خلف أبواب عنابر مستشفى العباسية للصحة النفسية، توجد عشرات القصص والحكايات التى تصلح لأن تكون عملاً درامياً مثيراً، اتخذ المرضى النفسيون من العنابر بيتاً لهم، ومن العاملين بالمستشفى والمرضى أصدقاء وإخوة بعد تخلى الأهل عنهم، الذين كتبوا عناوين خاطئة لتضليل إدارة المستشفى عن الوصول إليهم بعد تحسن حالات ذويهم، وعلى الرغم من السنوات الطويلة التى أمضاها المرضى فى المستشفى، فإن ذاكرتهم لا تزال جيدة وتفرق بين الطيب والشرير والمحسن والمسىء وواصلى وقاطعى الأرحام. «الوطن» زارت المرضى فى مستشفى العباسية واستمعت إلى قصصهم الغريبة للتعرف على أحوالهم وأوضاعهم فى عيد الفطر. يقيم معظم مرضى مستشفى العباسية للصحة النفسية اختيارياً بعد تحسن حالتهم الصحية والنفسية بعد سنوات عديدة قضوها فى المستشفى، ما يمثل عبئاً كبيراً على إدارة المستشفى التى تجد صعوبة كبيرة فى استقبال المرضى الجدد، ما ينتج عنه الكثير من المشاجرات بين أهالى المرضى الجدد والموظفين بالمستشفى، على حد وصف الدكتور سامح حجاج، نائب مدير المستشفى للتطوير، الذى قال: «بعض الأهالى يتركون المرضى ولا يعودون إليهم مرة أخرى، ويسجلون عناوين خاطئة ليضللونا عن الوصول إليهم بعد تعافى المرضى». طرقات وشوارع المستشفى العتيقة مظللة بالأشجار الشاهقة المنتشرة فى كل جنبات المكان، حركة السير من وإلى العنابر لا تهدأ، وسط الحديقة الفسيحة أمام عنبر 29 سيدات، جلست «نانسى»، تبلغ من العمر 30 سنة، على الكرسى بصحبة زميلتها «جيهان»، مرتدية ملابس مهندمة، لا تضع غطاء رأس على شعرها، وملامح وجهها هادئة لا تخلو من لمسة جمال نال منها الزمن والأحداث، دخلت مستشفى العباسية قبل 5 سنوات عقب انفصالها عن زوجها المسن ووفاة رضيعها بعد شهر من ولادته، تقول «نانسى» بثقة: «أنا فى هذا العنبر منذ 3 سنوات، وقبل ذلك كنت فى آخر، عندما توفيت أمى منذ 6 سنوات، عمتى قالت لى لازم تتجوزى يا نانسى عشان انتى تعبانة نفسياً وما يصحش تقعدى لوحدك فى الشقة ومفيش حد من إخواتك البنات راضى يقعدك معاه خليكى فى شقة أمك اتجوزى فيها». تصمت «نانسى» عن الكلام قليلاً وترجع ظهرها للخلف وتكمل قائلة: «اتقدم لى عريس يبلغ من العمر 60 سنة، وأنا كان عمرى وقتها 25 سنة، إخواتى رفضوه بسبب سنه، ولما اتجوزته اتبروا منى، عمتى بس هى اللى كانت موافقة عليه، قالوا لو عاوزة تتجوزه تتجوزه بس يجيب لها شقة، ما جابش لى أى حاجة ولا حتى الفستان، عمتى خدتنى من إيدى ورُحنا للمأذون وكتب علىّ هناك، أنا لىّ أختين بس وماليش اخوات صبيان، أقرب راجل لينا ابن عمى عنده حوالى 32 سنة، قالى: يا نانسى انتى تعبانة نفسياً هنقسم الورث عشان كل واحد ياخد حقه من الدهب بتاع أمى والفلوس، كل واحدة خدت نصيبها وسابوا أختهم اليتيمة اللى هى أنا». ينخفض صوت «نانسى» قليلاً ويمتزج بنبرة حزن وتقول: «ابن عمى ضحك علىّ وقال لى تعالى يا نانسى نروح نجيب العلاج من مستشفى العباسية وبعدين سابنى هنا ومشى، ومن ساعتها ما جاش بص علىّ من 3 سنين، عملها معايا 3 مرات، يقولى تعالى يا نانسى نجيب العلاج وييجى يرمينى هنا، للأسف أنا بعيط عشان محجوزة هنا وعاوزة أمشى عشان ما حدش بييجى يزورنى إلا عمتى كل 6 شهور واخواتى البنات ما حدش منهم بيسأل فىّ لا فى عيد ولا فى أى مناسبة، اللى مضايقنى إن الأطباء فى المستشفى لا يسمعون للمريض ولا يصدقون سوى روايات الأهالى». تضيف «نانسى»: «أنا متعلمة ومعايا دبلوم تجارة، ولو خرجت من هنا لن أذهب لابن عمى أو اخواتى، هفتح شقة أمى اللى فى السيدة وأعيش فيها، فى شهر رمضان بتفرج على رامز قرش البحر عشان بيضحكنى، ومسلسل السعادة بتاع عادل إمام، وهذا ثالث عيد فطر أقضيه لوحدى، العيد هيمثل لى إيه وانا محبوسة ومخنوقة؟ بناكل كحك وبنتفرج على المسلسلات وبنلبس ملابس جديدة إنما لو كنت فى بيتى كنت هاخرج واتشيك واتفسح أنا وعمتى، هى مكان أمى دلوقتى والوحيدة اللى بتزورنى من حين لآخر عشان سنها كبير برضه، كل ما تيجى تزورنى أقول لها خدينى معاكى، تقولى ما اقدرش، ابن عمك يعملك مشكلة، لكن لما أخرج إن شاء الله هحاول أشتغل، الدكتور قال لى يا نانسى لما تخرجى حاولى تشتغلى حتى لو هتقفى فى سنترال لأن قعدتك فى البيت هتفكرك بابنك اللى مات وهتتعبى تانى». إلى جوار «نانسى» جلست جيهان يوسف، سيدة ثلاثينية تحسبها فى الخمسين من عمرها من فرط الحزن الذى يغطى ملامح وجهها مع الشعر الأبيض المنتشر فى الرأس، صوتها هادئ جداً، وحديثها مرتب ومنمق، تقول: «اتجوزت وعمرى 19 سنة وخلفت بنت وبعدين اتطلقت، وعشت بعد كده مع أبويا وأمى لحد ما ماتوا هما الاتنين ورا بعض فى سنة واحدة، ومن ساعتها حصلت لى حالة اكتئاب شديدة لفراقهم وبدأت أشعر بالاضطراب النفسى، رحت قعدت عند أختى الكبيرة، وكنت عايشة حياتى الطبيعية أشتغل وأمسح البيت وأطبخ، لكن كنا بنتخانق أنا وهى مع بعض، كانت بتتلكك لى على أى حاجة، ومن سنة وشهرين أخويا جابنى هنا وقال عشان تبطلى تعملى مشاكل مع أختك، ومن ساعتها وانا هنا، أخويا بس اللى بييجى يزورنى، أما أختى فما بتجيش هنا». تنظر «جيهان» إلى العنبر ثم تعاود الحديث مرة أخرى قائلة: «بنتى عمرها دلوقتى 14 سنة فى الصف الثالث الإعدادى، شفتها آخر مرة من شهر، لما خرجت أجازة لمدة أسبوع ورجعت تانى، قعدت معايا أسبوع كامل، كنت مبسوطة بيها لأنى بحبها قوى، وأكتر كلمة بحب أسمعها منها لما بتقولى يا ماما، ما بنرضاش نجيبها هنا عشان العيانين، قبل المرة الأخيرة اللى شفتها فيها قعدت سنة كاملة من غير ما أشوفها، هى قاعدة مع أبوها دلوقتى. وعن قضاء العيد بالمستشفى، تقول «جيهان»: «العيد بيكون كويس هنا، بيحمّونا ويلبسونا لبس جديد، وبيجيبوا لنا كحك، فى رمضان ما كنتش متابعة المسلسلات عشان بيقلبوا عليها وبيجيبوا أغانى، الأطباء بيقولوا عندى اكتئاب، لما بابا وماما ماتوا زعلت عليهم قوى، لكن قبل كده كنت عادية جداً وبتصرف بشكل طبيعى، قلت للريسة عاوزة أخرج نهائى، اتصلت بأخويا وقالها هاجى أتكلم معاها عشان كده خايفة يزعقلى ويزعلنى عشان هو مش عاوزنى أخرج عشان ما نتخانقش أنا وأختى». منى عنتر، سيدة أربعينية شديدة الثقة بنفسها، ترتدى ملابس مهندمة، تحب الحديث مع الجميع والتعرف على الأصدقاء الجدد، لا تشعر إطلاقاً أنها مريضة نفسياً من فرط الحديث عن نفسها وعن شطارتها، تجلس «منى» فى غرفة متابعة الممرضين وتقول فى هدوء: «أنا كنت تعبانة شوية فى البيت ولا كنت عارفة أروح ولا آجى، وقعدت أعيط وجابونى هنا على طول من شبرا مصر، أمى عايشة وسنها كبير وبتيجى تزورنى على طول هى وأخويا، أبويا بقى اللى اختفى خالص ما شفتوش من زمان». تعتدل «منى» فى جلستها وتستعد لاستقبال باقى الأسئلة ثم تجيب بطلاقة عن أحوالها فى المستشفى قائلة: «أنا بعمل كل حاجة بنفسى، بساعدهم هنا فى المستشفى، وبنضف تحت سريرى، شطارة زيادة بصراحة، فيه ناس هنا ما بيعرفوش يعملوا زيى كده، لكن وأنا صغيرة ما كنتش بعمل حاجة خالص، لكن لما جيت هنا فى العباسية بقيت حلوة وأهلى طلبوا إخراجى من المستشفى، لكن الأطباء قالوا لما نتأكد إنها بقت كويسة ابقوا خدوها، وانا مشيت على علاج الدكتور والحمد لله مستريحة».