادى للوطن الذى تقوم به المنظمات الشيوعية. وقد شرحنا أن هجومنا لا يتجه إلى الشيوعية كعقيدة؛ لأن ذلك ليس من شأننا، كذلك كان هجومنا لا يتعدى هؤلاء الذين يدعون الشيوعية فى بلادنا، ولكن محاولاتنا لم تكن كافية لشرح وجهة نظرنا! وقد أرسلت لكم رسالة مع سفيركم ديمترى كيسيليف؛ أشرح لكم فيها أن صداقة الشعوب العربية لكم لا ترجع إلى نشاط الأحزاب الشيوعية، بل هى بالرغم من هذه الأحزاب الشيوعية! ثم جاء خطابكم فى تكريم الوفد العراقى فى 16 مارس 1959، وبدا منه أنكم غيرتم موقفكم؛ فبعد أن كنتم تتعاملون مع القوى الوطنية بدأتم الآن تفضلون التعامل مع الأحزاب الشيوعية. وقد كان من العجيب أن تتصدى بنفسك للدفاع عنهم وتبرير تصرفاتهم! ويتلخص الموقف الآن فيما يلى: أننا وجدنا أنفسنا مرغمين على الدفاع عن بلادنا ضد نشاط المنظمات الشيوعية داخل حدود الجمهورية العربية المتحدة وضد مساندتك شخصياً لهذا الحزب، ثم فى وجه الحرب العنيفة من جانب الأحزاب والمنظمات الشيوعية فى العالم». لقد أصبحت العلاقات بين الجمهورية العربية المتحدة والاتحاد السوفيتى مذبذبة، ولكن الاتجاه العام إلى الأسوأ. وانعكس ذلك بدرجة كبيرة خاصة فيما يتعلق بالإمداد بالأسلحة؛ حيث تم إيقاف التسليم ورفع السعر، وأصبح الموقف فيما يتعلق بقطع الغيار على وجه الخصوص سيئاً، وبدأت الجمهورية العربية المتحدة تبحث عن مصادر أخرى للسلاح؛ مثل يوغوسلافيا أو الصناعة المحلية. ومن الواضح أن السوفييت كانوا يتبعون سياسة ضغط، بالرغم من أنها لم تنعكس فى المجال الاقتصادى. إذن بالرغم من الأزمة بين عبدالناصر وخروشوف- التى استمرت أكثر من سنة- فإن الاتحاد السوفيتى كان حريصاً على ألا تتعدى الحدود، وتؤدى إلى قطيعة بين البلدين. ولكن درس التاريخ يعلمنا أننا فى علاقاتنا مع الدول الكبرى يجب أن نكون على حذر شديد؛ حتى لا تنقلب إلى تبعية تذكّرنا بتجربة الاستعمار البريطانى الطويلة، التى عانت منها وضحَّت فى سبيل التخلص منها أجيال مصرية بأكملها». وتتواصل الذكريات نقلا عن وثائق تبقى ابد الدهر ذخرا لكل باحث وساع نحو الحقيقة، في نفس الوقت الذي تظل فيه افضل سبيل لتجاوز الخلافات بين الاصدقاء .