الصحف التابلويد صغيرة الحجم عادة تفيض عن الحاجة. تلال متلتلة لا تجد من يلتقطها لمطالعة العناوين الرئيسية ومتابعة الأخبار السطحية وملاحقة أبواب الحظ، ومواعيد السباق، وأحوال الطقس لعلها تسرع من وقت رحلة القطار. لكن هذه الأيام جد فى الأمور جديد، فما جرى فى سوريا رهيب. استيقظت بريطانيا «العظمى» سابقاً على كابوس يتحول حقيقة، وجهاد يدق أبواب بلد الحقوق والحريات والحق فى اعتناق الأديان ونبذها، وحرية ممارسة الشعائر أو تركها. الصفحات الأولى تحمل صورة لما قبل الذبح الرهيب لأمريكى على يد بريطانى. إنه الأمريكى جيمس فولى «40 عاماً» المذبوح فى سوريا على يد أحد أعضاء فريق «البيتلز» البريطانى الذى يجاهد أفراده هناك أملاً فى تأسيس الدولة الإسلامية فى العراق والشام، والملقبة إنجليزياً «آيزيس» والمختصرة حديثاً إلى «آيز» «IS» أو «Islamic State» أى الدولة الإسلامية. عملية الذبح تخضع حالياً لبحث وتحليل، وتنقيب وتفنيد من قبل كل الاختصاصات وجميع الخبرات بدءاً بكوادر MI5 «الاستخبارات البريطانية»، ومروراً بأساتذة اللغويات واللهجات، وانتهاء بآباء وأمهات وأصدقاء وجيران الدواعش البريطانيين. عناوين الصحف التى توزع مجاناً على ركاب القطارات فى لندن أيقظت الجميع على واقع مر «ربما حلو للبعض» ظنوا أنه حكر على سكان الجانب الآخر من العالم، حيث يجرى تشكيل الشرق الأوسط الجديد الموعود، وبث الفوضى غير الخلاقة فى أواصر العالم العربى المتناحر وأوصاله المتقاتلة وجهادييه وتكفيرييه المستقطبين لأقرانهم الغربيين، من ولد منهم مسلماً ومن تحول منهم إلى الإسلام فى بلاد الغرب «الكافر». غريب أمر المواطنين فى بريطانيا، لكن الأغرب هو أمر ساستهم. فعلى مدى ما يزيد على عام كامل مضى، تعامل المواطنون -بإيعاز من الإعلام البريطانى- مع أخبار اعتصام «رابعة» باعتباره اعتصام «العزة والصمود»، حيث الغضب الشعبى للمصريين «الشرفاء» على «انقلاب عسكرى» أطاح ب«رئيس شرعى» اختير عبر «طريق ديمقراطى»، هكذا قال لهم ساستهم، وهكذا صور لهم إعلامهم، لم تكن هناك إشارات إلى أن المعتصمين عبارة عن مجموعات من المغيبين، وجحافل من مسلوبى الإرادة تحت قيادة جماعة خلطت بين الدين والسياسة، والترهيب الدينى بالترغيب الدنيوى، والشاى والسكر والزيت بصناديق الاقتراع وحور العين، والسلطة السياسية المحلية والدولية بالمال الخيرى الدينى والتبرعات التى ستحمل الخير لمصر عبر طائر النهضة بجناحيه ومؤخرته. آخر ما كان يمكن تخيله فى عاصمة الضباب أن تجد مواطناً إنجليزياً أباً عن جد يحدثك بحماسة شديدة عن فض «رابعة» باعتباره مجزرة دموية وجريمة إنسانية فى حق المعتصمين ال«Cute» والمتظاهرين السلميين الذين هم فرع «مصرى» من جماعة «سلمية» تقوم ب«أعمال خيرية» لم يحدث أن خرقت قوانين إنجليزية أو خرقت أعرافاً بريطانية، بل تعيش فى أمان وسلام مثلها مثل غيرها من آلاف الجمعيات التى تمثل ثقافات وأدياناً ومذاهب وعقائد شتى فى بريطانيا، إحدى أكثر الدول متعددة الأعراق، متراوحة الأصول، متداخلة الثقافات. «ريتشارد» أو «ديك» يقول إن فى بريطانيا قوانين واضحة وقواعد حاكمة، فلا الجماعات تخرقها، وإلا تعرضت للمساءلة الرسمية، ولا الحكومة تتعداها، وإلا تعرضت للمساءلة الشعبية. «طالما طرفا المعادلة يحترمان القوانين، لا الحكومة قادرة على إيقاف جماعة بانتماءاتها الفكرية أو توجهاتها الدينية أو السياسية، ولا الجماعة «أى جماعة» قادرة على بث الفتنة، أو التحريض على الكراهية، أو تحفيز الإرهاب، على الأقل علناً أو بطريقة مباشرة». فبالورقة والقلم، وبحسب الأعراف والقوانين، واستناداً إلى المعايير والمقاييس، فإن جماعة الإخوان المسلمين وغيرها من الجماعات «الإسلامية» لا تبث الفتنة، أو التحريض، ولا تحفز على الإرهاب «علناً» أو «مباشرة». لكن النتيجة التى تواجه ريتشارد وملايين غيره هى أن مئات من مواطنيهم «تقدر أعدادهم رسمياً بنحو 500 بريطانى» صاروا من الدواعش. فريق «البيتلز» البريطانى الذى أنجز أحد أفراده والملقب ب«جون» مهمة ذبح الصحفى الأمريكى جيمس فولى سمى ب«البيتلز» تفكهاً على لهجة أعضائه البريطانية من قبل أحد الرهائن السابقين. لكن شتان بين «البيتلز»، أشهر فريق روك غنائى عرفه العالم بأغنيات الستينات عن السلام والحب، وفريق «البيتلز» البريطانى الذى عرفه العالم فى العام ال14 من الألفية الثالثة ضمن الفريق الداعشى الأكبر. ورغم أن البريطانيين لا يتجاذبون أطراف الحديث مع الغرباء فى وسائل المواصلات، أو يتبادلون وجهات النظر عن السياسة والدين والفن والحياة لتمضية الوقت فى رحلاتهم من وإلى العمل، فإن الوجوه التى تبتلعها صفحات جريدتى «إيفينينج ستنادرد» و«مترو» وغيرهما من الصحف المجانية هذه الأيام تنضح بالكثير من ملامح الرعب والعديد من معالم الترقب. الرجل السبعينى من «السكان الأصليين» -وربما الثمانينى بحكم نوعية الحياة الخالية من القرف ومكونات الهواء منزوعة الهباب- يعبر عن آرائه منزوعة التجميل الدبلوماسى والخالية من «الحقانية السياسية» Politically correct ويقول غاضباً: «هذه هى نتيجة فتح أبواب البلد على مصاريعها أمام الثقافات الغريبة عنا والمعتقدات التى تحض على العنف وترفض الآخر، لا أصدق أننى ظللت أكثر من خمسة عقود أسدد ضرائب وأدفع مستحقات مالية باهظة حتى يأتى «هؤلاء» إلى بلدى ثم يستثمرون أموالى لنشر التطرف والكراهية حيث أسكن، بل ويسافرون على حسابى ليقتلوا ويذبحوا ويرهبوا، أقل ما يمكن عمله هو أن يقوم هؤلاء الساسة الذين انتخبناهم بنزع الجنسيات عن أولئك القتلة فى الخارج وأقرانهم الجارى تجهيزهم فى الداخل». وفى الداخل، وتحديداً فى جنوب شرق لندن حيث أحد معاقل لندنية كثيرة للمسلمين من أصول مختلفة، يعم شعور ما بالاستنفار، فخبراء اللهجات يرجحون أن يكون «جون» منفذ عملية ذبح الصحفى الأمريكى فولى من سكان جنوب شرق لندن، الاستنفار يعود جانب منه إلى شعور بأنهم باتوا تحت المجهر، ليس فقط الرسمى وبالطبع الاستخباراتى والأمنى، ولكن كذلك بأن خطراً ما مقبل لا محالة، حيث تعداد البريطانيين المسلمين يزيد باطراد، ومشاعر مترسبة بالاضطهاد غير المعلن أو بالأحرى غير القابل للقياس أو الإثبات، بالإضافة إلى سنوات طويلة من الحرية والحقوقية لجماعات وأئمة على درجات مختلفة من مقياس ريختر للتطرف والتكفير يعملون بحرية مطلقة على أصعدة الوعظ والإرشاد. وقبل نحو عام ونصف استشعر بعض البريطانيين خطراً ما حين خطب إمام بريطانى «راديكالى» له قاعدة عريضة من المحبين والتابعين يدعى أنجم جوهاردى نهاراً جهاراً فى أتباعه مطالباً إياهم بالتخلى عن وظائفهم، والمطالبة بحقوقهم المالية التى يضمنها نظام الضمان الاجتماعى للحصول على إعانات بطالة وإعاشة وسكن من الحكومة وذلك للتفرغ لشئون نشر الإسلام والتخطيط لشن الحرب المقدسة ضد غير المسلمين. وقبلها شن حملة تطالب ب«الإمارات الإسلامية» مؤكداً حق مسلمى بريطانيا فى إعلان 12 منطقة «إمارات إسلامية بريطانية» تخضع لحكم الشريعة وضمن مشروع الخلافة. وما دمنا ذكرنا الخلافة التى كان يخطط لها فى مصر، ويجرى تجذيرها فى تركيا، وتأسيسها فى بلاد العراق والشام، ونشرها فى ليبيا وغيرها فقد طالب جوهاردى من قبل بضرورة تأسيس دولة إسلامية فى مصر، وذلك عقب ثورة يناير 2011. جوهاردى -أحد أوائل من عمل على إرسال مجاهدين بريطانيين للجهاد شرقاً فى تسعينات القرن الماضى- مجرد نموذج ضمن مئات النماذج البريطانية الإسلامية التى ترى أن الخلافة الإسلامية قد لا تكتفى بالمرور عبر بريطانيا، بل قد تبزغ منها. ومن «كريكلوود» -حيث مقر الجماعة الجديد فى شمال لندن المدار من قبل أقارب اثنين من مساعدى الرئيس الأسبق والذراع الرئاسية للإخوان الدكتور محمد مرسى- إلى «هوايت هول» (مقر الحكومة البريطانية) حيث تجرى المعارك الأخيرة المؤدية فى الأغلب إلى التقهقر والتمنع عن إعلان جماعة «الإخوان المسلمين» جماعة إرهابية، إلى «كورنوول» حيث يمضى رئيس الوزراء البريطانى ديفيد كاميرون عطلته الصيفية التى قطعها فريق «البيتلز» البريطانى بذبح الأمريكى فولى تدور دوائر الخلافة الإسلامية من الجزيرة البريطانية، حيث تدق طبول الحرب. طبول الحرب تتداخل فيها دقات شتى وتتشابك فيها نبرات أخرى. سير جون جنكينز، سفير بريطانيا لدى السعودية والمكلف من قبل كاميرون لشن تحقيق حول إذا ما كان يتحتم على بريطانيا إعلان الجماعة «المصرية» إرهابية أم لا، يميل على ما يبدو إلى عدم إعلانها إرهابية. سير جون يعرف أن بريطانيا تتعرض لضغوط سعودية وإماراتية لإعلان الإخوان فى بريطانيا «إرهابية»، لكن لعبة الضغوط تظل تخضع لنظرية النسبية. فرغم أن ما يسمى «جيل الجهاد» يقلق مضاجع البريطانيين، وهو الجيل الجديد من البريطانيين المسلمين المعتنقين لنظريات الجهاد وتكفير غير المسلمين وضرورة حمل السلاح، إن لم يكن مع «القاعدة»، فمع «داعش»، وإن لم يتيسر ففى داخل بريطانيا لتأسيس الخلافة وتطبيق الشريعة، فإن المصالح الدولية والعلاقات الكونية والنظرة طويلة المدى تدفع السياسة البريطانية إلى عدم اعتبار الجماعة فى بريطانيا إرهابية. وبحكم الخبرة، يرى المصريون علاقة مباشرة بين الجماعة صاحبة حلم الخلافة، و«داعش» منفذة الحلم. المصريون قادرون على الربط بين الغايتين، وهو ربط قائم فى أغلبه على مشاعر فطرية وخبرات عام من «النهضة» وسنوات من خيرات الشاى والسكر والزيت المحمولة إلى مصر. لكن البريطانيين أكثر براجماتية، وأقل عاطفية، هم غير قادرين، أو ربما غير راغبين فى إيجاد همزات الوصل، والتعرف إلى أوجه الشبه بين الدواعش والإخوان وأقرانهم من معتنقى «كوكتيل» فخفخينا الدين والسياسة. قبل أيام قليلة، مثل المواطن البريطانى عاصم على من سكان حى «ساوثهول» فى غرب لندن أمام المحكمة بتهمة تقديم الدعم المادى اللازم لتسفير مسلمى بريطانيا للجهاد فى سوريا، ورغم الصورة التى تود الحكومة البريطانية بثها عن نفسها بأن «كل شىء تمام» و«الأمور تحت السيطرة»، ويكفى خروج وزيرة الداخلية البريطانية تيريزا ماى قبل أيام لتؤكد أن بريطانيا نجحت فى منع دخول عدد من رجال الدين الداعين إلى العنف وحمل السلاح أخيراً، بالإضافة إلى طرد بعضهم من أراضيها «أبوقتادة المرحل إلى بريطانيا نموذجاً»، إلا أن البريطانيين -مسلمين وغير مسلمين- يعرفون أن الأجيال الثانية والثالثة والرابعة للبعض من مسلمى بريطانيا لديهم اكتفاء ذاتى فيما يتعلق بشئون التكفير، ومسائل التحريض، وزوايا الترهيب، وما يكفى من مواد بناء للخلافة الإسلامية إن لم يكن فى العراق والشام، فربما من سيدة البحار. فهل تحتفل «داعش» بتدشين «دابش» (دولة إسلامية فى بريطانيا والشام)؟