- أين ستكون صباح الأحد المقبل الثالث والعشرين من سبتمبر؟ - سأكون هنا فى المكتب. بعد برهة: - ولماذا السؤال؟ قلت: - إنه يوم عيد ميلادك ال 89. قال متضاحكاً: - يا راجل حرام عليك. هل يجب أن تذكرنى بهذه المناسبة بعد كل هذه السنوات الطوال؟ قلت له: - التذكير مجرد مقدمة لأهمية الاحتفال بهذه المناسبة. فالميلاد يعنى الحياة والاحتفال به والاحتفاء بيومه هو نوع من الفرح بالحياة نحن فى أمس الحاجة إليه. استغربت أن الأستاذ هيكل سيكون فى مكتبه يوم عيد ميلاده وليس فى برقاش. حيث تعوّد أن يهرب منا إلى هناك. فنستصعب الذهاب إلى برقاش ونكتفى بالاتصالات التليفونية. يوافق اليوم الأحد 23/9/2012 عيد ميلاد هيكل. وفى هذا اليوم نفسه من العام المقبل -يا ترى مين يعيش- سيكمل الأستاذ هيكل -بإذن الله تعالى- التسعين من عمره. وهى مناسبة أتمنى أن نحتفى بها ونحتفل بعطرها بالطريقة التى تليق بالرجل وبما قدمه من ثراء فكرى وأيضاً من دور صحفى عندما ترأس تحرير جريدة الأهرام وجعل منها عاصمة للعقل العربى والثقافة العربية والمثقفين العرب. ولأن هيكل -كان ولا يزال وسيظل- سؤالاً كبيراً يطرح نفسه علينا منذ كتاباته الأولى فى أربعينيات القرن الماضى. بالتحديد فبراير سنة 1942 حيث بدأ الاشتغال بالصحافة وحتى هذه اللحظة وسيظل هكذا إلى أبد الآبدين. فسأحتفل بعيد ميلاده على شكل سؤال: - لماذا كل هذا الصمت يا أستاذ هيكل؟ وهو ليس سؤالى إن شئت الدقة والموضوعية. ولكنه سؤال كثيرين -أعرف أقلهم ولا أعرف أكثرهم- يستوقفوننى فى الشارع. يستأذنون فى بعض الوقت ويكون سؤالهم: أين الأستاذ؟ هل هو فى مصر؟ أم أنه مريض يُعالج بالخارج؟ أو أنه آثر السلامة أخيراً ووجد راحة فى الصمت؛ لأن متاعب الكلام قد تكون أكثر بكثير من متاعب الصمت؟ رد الأستاذ هيكل على سؤالى بسؤال: - عن أى صمت تتحدث يا أستاذ؟ أعتقد أننى آخر من يُوجه له هذا الكلام. فما قلته وما كتبته وما أجريته من أحاديث تليفزيونية وصحفية ما زال ينتظر القراءة. وحتى بالنسبة للقارئ المتابع الجيد. ربما لا يكون قد انتهى مما صدر لى مؤخراً. قبل سؤال الأستاذ كنت قد سألت صديقى الأستاذ خالد عبدالهادى، العربى القومى الفلسطينى الذى يعيش فى عمّان بالأردن. والذى يحصى على الأستاذ هيكل حتى أنفاسه. ويتابع بدقة ودأب كل ما يقوله الأستاذ أو يُكتب عنه. بل إن اهتمامه وصل لأخبار عائلة الأستاذ هيكل وما يدور حولهم فى الإعلام المسموع والمرئى والمقروء. بصراحة أنا أحسد الأستاذ هيكل على أشياء كثيرة. ربما فى المقدمة منها دأب ومثابرة ومتابعة خالد عبدالهادى لكل ما يقوم به الأستاذ. سألت خالد عبدالهادى عن آخر كتابات وأقوال وأحاديث وآراء وتصريحات الأستاذ هيكل. رد علىَّ عن طريق الإنترنت بعد أقل من دقيقة بالآتى: - آخر ظهور إعلامى للأستاذ هيكل كان فى قناة الحياة المصرية يوم الاثنين 21 مايو 2012 مع الإعلامى شريف عامر. - آخر ظهور إعلامى للأستاذ هيكل فى قناة الجزيرة يوم السبت 29 أكتوبر 2011 مع الإعلامى محمد كريشان. - آخر لقاء صحفى مع الأستاذ هيكل كان فى جريدة الأخبار يوم الثلاثاء 14 فبراير 2012 مع الصحفى ياسر رزق، رئيس تحرير الأخبار فى ذلك الوقت. - آخر مقابلة صحفية باللغة الإنجليزية مع الأستاذ هيكل كان فى جريدة الإندبندنت البريطانية يوم الاثنين 8 مارس 2012 مع الصحفى روبرت فيسك. - آخر مقابلة أدبية كانت فى جريدة أخبار الأدب مع الأستاذة عبلة الروينى يوم الأحد 9 مايو 2012. وأضيف لما كتبه خالد عبدالهادى حوارات الأستاذ هيكل مع الزميل محمد عبدالهادى علام، رئيس تحرير جريدة الأهرام، التى تحدث فيها الأستاذ عن سايكس بيكو جديدة يجرى تنفيذها فى الوطن العربى الآن. وهى الفكرة التى أثارت الكثير من ردود الأفعال التى ما زالت مستمرة حتى الآن فى الإعلام العربى. وأيضاً أحاديث أدلى بها خلال رحلته الأخيرة إلى أوروبا. والتى عاد منها مؤخراً. حيث قضى هناك شهرين كاملين. أيضاً فإن أحاديث الأستاذ مع الزميل ياسر رزق، عندما كان رئيساً لتحرير الأخبار، صدرت فى كتاب احتوى على الأحاديث والتعليقات التى كتبت حولها. قال لى هيكل: - لقد أصدرت ثلاثة كتب عن مبارك، صدرت كلها عن دار الشروق، وأعتقد أنها ما زالت تُقرأ حتى الآن. فيها تصورى ورؤيتى لما جرى لمبارك من حادث المنصة حتى ميدان التحرير. وفى الجزءين الثانى والثالث وثائق ورسالات وكتابات نُشرت فى زمن مبارك نفسه. والمجلدات الثلاثة ما زالت فى حاجة للقراءة. سألته: - وقناة الجزيرة؟ لماذا لم تستكمل بها سلسلة أحاديثك: «تجربة حياة» وتركتها مفتوحة فى منتصف الرحلة؟ خصوصاً أنه يوجد الآن على الفضاء الإلكترونى كلام كثير لا أحب أن أردده أمامك عن نهاية علاقتك بالجزيرة. وموقفك من المحطة الذى دفعك لهذه النهاية التى لم يكن يتصورها أحد. أجابنى: - أولاً الكلام بينى وبين الجزيرة لا علاقة لى به. الذى تعاقد مع الجزيرة هو شريف إبراهيم المعلم؛ لأن دار الشروق هى جهة التعاقد مع القناة. ثانياً هناك عقد يجدد سنوياً بينى وبين الجزيرة. لم يتم فسخه. ولم يتم تجديده فى حدود علمى. ويمكنك سؤال شريف المعلم عن موعد تجديده.. وهل تم تجديده أم لا.. وما السبب فى ذلك؟ أخذ نفساً من سيجار فاخر وقال لى: - أرجوك لا أحب الخوض فى موضوع الجزيرة أكثر من هذا. وقد تكلمت معك فى لقاءات سابقة حول الموضوع. وكان كلاماً خاصاً ليس للنشر. أرجو أن تحافظ على ذلك وأنا أثق فى محافظتك. سألته: - أثناء وجودك فى لندن تحدث معك المسئولون عن دار نشر «هاربر كولينز»، وهى الدار التى تنشر لك كتبك بالإنجليزية وسط مجموعة من أهم كتاّب العالم الآن. تحدثوا معك عن كتاب تكتبه بالإنجليزية عن الربيع العربى، تتناول فيه ثورات: تونس، مصر، اليمن، ليبيا، وسوريا، وتتوقف أمام هذه الظاهرة المهمة بالتحليل والكتابة والدراسة. قال لى: - أولاً أنا لم أقل لهم لا نعم ولا لا. طلبت مهلة من الوقت حتى أكتوبر لكى أبلغهم بردى. ربما كنت أميل إلى الاعتذار؛ لأن مثل هذا الكتاب يحتاج عمراً جديداً ووثائق مهمة. والعودة لذكريات كثيرة. أتصور أن الباقى من الزمن قد لا يسمح بها. قلت له: - أنا الذى أتابع عن بعد أقول لك كانت بينك وبين معمر القذافى حوارات طويلة. منها لقاء كبير فى القصر الجمهورى بكوبرى القبة استمر ساعات. تصل إلى التسع. أيضاً ذهبت إلى حافظ الأسد فى سوريا ومكثت فى حوار طويل معه. لدرجة أنه نسى أن يقدم لك طعاماً للغداء أو العشاء. ثم إن علاقتك بالثورة اليمنية وبدورنا فى اليمن ممتدة ومتواصلة. وعندما قلت مؤخراً عبارة عن فكرة القبائل فى اليمن وتأثيرها على الثورة أتى إليك هنا فى مكتبك وفد يمثل أطياف العمل السياسى اليمنى محتجين على التضخيم من فكرة القبيلة فى اليمن. والتقطوا الصور التذكارية معك وعادوا راضين. حتى تونس التى نتصور أنها كانت بعيدة عن اهتماماتك كانت لك صلات هناك. وقد رأيت وجوهاً تونسية كثيرة هنا فى مكتبك. أما عن مصر -قلت مكملاً حديثى- فكل ما يجرى بصفة يومية تتابعه لحظة بلحظة. كان الأستاذ أمْيل للقول إنه لم يحسم أمره. لكنى أستطيع أن أدّعى أنه حسم أمره وسيكتب الكتاب بالإنجليزية لسبب بسيط أنه كانت على مكتبه وثائق ومراسلات وأوراق كثيرة تدور كلها حول فكرة الربيع العربى. سألته مداعباً: - من الذى أطلق تعبير الربيع العربى لأول مرة؟ ألم يأت لنا من واشنطن؟ اعتصم بسيجاره وصمته قائلاً: - لا تستبق الأمور يا أستاذ. الموضوع ليس رواية يجلس الإنسان ليكتبها. لكنه وقائع لا بد من التحقق منها والتأكد من كل تفاصيلها قبل أن يخط الإنسان الحرف الأول من الكلمة الأولى من الجملة الأولى من كتاب الربيع العربى.