يجلس تمثال الكاتب المصرى القرفصاء، لا يفعل ذلك كسلاً، إنما يراقب، يدوِّن، يحفظ التاريخ من النسيان، ويكتب بقلمه حروفاً تضع الأحداث فى مكان خالد، بأسلوب رصين، وعبارات لا يقوى غيره على فعلها. الجبرتى سار على النهج ذاته، حيث صنعت مفكراته الشخصية مجلدات ضخمة، صارت فيما بعد مرجعاً تاريخياً لتلك الفترة الزمنية. أدباء مصر يتحدثون ل«الوطن» عن ذلك المشهد المهيب، وتلك اللحظة التى أعلن فيها رحيل الرئيس جمال عبدالناصر، كيف لم يمثل الخيال فقط بالنسبة إليهم تاج الحكاية، إنما الواقع المبعثر، جمعوا شتاته، وقدموه للقراء، مسجلين حقبة مهمة فى تاريخ الوطن. الاسم: الكاتب الكبير بهاء طاهر، المكان: موسكو، والسبب: انتداب لأسابيع فى اتفاق لمشروع تبادل إذاعى، كانت الحياة تسير بشكل طبيعى، البرد قارس كالمعتاد، والوجوه جامدة لا تتغير، يجلس الأديب الذى لم يفكر فى زيارة السفارة المصرية، ترك المصريين فى وطنه، فجأة، دون أى سابق إنذار، يعلن وفاة جمال عبدالناصر، يحال بهاء طاهر طفلاً، لا يصدق الوفاة، يهاتف أصدقاءه فى مصر، يسألهم فى لهفة عن صحة الخبر، يستجديهم النفى، يطلب منهم دليلاً على وفاة الزعيم الذى ملأ الكون بأسره. لم يدر كيف يتصرف، هبط من منزله، وركض فى اتجاه السفارة المصرية بتلقائية غير مستغربة، حنينه لرؤية وجوه من بنى وطنه كان ممضاً، وغربته فى بلد الصقيع تضاعفت، إحساسه كان ككل المصريين، حزن عميق، وأسى يكسو الوجوه، التى تحاول أن تصبر نفسها على فراق زعيمهم، بهاء طاهر حينها، كان كل ما دار فى خلده «مفيش حد دلوقتى أقدر أتعكز عليه». الروائى صنع الله إبراهيم لم يكن فى مصر وقتذاك أيضاً، كان فى ألمانيا، بمجرّد إعلان نبأ الرحيل، قطع إرسال التليفزيون، وكتب عليه جملة واحدة: «وفاة جمال عبدالناصر». حينها، لم يبد أى رد فعل، الجمود كان العنوان الوحيد لحالته، والذهول كان مسيطراً عليه، للحد الذى جعله لم يقوَ على التفكير فى مصير مصر، بالتدريج، بدأ فى إزالة ذلك الإحساس، لكن شعوراً بالخسارة الفادحة ظل مخيماً عليه، تلك الخسارة التى دفعته إلى التفكير فى أن موت عبدالناصر لم يكن عادياً، بل كان مدبراً من قِبل أمريكا أو إسرائيل، حيث كان كاسراً لشوكتهم. ما أعقب الوفاة مثَّل للأديب الكبير حالة من الهلع على المصير الذى ستؤول إليه البلاد، لا سيما مع تولى أنور السادات للحكم، وفزعه من سياساته. «كم قد مرحنا كم طربنا إذ طويناها، أيام أنس زاهيات كيف ننساها، من أجل أيام مضت من أجل ذكراها، فلنرفعن علم الوفا من أجل ذكراها». هذه الأبيات من نشيد الوداع، تقفز إلى ذاكرة الأديب علاء الديب، حين ترد لفظة موت جمال عبدالناصر، منذ أن عرف بنبأ الوفاة، وكان فى بعثة إلى المجر، حيث كان يقوم بترجمة عمل روائى، منذ ذلك الوقت ووفاة عبدالناصر تجعل موسيقى النشيد وكلماته شكلاً للوداع، الذى يشعر بغصته حتى اللحظة. وقتذاك، كره الترجمة والرواية التى يعمل عليها، كان عبدالناصر بالنسبة إليه فرداً أسطورياً، استطاع رغم كل مشكلات النكسة، أن يتوحد مع الناس، ومع اسم البلد ذاتها، لدرجة أن الناس أطلقوا عليه «عبدالناصر مصر». بعدما عاد إلى مصر، كان لسان حاله يقول: «حاسس بحالة من التوهان، وفضلت أبحث عن مخرج مفيش، لأن كل الموجودين صغيرين قدام عبدالناصر». يذكر الكاتب يوسف القعيد اليوم بحذافيره، كان اليوم «اثنين»، وكان واقفاً داخل كشك مدبولى، بغتة أذيع فى الراديو الخشبى بالكشك نبأ الوفاة، الكون من حوله أصبح مظلماً فجأة، كل شىء اصطبغ باللون الأسود، الحج مدبولى صدم رأسه فى الراديو غير مصدق، حتى كاد يشجه، فرد كان واقفاً فى المكتبة قال جملة بدت مستفزة لهم «كلنا حنموت»، فى إشارة إلى اعتيادية الخبر، تشاجر معه «القعيد»، دون أن يعرفه، لكن تبين بعد ذلك أن ذلك الشخص هو جمال حمدان نفسه. يصف «القعيد» اللحظة بأنها فارقة فى تاريخ مصر، وأن عبدالناصر لم يمُت موتة عادية، وإنما مات شهيداً، يحكى عن فضله الشخصى عليه وعلى بنى جيله، حيث أتاح له التعليم، رغم فقره المدقع: «لولا عبدالناصر، مكنش بقى فى يوسف القعيد». الروائى السكندرى إبراهيم عبدالمجيد كان فى حلوان قادماً من الإسكندرية ليلة أن سمع بالنبأ الرهيب، حاول البقاء لليوم الذى يليه، لكن الظروف أبت عليه ذلك، قرر السفر فى القطار يوم الجنازة، التى كانت كل أحلامه أن يسير فى ركابها، دلف إلى القطار، وجد المكان خاوياً على عروشه، إحدى عشرة عربة، أصابها الموت، كأن موت عبدالناصر أمات الأشياء أيضاً. قطار يمضى من القاهرة إلى الإسكندرية لا يحمل سوى ثلاثة: إبراهيم عبدالمجيد والكمسارى والسائق.. الكل ينزح من الأقاليم إلى القاهرة لحضور الجنازة المهيبة، والمشاركة بالدموع فى توديع رمزهم الخالد. طريق العودة، غلبت عليه مزيج من الوحدة والتأمل والقسوة، أحس أن نكسة يونيو قد تضاعفت، وتأكدت، حيث كان وجوده يصنع لديه إمكانية لرجوع الأرض.. «موت عبدالناصر قتل الأمل فى قلوبنا». حالة من التأهب القصوى، انتظار لأن يقود الزعيم جمال عبدالناصر الدفة بعد حرب الاستنزاف، ويمحى آثار الهزيمة الإسرائيلية، ذلك ما خامر الأديب مكاوى سعيد، الذى فاجأه إعلان نبأ الوفاة، ذلك الإعلان الذى جعل الصدمة ذات وقع شديد، وصنع حالة من الدراما، ما زال يذكر تفاصيلها حتى هذه الأيام. شارك فى الجنازة، تجمعوا فى ميدان التحرير، وساروا على غير هدى حتى المدفن، الأهل والجيران والأصدقاء يسيرون متجاورين، يغمرهم الشجن والتطلع ناحية المصير الغامض، غير واضح المعالم. حين يشاهد فى فيلم سينمائى لحظة الوفاة أو يذكره أحد بها، يقول مكاوى سعيد إنه لا يصدق كيف سار وسط جموع من البشر يغلب عليهم التشنج، يرحلون على غير هدى، فى جنازة، قد تدفع بك إلى الوفاة تحت الأقدام، من فرط الازدحام الشديد. «مكنش هاممنا حاجة غير إننا نودع عبدالناصر بنفسنا، يمكن الحزن يخف، بس مرارته لحد دلوقتى مخفتش». كانت الأديبة عبلة الروينى تنهى مرحلتها الإعدادية، لكن عقلها كان واعياً لكل ما يحدث، سمعت بنبأ وفاة عبدالناصر، فكان السؤال الذى أعياها: كيف تعيش مصر بعد جمال عبدالناصر؟.. بل الأحرى: كيف يعيش المصريون وعبدالناصر لا يوجد بينهم؟ وقتذاك، لم تكن تمتلك ملابس سوداء، لكنها ارتدت فستاناً كحلياً قاتماً، أصرت على النزول به إلى الشارع لكى تعلن حدادها إلى الجميع، قابلت فى طريقها أحد الأثرياء بالشارع، الذى كان يبكى بكاءً مُراً، رغم أن قرارات عبدالناصر قضت على معظم أملاكه، ذهبت إلى الجنازة، الشوارع كلها كانت شخصاً واحداً، موضوعاً واحداً، تفكيراً واحداً، كانت الحالة التى طغت عليها أن «القيامة قامت، ومش حيبقى فى حياة تانية، فقد ذهب عبدالناصر بلا رجعة». أخبار متعلقة: «الوطن» تحيى الذكرى ال42 لرحيل الزعيم: ناصر.. ما زال هنا «الإخوان» فى زمن «ناصر».. و«ناصر» فى زمن «الإخوان» «تعلب»: أنا الفلاح اليتيم بعد «جمال» «فرحات»: السمك فاض فى الستينات.. والتلوث يقتله الآن حلم النهضة الصناعية.. قتيل برصاصة «الخصخصة» جاهين يرثي الزعيم سعد ركيبة: عشت أيام الثورة والكاريزما عواض:«كان صعيدى جدع وشهم ودماغه ناشفة»