أعلنت «داعش» الخلافة وأصدرت بياناً دعت فيه كل المسلمين والجماعات الإسلامية إلى الانضواء تحت لوائها وإلا كانت آثمة وعاصية. وكلما تأملت فى مسيرة «داعش» قصيرة العمر، رأيت أنها لم تستفد شيئاً من حكمة النبى صلى الله عليه وسلم، السياسية، فى كيفية تعامله مع خصومه والناس. فالمتأمل فى سياسة «داعش» يجدها تتفنن فى صنع الأعداء وحشد الخصوم وتطفيش الأصدقاء.. ففى كل يوم تصنع عدواً دون مبرر.. وفى كل أسبوع تحول حليفاً إلى عدو.. فهى تكفّر كل الشيعة وتستحل دماءهم جميعاً دون استثناء، وهى تريد مواجهة شيعة العراق وتريد حرب إيران وتود لو أنها أزالت حزب الله من الوجود.. وهى تحارب فى الوقت نفسه نظام بشار، ناهيك عن كل الميليشيات الأخرى.. وكل هذه قوى لا يُستهان بها. وهى فى الوقت نفسه تريد غزو كردستان العراق وتسعى لتوسيع نفوذها فيها مع علمها بدعم أمريكا وإسرائيل لها.. وهى كذلك تتوعّد مصر حكومةً وشعباً بالويل والثبور وعظائم الأمور.. ناسية أن مصر هى أقوى دولة مستقرة الآن فى المنطقة.. وهى كذلك فى حالة تلاسن وصراع أيديولوجى مع «القاعدة» الأم التى يقودها د. أيمن الظواهرى.. إذ إنها تزايد عليه وتبالغ أكثر منه فى التكفير، حتى بلغت حد «السوبر تكفير».. إذ إنها تكفّر كل من تكفرهم «القاعدة» وتزيد عليها بأنها تكفّر كل الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية، مثل حزب النهضة فى تونس، والحرية والعدالة والنور والبناء والتنمية فى مصر.. إذ إنها تكفر كل من يرى الديمقراطية والحزبية سبيلاً للعمل السياسى.. وهى تطلب من زعيم «القاعدة» «د. الظواهرى»، أن يتوب عن دعمه للإخوان. وقد ذبحت من قبل رسولاً من جبهة النصرة جاء للصلح بينهما.. أى أن علاقتهما حتى بفروع «القاعدة» فى المنطقة علاقة سيئة مع أنهم حلفاء فى الأصل.. ولكن «داعش» حاصلة على الأستاذية دون منافس فى صنع الأعداء وتطفيش الحلفاء. الغريب أن «داعش» لم تكتفِ بذلك الحمق كله، فإذا بها ترسل رسالة إلى «أردوغان» بعد فوزه برئاسة تركيا: «أيها العلمانى سنحتل بلادك ونخرجك منها».. ناسية أن «تركيا أردوغان» هى البوابة الرئيسية التى تدفق من خلالها عشرات الآلاف من الشباب الذين تكوّنت منهم «داعش» و«جبهة النصرة» فى سوريا ثم انتقلوا بعد ذلك إلى العراق.. فهى تنظيمات متعددة الجنسيات «multinational»، وأن تركيا لو أغلقت حدودها خلال السنوات الماضية ما كانت هناك لا «داعش» ولا «جبهة النصرة».. ولكن «داعش» لا تعرف صديقاً ولا حبيباً ولا حليفاً.. فالكل لديها كفار يستحقون الموت والقتل واحتلال بلادهم وأرضهم.. والمصيبة أنها تهدد بأشياء أكبر من قدراتها بكثير. ثم تنتقل «داعش» إلى عداوة أكبر، فإذا بها تذبح صحفيين أمريكيين وتفخر بذلك أيما فخر، وتصور وقائع الذبح وتبثها فى العالم كله وكأنها تقول لأمريكا: «لن أدع لك أى خيار للسلام معى».. فهى تضع خياراً واحداً أمام أمريكا، حكومة وشعباً، وهو إفناء «داعش» وإنهاء وجودها.. بعد أن كانت أمريكا سبباً من أسباب وجودها بالتحالف مع تركيا وإسرائيل وبعض دول الخليج. أحياناً أتعجب لنزق «داعش» وإسراعها فى إغاظة أمريكا وجرها للحرب معها، وكأنها لم تقرأ شيئاً من التاريخ الحديث.. فنسيت دروس «هيروشيما ونجازاكى».. وكيف أن أمريكا لم يهمها أى شىء فى العالم كله وردّت على قصف اليابان لميناء بيرل هاربر الأمريكى بأشنع جريمة فى العصر الحديث.. وكيف أنها ردت على أحداث 11 سبتمبر باحتلال أفغانستان وقتل وجرح قرابة ثلث مليون أفغانى تركتهم «القاعدة» يواجهون مصيرهم، وفرت هى وقادتها إلى باكستان، حتى اكتشفت أماكنهم المخابرات الباكستانية والطائرات الأمريكية.. المهم أن الشعب الأفغانى المسكين هو الذى دفع ثمن حماقة «القاعدة» فى «11 سبتمبر».. وأعتقد أن العراقيين البسطاء فى مناطق السنة التى تقيم بها «داعش» هم الذين سيدفعون ثمن حماقاتها بعد أن يهرب معظم زعمائها ها هنا وهناك. وتستكمل «داعش» مسيرتها فتُخير مسيحيى الموصل التى تسيطر عليها بين الإسلام أو الجزية أو القتل، فيهرب معظم المسيحيين الكاثوليك فى الوديان والجبال وتحتل «داعش» ديرهم الأساسى فتتلقاهم فرنسا الكاثوليكية وهى تتمزق غيظاً من «داعش» وتتوعدها حتى إذا جاء هتاف أمريكا بالتحالف ضدها فإذا هى فى مقدمته. وتستكمل «داعش» هوايتها فتهدد «بوتين» بالقتل.. ثم تهدد داعشية بريطانية «كاميرون» رئيس وزراء بريطانيا بالذبح.. وهكذا تتوالى رسائل «داعش» النارية إلى كل مكان. فهل هناك دولة أو جماعة لديها ذرة من عقل فى العالم تفعل ذلك؟ وأى خليفة ذلك الذى لا تستطيع دولته صنع جنزير دبابة أو كاوتش طائرة مقاتلة أو إصلاح رادار تعطل، يهدد ويتوعد العالم كله بأسلوب كله كبر وصلف وإسفاف وابتذال مثل رسالة «إلى أوباما كلب الروم»؟ ألم يقرأ هؤلاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يحارب على جبهتين طوال حياته.. حتى إنه عندما نوى أن يحارب خيبر تصالح مع قريش ليؤمّن جبهتها.. وأنه عقد معاهدة دفاع مشترك مع بنى قريظة ليؤمّن ظهره قبل قدوم الأحزاب. ألم يقرأوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، استقبل فى عام واحد 46 وفداً دبلوماسياً من كل القبائل المجاورة لدولة المدينة حتى سماه كتّاب السيرة «عام الوفود».. وأنا أحب أن أسميه «عام الدبلوماسية النشطة». أما «داعش» فلا علاقة لها بأى دولة.. ولا تعترف بها أى دولة.. إنها تكرر مأساة دولة طالبان التى لم تعترف بها سوى ثلاث دول هى السعودية والإمارات وباكستان.. وكلهم قطع علاقتهم بها بعد 11 سبتمبر. إن «داعش» تفكر بنفس طريقة الأب الروحى لها «القاعدة» التى حاربت أمريكا فى 11 سبتمبر وبريطانيا فى تفجيرات مترو لندن وإسبانيا فى تفجيرات مترو مدريد ومصر فى تفجير السفارة المصرية فى باكستان والسعودية بعشرات التفجيرات والأردن بتفجيرات عمان وروسيا فى الشيشان وداغستان والمغرب بتفجيرات الرياض والدار البيضاء وأستراليا وإندونيسيا بتفجيرات بالى وفرنسا بتفجير المدمرة «كول».. أى أنها حاربت الدنيا كلها.. وهى أعجز وأضعف وأقل شأناً من حرب هؤلاء جميعاً.. ولذلك لم تنجح «القاعدة» فى إقامة دولة.. ولن تنجح «داعش»، ولا أى تنظيم تكفيرى فى بناء دولة، ولكنه قادر فقط على هدم الدول.. إنها الحكمة التى خلصت بها من حياة طويلة مملوءة بالتجارب العملية والدراسة المتأنية.. إن «داعش» لم تتعلم شيئاً من حكمة «معاوية» الذى كان يحافظ على شعرة العلاقة بينه وبين الناس.. فإن شدوها أرخاها وإن أرخوها شدها.