تفاصيل جولة الرئيس السيسي بالأكاديمية العسكرية في العاصمة الإدارية| صور    وزير الصحة يهنئ إيهاب هيكل ومجلس «أطباء الأسنان» للفوز في انتخابات النقابة    بعد حملة «خليها تعفن».. أسعار السمك اليوم السبت في سوق العبور للجملة    المركزي المصري يوجه 6 مليارات دولار من صفقة «رأس الحكمة» لدعم القطاع المصرفي    وزير التعليم العالي: الجامعة المصرية اليابانية تقدم تجربة تعليمية وبحثية مُتميزة    مطالب برلمانية بوقف تخفيف أحمال الكهرباء في أثناء فترة الامتحانات    الرئيس السيسي: مصر تدعم تعزيز العمل البرلماني المشترك على جميع المستويات    "بالشوكولاتة".. مارسيل كولر يحتفل بتأهل الأهلي لنهائي أفريقيا    قائمة باريس سان جيرمان لمباراة لوهافر بالدوري الفرنسي    بيريرا يكشف حقيقة رفع قضية ضد حكم دولي في المحكمة الرياضية    وزير التعليم ومحافظ الغربية يفتتحان معرضًا لمنتجات طلاب المدارس الفنية    طبيب نفسي يوضح الأسباب وراء قضية مقتل طفل شبرا    الإعدام والمؤبد للمتهمين باللجان النوعية في المنوفية    وزيرة التضامن من الإسكندرية للفيلم القصير: فخورة بتقديم برنامج سينما المكفوفين    علي الطيب يكشف تفاصيل دوره في مسلسل «مليحة»| فيديو    الليلة.. أصالة تلتقى جمهورها فى حفل بأبو ظبي    أهمية وفضل حسن الخلق في الإسلام: تعاليم وأنواع    الصحة: فرق الحوكمة نفذت 346 مرور على مراكز الرعاية الأولية لمتابعة صرف الألبان وتفعيل الملف العائلي    حان وقت الصفقة.. تحرك جديد لعائلات الرهائن الإسرائيليين في تل أبيب    وسط اعتقال أكثر من 550.. الاحتجاجات الطلابية المناهضة لإسرائيل بالجامعات الأمريكية ترفض التراجع    كوريا الشمالية: الولايات المتحدة تقوم ب«تشهير خبيث» عبر نشر تقارير مغلوطة عن حقوق الإنسان    مستشار الرئيس الفلسطيني: عواقب اجتياح رفح الفلسطينية ستكون كارثية    رئيس البرلمان العربي يكرم نائب رئيس الوزراء البحريني    التنمية المحلية: تدريب 2034 قيادة علي منظومة التصالح في مخالفات البناء بالمحافظات    السيسي يتفقد الصالات الرياضية المجهزة بالأكاديمية العسكرية في العاصمة الإدارية.. فيديو    تعليم الإسكندرية تستقبل وفد المنظمة الأوروبية للتدريب    كرة اليد، موعد مباراة الزمالك والترجي في نهائي بطولة أفريقيا    مديرية الشباب بالشرقية تنفذ دورات لطرق التعامل مع المصابين    خالد بيبو: لست ناظر مدرسة «غرفة ملابس الأهلي محكومة لوحدها»    «شريف ضد رونالدو».. موعد مباراة الخليج والنصر في الدوري السعودي والقنوات الناقلة    أبو الغيط: الإبادة في غزة ألقت عبئًا ثقيلًا على أوضاع العمال هناك    محافظة القاهرة تكثف حملات إزالة الإشغالات والتعديات على حرم الطريق    بعد فتح التصدير.. «بصل سوهاج» يغزو الأسواق العربية والأوروبية    9 إجراءات للشهادة الإعدادية.. تفاصيل مناقشات "تعليم القاهرة" بشأن الامتحانات    سياحة أسوان: استقرار الملاحة النيلية وبرامج الزيارات بعد العاصفة الحمراء | خاص    تحرير 134 محضرا وضبط دقيق بلدي قبل بيعه بالسوق السوداء في المنوفية    استمرار حبس عاطلين وسيدة لحيازتهم 6 كيلو من مخدر البودر في بولاق الدكرور    حصيلة تجارة أثار وعُملة.. إحباط محاولة غسل 35 مليون جنيه    رئيس مياه سوهاج يتسلم شهادات 6 محطات حاصلة على اعتماد خطط السلامة    «السياحة»: زيادة رحلات الطيران الوافدة ومد برنامج التحفيز حتى 29 أكتوبر    رئيس جهاز العاصمة الإدارية يتابع معدلات تنفيذ حي جاردن سيتي الجديدة    بسبب البث المباشر.. ميار الببلاوي تتصدر التريند    وزيرة التضامن توجه تحية لمهرجان الإسكندرية للفيلم القصير بسبب برنامج المكفوفين    الليلة.. أحمد سعد يحيي حفلا غنائيا في كندا    السيسي يتفقد الأكاديمية العسكرية بالعاصمة الإدارية الجديدة - فيديو    بيان عاجل لهيئة كبار العلماء السعودية: لا يجوز الحج في هذه الحالة ويأثم فاعله    «بيت الزكاة» يستقبل تبرعات أردنية ب 12 شاحنة ضمن حملة إغاثة غزة    متصلة تشكو من زوجها بسبب الكتب الخارجية.. وداعية يرد    هيئة شئون الأسرى الفلسطينيين: الوضع في سجون الاحتلال كارثي ومأساوي    هل يوجد تعارض بين تناول التطعيم وارتفاع حرارة الجسم للأطفال؟ هيئة الدواء تجيب    الكشف على 165 مواطنًا خلال قافلة طبية بالزعفرانة وعرب عايش برأس غارب    طلب إحاطة يحذر من تزايد معدلات الولادة القيصرية    أفضل دعاء تبدأ وتختم به يومك.. واظب عليه    وزير الخارجية يتوجه إلى الرياض للمشاركة في أعمال المنتدى الاقتصادي العالمي    «الأسد يشعر بضيق تنفس».. 4 أبراج تكره فصل الصيف (تعرف عليها)    إشادة دولية بتجربة مصر في مجال التغطية الصحية الشاملة    "كنت ببعتله تحياتي".. كولر يكشف سر الورقة التي أعطاها ل رامي ربيعة أثناء مباراة مازيمبي    عمل نفتخر به.. حسن الرداد يكشف تفاصيل مسلسل «محارب»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أصغر فائزة ب«نوبل للسلام» فى كتابها «أنا ملالا»: هكذا حاربتُ «طالبان»
نشر في التحرير يوم 12 - 10 - 2014

ليست مصادفة أن تصدر الترجمة العربية لكتاب «أنا ملالا» الذى يرصد الحياة القصرية للفتاة الباكستانية ملالا قبيل إعلان فوزها بجائزة نوبل للسلام بأيام قليلة، وذلك عبر ترجمة ناعمة وباهرة للمترجم أنور الشامى، لم تحتفظ فقط بروح الدراما والتشويق والعمق الإنسانى الذى تسرب عبر كلمات ملالا التى سجلتها الصحفية البريطانية الأشهر كريستينيا لامب، بل تحسب أنها أضافت فى عربيتها الرشيقة روحًا إضافية على النص الأصلى.
والكتاب الدسم والملحمى الذى يقع فى نحو 400 صفحة وصادر عن المركز الثقافى العربى و«سما للنشر»، ينقسم إلى خمسة فصول رئيسية، يتتبع أولها تفاصيل الحياة فى وادى سوات الباكستانى، حيث ولدت ملالا قبل ظهور «طالبان»، ومنذ السطور الأولى تظهر الدراما بوضوح كون أن تقاليد البشتون التى تندرج أصول ملالا منها، تتعامل مثل معظم المجتمعات القبلية غير الحضرية مع ولادة البنات كيوم حزين، إلا أن الأب المكافح المتعلم يوسفزاى، سيرى فى ولادته ابنته عكس ذلك، حتى إنه «طلب من أصدقائه أن يلقوا بالفاكهة المجففة والحلوى والنقود فى مهدى وهو شىء لا نفعله عادة إلا مع الذكور» حسب ما تسجله ملالا فى مذكراتها المبكرة.
ومنذ اليوم الأول لولادتها ستنشأ علاقة وطيدة وفريدة بين ملالا وأبيها، ستتجلّى لاحقًا فى أن الاثنين «الأب والابنة» سيتلقيان تهديدات مزدوجة بالقتل على يد «طالبان»، بيد أن الابنة هى التى تلقت الرصاصات مبكرًا.
ورغم أن السطور الأولى من الكتاب تمر هادئة نسبيًّا، فإن ملالا تتعمّد الإفراط فى وصف جمال طبيعة «وادى سوات»، قائلة: كنا نعيش فى أجمل بقاع العالم قاطبة. إنه وادينا. وادى سوات. مملكة سماوية من الجبال، تتدفق منه شلالات المياه وتنبجس فيه البحيرات ذات الماء الصافى، «مرحبا بك فى الجنة» هكذا كتب على لوحة يراها المرء عندما يدخل إلى الوادى.. توجد لدينا حقول ملأى بالأزهار البرية وأشجار الفاكهة اللذيذة ولدينا مناجم للزمرد وأنهار ملأى بأسماك السلمون المرقط، وكثيرًا ما يسمى الناس سوات سويسرا الشرق، إذ إن لدينا منتجع التزلق الأول فى باكستان، ويبدو واضحًا أن ملالا تريد من هذا الوصف المغرق فى الغرام بوطنها أن توضح الحال التى سينقلب إليها وادى سوات من وادى الجنة إلى وادى الأحزان، عندما تستولى عليها «طالبان».
ملالا هاجمت «طالبان» عبر الإذاعة ومدوّنة.. وتمسَّكت بالذهاب إلى المدرسة مع تراجع عدد الطالبات إلى الثلث
وتروى ملالا قصة كفاح والدها الذى تخرَّج بعد معاناة مالية فى الكلية ليصبح مدرسًا، ثم يقرر بعدها أن يفتتح مدرسة خاصة فى قريته بالاشتراك مع أحد أصدقائه حتى يقدم التعليم الذى يشجع الطلاب على التفكير الحر بدلًا من ذلك التعليم الحكومى التقليدى.
ولدت ملالا داخل مدرسة أبيها بعد أن حاول أن يقف على قدميه مجددًا، وعندما كبر وعيها وجدت والدها يحارب الجهل ليس فقط عبر تبنيه مشروع المدرسة، وإنما عبر جولاته ولقاءاته مع كبار العائلات وما يسمون ب«خان» -أى الإقطاعيين أصحاب الأراضى الزراعية مترامية الأطراف- وعبر تمكّنه من فن الخطابة، بل ومن خلال إعطائه له مساحة كبيرة من حرية الحركة والتفكير لا تحصل عليها الفتيات الباكستانيات فى الريف عادة، حتى إنه لما عاتبها ذات يوم على خطأ وقعت فيه ذكرها بقول شهير للمهاتما غاندى، يقول فيه «الحرية غير ذات قيمة إذا لم تشمل الحرية فى ارتكاب الأخطاء»، هكذا تربّى لديها حسٌّ بهموم وطنها مبكرًا وبدأت تضع يدها على مواطن العفن والسوس، إذ كتبت تقول «يموت الأطفال فى القرية من شدة البرد فى الشتاء أحيانًا. لا سيما فى ظل عدم وجود مستشفى. لا يزور السياسيون القرية إلا مع مقدم موسم الانتخابات. فيعدون أهلها بمد الطرق والكهرباء وإيصال المياه النظيفة وبناء المدارس ويقدمون المال والمولدات الكهربائية للأشخاص ذوى النفوذ داخل القرية ممن نسميهم أصحاب المصالح، نظرًا لقدرتهم على توجيه جماعاتهم فى عملية التصويت.. وكان السياسيون يقبعون بعدها فى إسلام أباد فى حال انتخابهم للبرلمانى الباكستانى، أو فى بيشاور فى حال كان انتخابهم لبرلمان الإقليم، ثم لا نسمع عنهم أو وعودهم شيئًا»، بربّك ألم تمر أنت بنفس هذا السيناريو بكل هذه التفاصيل فى قريتك الكامنة فى أعماق الصعيد أو فى آخر الدلتا؟
على أن الهدوء النسبى الذى تمتعت به ملالا فى واديها سوات، انهار مع انهيار برجَى التجارة العالمى فى نيويورك فى 11 سبتمبر 2011، كان عمرها حينها أربع سنوات فحسب، لكنها لاحقًا عندما سجَّلت مذكراتها فسَّرت ما حدث بذكاء، إذ تقول «كنا لم نزل نزرح تحت حكم ديكتاتورى فى باكستان، ولكن أمريكا أصبحت بحاجة إلى مساعدتنا، تمامًا مثلما كانت الحال فى ثمانينيات القرن العشرين عندما احتجاتنا لمحاربة الروس فى أفغانستان، وكما أن الغزو الروسى لأفغانستان قد بدّل حال الجنرال ضياء الحق تمامًا، فإن أحداث الحادى عشر من سبتمبر قد خلصت الجنرال مشرف من العزلة الدولية التى فرضت عليه، فأصبح فجأة يدعى إلى البيت الأبيض لمقابلة جورج دبليو بوش، وإلى 10 دواننج ستريت، لمقابلة تونى بلير، ولكن مع ذلك ظلت ثمة مشكلة كبيرة قائمة، وهى أن جهاز الاستخبارات الباكستانى هو من أنشأ حركة «طالبان» فى واقع الأمر. وكان كثير من ضباط هذا الجهاز من المقربين لقادتها، ويقيمون علاقة معهم منذ سنوات، بل ويشاركونهم أفكارهم وكان العقيد إمام فى ال«آى إس آى» -اختصارًا للمخابرات الباكستانية- يفاخر بكونه قد درّب 90 ألف مقاتل من «طالبان».. بل إن جهاز الاستخبارات كان يعتبر الجهاديين أصولًا استراتيجية. هكذا ببساطة وشجاعة كشف ملالا السر. «طالبان» صنيعة المخابرات الباكستانية، فكيف سيكون الأمر عندما ينقلب السحر على الساحر وتقرر «طالبان» أن تلعب بطريقتها الخاصة وفى قلب وادى الجنة ذاته الذى تعيش فيه ملالا.. فى وادى سوات؟ إنه الفزع نفسه.
قصة ظهور «طالبان»، كما ترويها ملالا، فى سوات الباكستانية، وانقسام أهل الوادى حولهم تبدو مثيرة للغاية، خصوصًا أن كثيرًا من فصولها تتشابه مع قصص ظهور عديد من التنظيمات الإرهابية فى مصر والعالم العربى.
فى الثامن من أكتوبر 2005، تعرضت باكستان لزلزال مُدمر هو أحد أسوأ الزلازل فى التاريخ. كان بقوة 7.6 ريختر، تسبب فى مقتل 73 ألف شخص، من بينهم 18 ألف طفل، وإصابة 128 ألفًا آخرين، وفقدان 3.5 مليون لمنازلهم، وتلاشت طرق وجسور بأكملها واختفت المياه والكهرباء عن مساحات شاسعة فى البلد الذى ارتبكت قادته، وطلبت مساعدات من العالم، وجاءت المساعدات فعلًا، لكن ببطء، ولم تصل إلى كل المناطق المنكوبة.. لكن متطوعين باكستانيين سبقوا الجميع لتقديم يد المساعدة للمكلومين، وكان هؤلاء المتطوعون من حركة «تحريك إنفاذ الشريعة المحمدية» وهى حركة أسسها شخص اسمه صوفى محمد، كان يرسل الرجال للحرب فى أفغانستان قبل أن تعتقله باكستان فى 2002، لكن جماعته استمرت فى العمل على يد صهر «مولانا فضل الله» الذى سيصبح الأب المؤسس ل«طالبان» فى باكستان، مستفيدًا من كارثة الزلزال ومن قدرة أعضاء جماعته على الانتشار فى نفعية واضحة.
مؤسس «طالبان» فى باكستان عامل تلفريك سابق.. وصنع شعبيته عبر إذاعة «راديو الملا»
بحسب ما ترويه ملالا فى كتابها، فإن «مولانا فضل الله قبل أن يصبح زعيمًا لطالبان فى عمر 28 عامًا، كان يعمل فى السابق عامل تلفريك لعبور نهر سوات وهو يجرجر ساقه اليمنى بسبب إصابته بمرض شلل الأطفال.. وكان ظهوره الأول فى قرية صغيرة هى إمام ديرى على الجانب الآخر من نهر سوات قبل وقوع الزلزال بفترة قصيرة، حيث أطلق محطة إذاعية غير قانونية» هكذا أصيبت باكستان بالكارثتين فى توقيت متزامن، الزلزال و«طالبان».
على أن قصة الملا فضل الله والراديو مثيرة للغاية، تقول ملالا «فى وادينا كنا نتلقى معظم معلوماتنا عبر الإذاعة، لأن كثيرين لم يكن لديهم جهاز تليفزيون أو لكونهم أُميين. سرعان ما أصبحت هذه الإذاعة هى حديث المدينة وباتت تُعرف باسم (راديو الملا)، بينما اشتهر فضل الله باسم (الملا راديو)، وكانت تبث برامجها من الثامنة حتى العاشرة، وصباحًا من السابعة حتى التاسعة.. فى البداية تحلَّى فضل الله بحكمة بالغة وقدم نفسه باعتباره مُصلحًا إسلاميًّا ومفسرًا للقرآن (هل يذكرك هذا ببدايات جماعة الإخوان وما انبثق منها من جماعات إرهابية؟!) كان صوته أحيانًا يأتى هادئًا، وأحيانًا يأتى مخيفًا ومزمجرًا وغالبًا ما يبكى عندما يتحدَّث عن حبّه للإسلام، -هل يذكرك هذا بمنهج مشاهير دعاة الكاسيت الذين ظهروا فى مصر فى الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضى؟!.- وكان يحذر من الاستماع إلى الموسيقى ومشاهدة أفلام السينما والرقص وكان فضل الله يزمجر قائلًا إن مثل هذه الذنوب هى ما تسببت فى الزلزال»، هذا منهج نعيشه فى مصر حتى يومنا هذا رغم أن «طالبان» كتنظيم وليس كفكر لم تظهر بيننا، لكن ملالا استوقفها هذا الأسلوب، تقول فى كتابها «سألت أبى هل هذا صحيح يا أبت.. لم أكن قد نسيت حالة الرعب التى عشناها خلال الزلزال، أجاب: لا يا عزيزتى. إنه يستغفل الناس وحسب». كم شخص حاول استغفال الناس على طريقة «الملا راديو» يا تُرى؟
لكن تفسير وفتاوى «الملا راديو» سرت فى وادى سوات كما الوباء وبدأت فى الحصاد، تقول ملالا «فى غضون ستة أشهر أخذ الناس يتخلصون مما لديهم من أجهزة التليفزيون وأسطوانات الفيديو الرقمية والأقراص المدمجة. كان رجال فضل الله يجمعونها فى أكوام كبيرة فى الشورع ثم يشعلون فيها النار فتنبعث منها سحب دخان أسود كثيف يمتد عاليًا فى السماء. أغلقت المئات من متاجر بيع الأقراص المدمجة وأسطوانات الفيديو أبوابها طواعية وتلقى أصحابها تعويضات من قبل «طالبان».. حظى فضل الله بشعبية واسعة لا سيما فى المناطق النائية التى لم ينسَ سكانها متطوعى حركة تطبيق الشريعة الإسلامية الذين مد لهم يد العون خلال محنة الزلزال فى وقت تقاعست فيه الحكومة عن نجدتهم وقد وضعت مكبرات صوت موصولة بالإذاعة فوق بعض المساجد كى يتسنّى لكل أهل القرية الاستماع إلى برامجها وكان البرنامج الأكثر شعبية يذاع كل مساء عندما يقوم «الملا راديو» بذكر أسماء الأشخاص، فيقول: السيد فلان كان يدخن الحشيش لكنه أقلع عنه لأنه حرام، أو السيد س أطلق لحيته فتهانينا له أو السيد ص أغلق متجره الخاص ببيع الأسطوانات المدمجة طواعية!.
تقول ملالا فى كتابها «ذات يوم أفتى صوفى محمد من السجن بأنه لا يجوز للفتيات أن يلتحقن بالمدارس بما فى ذلك مدارس البنات الدينية، وقال: إذا كان ثمة أحد لديه أى دليل على أن الإسلام قد سمح بوجود مدارس البنات الدينية، فليأت ويبوّل على لحيتى» -هل تلاحظ هذا الأسلوب الغليظ المتجاوز لحدود الأدب واللياقة والمنتشر أيضًا بين تلاميذ صوفى محمد فى مصر؟- تواصل ملالا لتقول «عندئذ أصبحت قضية المدارس هى محور اهتمام إذاعة الملا، فراح فضل الله يوجّه هجومه ضد مسؤولى المدارس ويهنئ البنات اللاتى تركن مدارسهن بذكر أسمائهن والثناء عليهن، فكان يقول «الآنسة فلانة وفلانة.. قد توقفن عن الذهاب إلى المدرسة وسوف يدخلن الجنة، أما الفتيات اللائى ظللن يذهبن إلى المدرسة مثلى فكان يصفهن بأنهن جاموس وأغنام!».
لكن نفوذ فضل الله توحّش فى سوات، ولأن حكومة الإقليم كانت تتشكل من تحالف لعدد من الأحزاب الإسلامية فقد غضوا الطرف عن شططه وجنونه الذى وصل إلى حد قيام رجاله بمنع حملات التطعيم ضد شلل الأطفال، لأن اللقاحات «مؤامرة أمريكية لإعقام نساء المسلمين»! ثم أصدر قرارًا بمنع السيدات من الذهاب إلى الأسواق، وانتشر رجاله فى الشوارع كشرطة دينية تعاقب المخالفين لأوامر «الملا راديو»، هكذا وجد والد ملالا لافتة على باب مدرسته ذات يوم مكتوبًا فيها «توقف عن تعليم الفتيات وإلا سوف تعرض نفسك للخطر وسوف يبكى أطفالك ويستغيثون بك».. هكذا أصبح الخطر أكثر مما توقعت ملالا ووالدها.
بدأ يوسفيزاى والد ملالا فى النضال من جديد، مشاركًا كبار القوم فى تأسيس جمعية «المجلس القومى» لمواجهة خطر فضل الله وجماعته، وقد أصبح متحدثًا رئيسيًّا عبر الإذاعات الأجنبية مثل «صوت أمريكا» و«بى بى سى» مهاجمًا «طالبان» والحكومة فى آن واحد، معتبرًا أن لولا دعم بعض قيادات الجيش والإدارات الحكومية ل«طالبان» لما وجدت بالأساس، وكانت ملالا ترافقه فى عديد من هذه التحركات، بل وتشاركت هى ومجموعة من زميلاتها فى المدرسة فى حملات إعلامية مماثلة عبر إذاعات محلية ثم فى تليفزيونات محلية، قبل أن تشارك والدها فى لقاء فى القسم الأردى لهيئة الإذاعة البريطانية، لكن بدا أن كل ذلك لم يحقق نتيجة، تقول ملالا «كانت كلماتنا أشبه بأزهار الكافور التى تذروها الرياح خلال الربيع.. فمع نهاية عام 2008 كانت (طالبان) دمَّرت نحو 400 مدرسة.. وأعلن نائب فضل الله عبر الإذاعة أن مدارس البنات جميعها سوف يتم غلقها ابتداءً من 15 يناير 2009».
وهى تنتظر كمحكوم عليه بالإعدام ذلك اليوم الذى ستُمنع فيه من الذهاب إلى المدرسة مع سائر فتيات سوات، جاء ملالا عرض من «بى بى سى» لكتابة يومياتها المعذبة وسط جحيم «طالبان»، كتبت ملالا تحت اسم مستعار هو «جول مكاى» فى مدونة تابعة لهيئة الإذاعة البريطانية، وفوجئت برد الفعل والتفاعل الكبير مع مأساتها ومأساة جيلها، حتى إنها فى اليوم الموعود 14 يناير وهى ذاهبة إلى مدرستها لآخر مرة تطبيقًا لفرمان «طالبان»، فوجئت بكاميرات تابعة لجريدة «نيويورك تايمز» الأمريكية، تنتظرها أمام منزلها لتسجّل وقائع اليوم الأخير فى فيلم توثيقى قصير بُثّ لاحقًا على موقع الجريدة، وجعل من قضيتها همًّا عالميًّا لمن يملكون قدرة على الإحساس بمعاناة الآخرين على بُعد آلاف من الكيلومترات.
لكن الأمور تدهورت أكثر، الحكومة الباكتسانية مثل عديد من حكومات العالم الثالث الفاشلة، لجأت إلى سلاحها الأخير، بأن أخرجت «صوفى الله» الأب المؤسس ل«طالبان» باكستان، من السجن باعتباره أقل تطرفًا من صهره «فضل الله»! لكن صوفى الله لم يخيّب أمل أتباعه، وفى أول لقاء جماهيرى حضره نحو 40 ألفًا من أتباعه عقب خروجه من السجن أعلن الحرب على الحكومة الباكستانية الكافرة! هكذا عادت الحرب من جديد إلى الوادى المُبتلى، واضطرت ملالا وأسرتها إلى أن ينزحوا إلى قرية والدهم تاركين مدينتهم الأصلية وقد تحوَّلت إلى ساحة حرب بين الجيش الباكستانى وأتباع «طالبان»، بعد سبعة أشهر ستعلن الحكومة الباكستانية أنها حققت النصر، وأن السلام حل فى الوادى، ستعود ملالا وأسرتها من التغريبة الإجبارية، وتفتح المدارس للفتيات من جديد، وتكتسب ملالا مزيدًا من الشهرة بوصفها مقاتلة من أجل الدفاع عن حقها وحق كل فتاة فى التعلم.
قصة اغتيال ملالا
هكذا تصل الدراما إلى ذروتها فى التاسع من أكتوبر عام 2012، فى هذا اليوم كانت ملالا تستقل السيارة الريكشا الباكستانية الشهيرة بصحبة زميلاتها عائدات من المدرسة، عندما اعترض مسلحان الطريق، ثم جاء ثالث إلى مؤخرة السيارة وسأل سؤالًا مختصرًا «مَن فيكن ملالا»، ولم ينتظر الإجابة من أحد. أطلق النار ثم هرب.
يبدو الجزء الأخير من الكتاب معجونًا بالشجن والحزن والتوتر، إذ تصف فيه ملالا طبيعة إصابتها هى واثنتين من زميلاتها برصاص المجنون الطالبانى، وكيف أن الرصاصة لامست مُخّها، ثم كيف أصبح خبر استهدافها خبرًا اهتزت له الدولة الباكستانية مما استدعى نقلها إلى المستشفى العسكرى بطائرة هليكوبتر تابعة للجيش وسط إجراءات أمنية مشددة، قبل خضوعها لجراحة دقيقة على يد جراح باكستانى يعمل لدى الجيش فى توقيت دقيق، قبل أن تتدهور حالتها، فتراها طبيبة بريطانية كانت موجودة بالصدفة فى باكستان لتدريب بعض الأطباء، فتقرر أن حالتها تستوجب العلاج فى الخارج وبأسرع وقت، ويتم الاستقرار على مستشفى الملكة إليزابيث فى برمنجهام البريطانية.
هناك فى المستشفى الملكى، ستكتشف ملالا أنها عاشت، لكنها فقدت ابتسامتها، الرصاصة التى تسببت فى تآكل جزء من جمجمتها، ضربت أيضًا عصب وجهها الأيسر فى مقتل، فشوَّهت جزءًا من وجهها، وجعلت رد فعلها بطيئًا، وسمعها ضعيفًا، ستمر برحلة علاج تأهيلية صعبة ومعقدة، لكنها ستستعيد بعض من ملامحها لاحقًا، وإن ذهبت بعض التفاصيل دون رجعة. رصاص «طالبان» لم ينجح فى المهمة إذن، لكنه أفسد ابتسامة ملالا.
مَن أطلق الرصاص عليها؟ تقول «الشخص الذى حاول قتلى هو أحد عناصر طالبان واسمه عطاء الله خان. اعتقل خلال العملية العسكرية فى سوات عام 2009، لكنه أُطلق سراحه بعد ثلاثة أشهر.. لم يُلقَ القبض عليه وإنما ألقى القبض على سائق حافلتنا المسكين العزيز عثمان بهاى جان.. قال الجيش إنه بحاجة منه إلى التعرف على بعض الأشخاص. أثار ذلك ضيقنا الشديد.. لماذا ألقوا القبض على عثمان بهاى جان وليس عطا الله؟!».
العلاج التأهيلي لملالا يحتاج إلى المزيد من الوقت
على أن ملالا وأسرتها وجدوا أنه من الصعوبة العودة إلى سوات من جديد. العلاج التأهيلى لملالا يحتاج إلى المزيد من الوقت، ثم إن التهديد بقتلها من جديد لم يختفِ بعد، هكذا عندما جاء الرئيس الباكستانى آصف زرادى، لزيارتها فى المستشفى فى برمنجهام أصدر قرارًا بأن يعمل والدها ملحقًا تعليميًّا لسفارة بلادهم فى بريطانيا، لم تجد الأسرة بديلًا. ورغم أن ملالا كتبت تعقد المقارنة بين منزلهم فى برمنجهام ومنزلهم فى سوات، وكيف أن المقارنة لصالح سوات قطعًا حتى وهى تتلقّى تعليمها الآن فى مدرسة بريطانية عصرية، وتنعم بمستوى معيشى أفضل، فإنها لا تزال تحلم بالعودة إلى وطنها من جديد حتى لا يترك والدها مشروعه الأثير فى بناء المدارس وتعميرها بالتلاميذ، ولتواصل هى الدفاع عن حق الفتيات فى التعلم، خصوصًا أنه وعلى الرغم من الهزة العالمية التى أحاطت باستهدافها فإنه قد واصل مجاذيب «طالبان» تفجيرات حافلات الطالبات، حتى إن أحدهم فجَّر نفسه فى واحدة منها، فقتل 14 تلميذة وهن فى طريق عودتهن من المدرسة، وكأن شيئًا لم يكن.
تقول ملالا فى نهاية كتابها «ينعم وادى سوات اليوم بهدوء لا تحظى به مناطق أخرى، لكن الجيش لم يزل ينشر قواته فى كل مكان رغم مرور أربع سنوات على إزاحته المفترضة ل(طالبان) من هناك. ما زال فضل الله طليقًا وما زال سائق حافلتنا قيد الإقامة الجبرية. لقد بات وادينا الذى كان فى الماضى مهوى للسياح ينظر إليه الآن باعتباره أرضًا للخوف. لست أدرى متى سأراه ثانية وإن كنت متيقنة أنى سأفعل يومًا ما. أصبح حلمى الذى يرادونى هو أن يسود السلام كل بيت وكل شارع وكل قرية وكل دولة وأن يحظى كل طفل وكل طفلة بحقّه فى التعليم.. أنا ملالا. تغيَّر عالمى ولم أتغيَّر».
يبدو أن «نوبل للسلام» لم تقع فى فخ المجاملات هذه المرة. هذه قصة كفاح ونضال تستحق أن تكون ملهمة لملايين، فمَن يفعل؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.