أنا بلا قلب.. أو هكذا تريد لى مهنتى أن أكون.. تريدنى أن أتجرد من كل مشاعر الحزن والأسى والفقدان وأجلس لأكتب عن الأستاذ محمود الكردوسى.. أرثيه كما جرت العادة فى مثل هذه الظروف، فأذكر محاسنه ومناقبه، وأعترف له بأفضال علىّ لا حصر لها، وهى حقيقة لا يسعنى إنكارها، وأروى عدداً من المواقف التى جمعتنا على مدار سنوات طويلة، وأستعين بمقاطع من مقالاته المهمة التى قلبت الدنيا حقيقة لا مجازاً، وأذرف دمعتين أمسحهما بأطراف أصابعى، وفى النهاية، أدفع بكل ذلك للجريدة فتنشره ضمن صفحتين تخصصهما له.. ثم لا شىء.. تُطوى سيرة محمود الكردوسى إلى الأبد كأنه لم يكن.. كأنه لم يعِش فى الدنيا ولم يشتبك معها، ولم تشتبك معه، كأن جسده العليل الذى ناء بكل ما كان يحمله من أمراض لم يشغل حيزاً من الفراغ فى أى يوم من الأيام.. ولكننى عاجزة يا أستاذ.. عاجزة أن أكتب عنك.. على الأقل لأننى لن أعرض عليك ما كتبت، وأجلس إلى جوارك وأنت تقرأ لأرى رأيك فيه، ثم تشطب العنوان الذى وضعت لتضع مكانه عنواناً آخر، ترى أنه أدق أو أفضل أو أمتع.. أنا عاجزة يا أستاذ أن أكتب عمن امتلك ناصية الكتابة، ليس أمامى إلا أن أسلّم نفسى للحزن العميق على رحيلك، ربما لأنه يحمل معه جزءاً من روحى، وجزءاً عزيزاً من مهنتنا.. مهنة لعبت فيها أنت دور الأستاذ، وتشرّفت بأن أكون فيها تلميذة لك، تجلس لتحكى، فأنصت وكلى آذان صاغية.. تكتب فأقرأ، وأتفق أو أختلف.. أضحك لوصف تطلقه على خصومك، وأنزعج لأوصاف أخرى.. تُحذّرنى حين ترتفع نبرة الخلاف: «هارزعك مقال، وهاسميه سماح عبدالعاطى بدون مناسبة».. ها قد جاءت المناسبة يا أستاذ، لا لتكتب أنت، وإنما لتكتب سماح، وهى ترى نفسها عاجزة عن ذلك كله.. غير أنها كانت تود لو أتيحت لها الفرصة الآن أن تقول لك، كما تقول لنفسها، إنه لا شىء يستحق.. كل الصراعات إلى زوال.. وكل المعارك لها خاتمة، يضعها القدر حين تنتهى الآجال، فنرحل ونخلّف وراءنا أحباء وأعداء، يبكوننا ويلعنوننا، لا شىء يستحق فعلاً يا أستاذ.. نعيش فيها، ونذرعها طولاً وعرضاً، ثم لا يصبح نصيبنا منها إلا ذلك الثوب الأبيض الذى نلتف فيه، وتلك الحفرة الصغيرة التى تبتلعنا فى أعماقها.. صدقنى يا أستاذ «كل بساط عيش سوف يُطوى»، وكل سيرة سوف تُنسى كما يُنسى كل شىء فى مصر.. نبكيك يا أستاذ محمود، ولا نستطيع أن نفعل أكثر من ذلك، فالمصاب جلل، والخسارة فادحة لا مجال لتعويضها، ونحن لا حيلة لنا.. فقط.. نقلب وجوهنا فى ما تبقى لنا من أيام.. وننتظر.