ملالا ضياء الدين يوسفزاى عُمرها أكثر قليلاً من نصف عُمر ابنى البكر، وللعجب فإنها وُلدت فى نفس يوم مولده 12 يوليو. عندما أقرأ عن ملالا أنها أنشأت مؤسسة تحمل اسمها من حصيلة جوائزها الداخلية والعالمية لتعليم الفتيات، أو أنها «ناضلت» دفاعاً عن حق التعليم أجد الإطار أكبر كثيراً من سن هذه الفتاة الصغيرة. سماها والدها ملالا تيمناً باسم بطلة أفغانية تُدعى ملالاى قاومت الاحتلال البريطانى لأفغانستان وقُتلت فى ساحة المعركة وهى لم تكمل العشرين. الباشتون الذين تنتمى ملالا إلى عِرقهم لا يفرقون بين ما يحدث فى أفغانستان وما يحدث فى باكستان، ولا يعترفون بالحدود بين الدولتين. فعندما احتل السوفيت أفغانستان فى 1979 عبر ملايين الأفغان إلى الداخل الباكستانى، وهناك وفّر لهم ضياء الحق المأوى وأنشأ لهم مخيمات دُربوا فيها على حمل السلاح ليعودوا ويقاوموا الاحتلال. وعندما احتل الأمريكيون أفغانستان فى 2001 وقدم برويز مشرف تسهيلات عسكرية لهم تطوع آلاف من شباب باكستان للحرب فى صفوف طالبان قبل أن يفر بن لادن نفسه إلى باكستان وتقتله المخابرات الأمريكية. لا فارق بين طالبان أفغانستان التى تنكر على النساء ارتداء اللون الأبيض لأنه لون محفوظ للرجال وبين طالبان باكستان التى تنكر على الفتيات حق التعليم، هناك سواد وهنا سواد، وهل الجهل إلا سواد؟ ملالا هى ابنة إقليم وادى سوات الخلّاب الذى تستقبل زائريه لوحة «مرحباً بك فى الجنة»، والذى بسطت طالبان عليه سطوتها وجسدت عُمق الهوة بين جمال الطبيعة وقبح البشر. كانت ملالا تعرف أنها تتحدى قوانين طالبان عندما تخرج إلى التعليم، لا بل وتدافع عن حق كل فتاة فى التعليم، فتاة كتلك التى تفتش فى القمامة بحثاً عن كسرة خبز أو تلك التى كانت تحسب بصعوبة عائدها من بيع ثمار البرتقال. نعم كانت ملالا تعلم أنها متمردة، وكانت تطاردها كوابيس تصور لها إرهابياً يطلق عليها النار، لكنها مع ذلك كانت مقتنعة بأن رجال طالبان لن يتعرضوا لفتاة صغيرة أبداً. لذلك كانت دهشتها كبيرة حين استوقف شاب ملتح حافلتها المدرسية ظهر يوم 9 أكتوبر 2012 وصاح متفحصاً وجوه الطالبات: من فيكن ملالا؟ وعندما تبينها أطلق عليها ثلاث رصاصات اخترقت إحداها عينها إلى كتفها فيما أصابت الرصاصتان الأخريان زميلتيها. عبارة «دهشتها كبيرة» ليست دقيقة، فالموقف المفاجئ لم يترك لها فرصة لتندهش. ملالا، التى حصلت على جائزة نوبل للسلام، هى فتاة استثنائية بكل المقاييس، والكتاب الذى كتبته عن نفسها ينطق بذلك ويُمتع فى قراءته لأبعد مدى. فتاة تعرف ما تريد وما لا تريد أيضاً، وهى لم ترد أن تكون مثل زميلتها ابنة الثالثة عشرة التى تزوجت وتركت صفوف الدراسة، هى تريد أن تكون مخترعة أو سياسية. لم تفقد المركز الأول على مدار سنوات دراستها إلا مرتين فقط، وقررت أن تكون هاتان المرتان استثناء لا يكسر القاعدة. يغريها ثوبها المبهج بأن ترتديه وهى مقبلة على خطاب أمام أحد المحافل الدولية لكنها تنحيه جانباً كى لا ينشغل الحضور عن الجوهر. تواتيها الشجاعة لتعترف فى كتابها بأنها مارست السرقة وملأت خزانتها بما غنمت، حتى إذا افتضح أمرها وعاتبتها ابنة عمتها نفت أنها تسرق، ثم خجلت وبكت واستقامت من بعد، ولا قيمة لحرية لا تشمل حرية ارتكاب الخطأ. مؤكد أن ملالا تمثل ظاهرة، لكن البيئة التى نشأت فيها لعبت دوراً محورياً فى تشكيلها. ضياء الدين، والدها، شخص مختلف بكل المقاييس. اشترك مع صديقين له فى إنشاء مدرستين، كانت الأولى لتعليم اللغة الإنجليزية ولم تستمر، وتعثرت الثانية طويلاً حتى إذا ضاق صديقه بالوضع وفض علاقة الشراكة معه استمر وحده مؤمناً برسالته، وفى الأخير زاد الإقبال على المدرسة التى وضع عند مدخلها شعار «ملتزمون بالبناء من أجل عصر جديد». فى كنف هذا الأب عاشت حاملة نوبل للسلام، رأته وهو يمد شجرة عائلته ليمر أحد فروعها بها، وما كانت أشجار عائلات الباشتون تزهر إلا رجالاً. وحكى لها عن قصة الحب التى جمعته بأمها وقادتهما إلى الزواج على خلاف التقاليد المحافظة فى وادى سوات. وفى حضرته تردد على منزلهم ضيوف بعضهم جاء للحوار والآخر جاء يشكو هماً خاصاً، ووجدته يحتفى بهم. لعبت فى مدرسته قبل أن تتعلم الكلام ثم درست فيها واكتسبت جرأتها فى مواجهة طالبان من استخفافه بتهديداتهم لأنه يتيح العلم للنساء. مثل ضياء الدين يكون غريباً ألا ينجب ملالا. فى أرض سوريا كانت فتاة فى التاسعة عشرة تناضل نضالاً من نوع مختلف. جيلان أوزالب تلك الفتاة الكردية الباسلة التى تطوعت فى وحدات حماية المرأة التابعة للبشمركة، والتى قاومت حتى الرمق الأخير زحف برابرة داعش على مدينة عين العرب أو كوبانى، حتى إذا نفدت ذخيرتها إلا طلقة واحدة أودعتها نفسها. تمنيت لو أنى أعرف أكثر عن جيلان لأكتب عنها ما تستحقه، لكن المؤكد أن يوماً ما سيُكتب تاريخ هذه المدينة ويبرز اسمها وأسماء كل النساء اللائى تركن العالم من خلف ظهورهن وحملن السلاح ضد النسخة الأحدث من طالبان، فلم نراهنّ من بعد إلا مقطوعات الرؤوس أو مضرجات فى الدماء. يقول «جناح» مؤسس باكستان: «يقال إن هناك قوتين فى العالم أولاهما السيف والأخرى القلم، لكن ثمة قوة ثالثة تفوق هاتين القوتين ألا وهى النساء»، وأقول: فما بالنا حين تتسلح النساء بقوة القلم وقوة السيف؟