ما الذى يمكن أن يطرأ على العلاقات الأمريكية المصرية إذا حافظ الجمهوريون على المكاسب التى حققوها فى التجديد النصفى لانتخابات الكونجرس الأخيرة، ونجحوا فى استثمار أغلبيتهم الحاكمة فى مجلسى الشيوخ والنواب، وارتفاع نصيبهم فى حكام الولايات لتقليص فرص الديمقراطيين فى الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة، وتحويل إدارة الرئيس أوباما مع نهاية الفترة الرئاسية الثانية إلى بطة عرجاء، وأصبحوا بالفعل على شفا الوصول إلى البيت الأبيض كما يتوقع كثيرون؟! وكما يشغل هذا السؤال بال المصريين، يشغل أيضاً بال الروس والصينيين والأوروبيين والعالم أجمع، لأن الولاياتالمتحدة لا تزال تمثل القطب الأكثر تأثيراً فى عالمنا على كل المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية، والأكثر نفوذاً فى مؤسسات التمويل العالمية (البنك الدولى والصندوق) وداخل مجلس الأمن الذى يهيمن على سياسات العالم، ويملك قدرة إدانة وعقاب أى دولة تنفيذاً للبند السابع من ميثاق الأممالمتحدة، لكن القضية ربما تكتسب فى مصر أهمية خاصة بالنظر إلى الأزمة البالغة الصعوبة والتعقيد التى تمر بها العلاقات المصرية الأمريكية، بعد أن أسقط المصريون حكم جماعة الإخوان المسلمين فى ثورة شعبية عارمة، جسدها خروج أكثر من 30 مليون مصرى إلى الشوارع فى تظاهرة لم يعرف لها العالم مثيلاً، تطالب بإسقاط حكم المرشد وعزل الرئيس محمد مرسى بعد عام واحد من حكم الجماعة، لم تملك القوات المسلحة المصرية بديلاً عن مساندتها، بعد أن ركب العناد جماعة الإخوان المسلمين، وأصرت على رفض الذهاب إلى انتخابات رئاسية جديدة حلاً للأزمة، وهددت باستخدام العنف وبالغت فى عدائها لمعظم مؤسسات الدولة بما فى ذلك القضاء والجيش والأمن والإعلام، خاصة أن البلاد كانت على شفا حرب أهلية! ولأن سقوط حكم جماعة الإخوان المسلمين أدى إلى سقوط مشروعها المشترك مع الأمريكيين لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، اعتبر الأمريكيون أن ما حدث فى مصر يوم 30 يونيو كان انقلاباً عسكرياً، يلزم الإدارة الأمريكية تعليق كافة المعونات العسكرية والاقتصادية لمصر، وتم بالفعل وقف تصدير 10 طائرات هليكوبتر من طراز أباتشى وعدد من طائرات إف 16 وعتاد عسكرى أمريكى آخر، بلغت قيمته 650 مليون دولار، كان قد تحدد موعد تسليمها إلى مصر، كما تم وقف توريد قطع الغيار للأسلحة الأمريكية التى تمثل الآن 50% من عتاد الجيش المصرى، يمكن أن تتحول إلى مجرد خردة! وزاد من أزمة العلاقات المصرية الأمريكية رفض المصريين التمويل الأمريكى المباشر لعدد من جمعيات المجتمع المدنى المصرى، يتمثل فى بعض المكاتب الحقوقية المعنية بحقوق الإنسان، خاصة أن عمليات التمويل الأمريكى توسعت وتنوعت إلى حد أهدر متطلبات الأمن المصرى! وخرج عن نطاق القانون بشموله عدداً غير قليل من الجمعيات غير المعترف بها من جانب الحكومة المصرية! وفى المقابل بالغت الولاياتالمتحدة فى حملتها على الحكومة المصرية تحت دعاوى إهدار حقوق الإنسان، والادعاء بأن ما حدث فى يونيو كان انقلاباً عسكرياً أنهى بصورة غير ديمقراطية حكم أول رئيس مصرى منتخب! ووضع الآلاف من أعضاء الجماعة فى المعتقلات لمجرد أنهم يتظاهرون سلمياً! وقدم معظم قيادات الجماعة إلى محاكمات سياسية بدلاً من الإفراج الفورى وإعادة دمجهم فى الحياة السياسية المصرية! وأظن أن الأمريكيين خسروا بهذا الموقف الرأى العام المصرى الذى يعرف جيداً أن ادعاءات واشنطن غير صحيحة ولا تمت بصلة إلى ما حدث فى البلاد، وأن مصر لا تحارب جماعة معتدلة كما يدعى الأمريكيون، ولكنها تواجه إرهاب جماعة سيطر العناد على رؤوسها، وأصابها سعار الاستحواذ على السلطة، وحققت فشلاً ذريعاً فى حكم البلاد وأوصلتها إلى حافة الحرب الأهلية، لكن سرعان ما أدرك الجانبان الأمريكى والمصرى خطورة أن تنزلق العلاقات الأمريكية المصرية إلى أزمة عميقة يصعب انتشالها من وهدتها، وجاء قرار الرئيسين أوباما والسيسى على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة الأخيرة بضرورة فتح صفحة جديدة فى علاقات البلدين، أفرجت واشنطن بموجبها عن 10 طائرات هليكوبتر لمساعدة مصر فى حربها على الإرهاب، تم شحنها بالفعل فى 22 أكتوبر الماضى لتصل فى غضون أيام قليلة مقبلة، لكن قرار الإدارة الأمريكية بتعليق المعونات العسكرية لا يزال قائماً، رغم رفض الجمهوريين للقرار داخل الكونجرس، وإقرارهم بأحقية مصر فى محاربة الإرهاب، وخطأ إدارة أوباما فى معاداة مصر، وتوجه غالبيتهم إلى اعتبار جماعة الإخوان المسلمين جماعة إرهابية ينبغى أن يسرى عليها كل صور المقاطعة. وبرغم استمرار قرار تعليق المساعدات العسكرية إلى مصر، بادرت إدارة أوباما إلى اتخاذ عدد من الخطوات تستهدف إعادة بناء جسور الثقة مع مصر، لعل أهمها أولاً: اتفاق الجانبين المصرى والأمريكى على ضرورة البدء فى حوار استراتيجى جاد يشمل النواحى الاقتصادية والعسكرية والسياسية، بحيث تنهض العلاقات المصرية الأمريكية على أسس واضحة تقوم على تكافؤ المصالح، وتحتمل خلافات الجانبين حول عدد من القضايا يصعب أن تتطابق فيها مواقف الجانبين، من أمثلتها إصرار مصر على ضرورة القضاء على كل صور التهميش ضد سُنة العراق لضمان تماسك الجبهة الداخلية للعراق ضد داعش، وتأكيدها المستمر على أن المعركة ضد الإرهاب ينبغى ألا تكون وقفاً على داعش، لأن الإرهاب كل واحد يمثل خطراً ملحاً وإن تعددت منظماته، وإيمانها العميق بأن التسوية السلمية للأزمة السورية هو الحل الصحيح الذى يقى العالم مخاطر الإبقاء على بؤرة فساد وصديد، لا تنتج سوى الشر، متمثلاً فى الجماعات المتطرفة التى انبثقت عن هذه الحرب وبينها داعش! وثانيها: الرغبة الأمريكية المتزايدة فى دعم الاقتصاد المصرى التى أظهرتها مباحثات وزير الخزانة الأمريكى الأخيرة فى مصر حول فرص وجود ضمانات أمريكية حكومية تشجع الاستثمارات الأمريكية فى مصر، والجهود المشتركة لوقف تمويل منظمات الإرهاب على مستوى العالم أجمع، ومدى التزام الأمريكيين مستقبلاً بعدم المساس ببرامج المساعدات العسكرية لمصر، والنظر فى تحويل المساعدات الاقتصادية (250 مليون دولار كل عام) إلى برنامج متكامل يركز على تطوير التعليم المصرى، فضلاً عن وصول وفد اقتصادى أمريكى ضخم يضم رؤساء 60 شركة أمريكية كبرى تعمل فى مصر بهدف توسيع حجم استثمارات هذه الشركات، لكن مشكلة مصر مع الديمقراطيين، خاصة فى فترة حكم الرئيس أوباما، هى الضعف المتزايد للرئيس الأمريكى، وعدم قدرته على الصمود فى وجه ضغوط الإسرائيليين، وتحلله المستمر من معظم التزاماته المتعلقة بالقضية الفلسطينية، وتأخره فى اتخاذ قرار سريع بإنهاء تعليق المساعدات العسكرية لمصر. والحق أن مواقف الجمهوريين فى الكونجرس الأمريكى تكشف عن مساندتهم الكاملة لكل ما من شأنه تعزيز العلاقات مع مصر ودعمها فى مواجهة أخطار الإرهاب والحفاظ على أمنها الوطنى، وعدم استخدام حقوق الإنسان ذريعة لتقويض قدرة الأمن المصرى على حصار وتصفية جماعات الإرهاب، فضلاً عن رفض الجمهوريين الواضح والمباشر لرؤى وسياسات جماعة الإخوان المسلمين، التى يعتبرها تيار غالب داخل الحزب الجمهورى يرفض الإسلام السياسى جماعة إرهابية ينبغى حظرها، وما من شك أن مواقف الجمهوريين فى الكونجرس كان لها أثرها الواضح فى لجم اندفاع وشطط بعض قوى الديمقراطيين فى معاداة مصر، اتساقاً مع التزام الجمهوريين المستمر بأولوية قضايا الأمن القومى إن تناقضت ضماناتها مع بعض حقوق الإنسان، الأمر الذى يعنى أن وصول الجمهوريين إلى الحكم يمكن أن يعزز قدرة مصر على محاربة الإرهاب، وربما يخفف عن كاهلها كثيراً من الضغوط التى يمارسها الديمقراطيون بفجاجة بالغة فى قضايا صغيرة ومحدودة تتعلق بالشأن الداخلى تمس فى بعض الأحيان أمن مصر الوطنى، كما فعلت إدارة أوباما فى قضية الصحفيين الثلاثة التابعين لمحطة الجزيرة، رغم إعلان الرئيس السيسى أكثر من مرة بأن الحل الأفضل هو اعتبارهم ضيوفاً غير مرغوب فى بقائهم. ومع ذلك فإن الحقيقة الثابتة فى العلاقات المصرية الأمريكية رغم أهميتها الاستراتيجية للجانبين، أنها يمكن أن تتعرض لخلافات فى الرؤى والسياسات تتطلب إدارة حكيمة من الجانبين، تتفهم هوامش الخلاف المحتمل، لأن التطابق الكامل بين مصالح البلدين يكاد يكون متعذراً، خاصة مع تقاطع الأدوار المحتملة بين دولة متوسطة لها مصالحها الوطنية والقومية ومجالها الإقليمى، ودولة قطب مثل الولاياتالمتحدة يمتد نفوذها ومصالحها عبر العالم أجمع.