قبل عشر سنوات، اكتشفت أن كلمة «ميدان» باللغة الأوكرانية لها نفس المعنى والنطق كما فى لغتنا العربية! كنت حينها موفداً إلى كييف لتغطية أزمة سياسية حادة، سرعان ما أطلق عليها الوصف الشهير: الثورة البرتقالية؛ نسبة إلى الشارات ذات اللون البرتقالى التى كان يرفعها الآلاف من أنصار المعارضة فى ميدان الاستقلال، مطالبين بإعادة فرز الأصوات فى انتخابات الرئاسة لاعتقادهم أنها زُورت لصالح المرشح الموالى لروسيا فيكتور يانكوفيتش ضد المرشح المدعوم من الغرب فيكتور يوشينكو. فى اليوم الأول لوصولى، تأملت المشهد من غرفتى فى فندق أوكرانيا العتيق المطل على الميدان، فأيقنت أننى أمام الحلقة الثانية فى مسلسل تابعت حلقته الأولى قبل وقت قصير فى جورجيا، حين خلع المتظاهرون رئيسهم العجوز شيفارنادزه ونصَّبوا بعد عدة أسابيع زعيمهم الشاب ساكاشفيلى، الذى لن أنسى صوته المخنوق بدموع الفرح فى ليلة النصر وهو يؤكد لى أن الفضل الأول فى نجاح ثورته الوردية يعود لأحرار العالم وفى مقدمتهم الرئيس الأمريكى جورج دبليو بوش ومواطنه رجل الأعمال جورج سورس! عشت أياماً طويلة فى كييف أنقل بالصوت والصورة ما يجرى فى ميدان الاستقلال وداخل مقرات البرتقاليين، فيما تزداد قناعتى كل يوم أن مَن شكرهم ساكاشفيلى فى جورجيا سيتلقون آيات العرفان نفسها من يوشينكو وتيماشينكو فى أوكرانيا، وهو ما حدث فعلاً حين شهد الميدان إعلان إعادة فرز الأصوات بين يانكوفيتش ويوشينكو، ثم الاحتفال بفوز الأخير بالرئاسة! لكن أكثر الناس تشاؤماً لم يتخيَّل أن الميدان نفسه سيشهد فيما بعدُ احتجاجات عارمة ضد زعماء الثورة البرتقالية الذين انشغلوا بتقسيم كعكتها، وبرد الجميل لمموليها من رجال الأعمال وللغرب الذى دعمها سياسياً ومادياً! لم يعبأ أصحاب السلطة الجدد بزيادة نسبة الفقر وارتفاع معدل البطالة وتفرغوا لصراعاتهم على النفوذ والثروة، مما جعل الأوكرانيين يدفنون أحلامهم ويقررون العودة إلى الميدان من جديد، ممهدين الطريق لوصول يانكوفيتش إلى الحكم من خلال انتخابات رئاسية شهد الغرب بنزاهتها عام 2010، وكأن قَدرَ الأوكرانيين الاختيارُ بين السيئ والأسوأ! من الصعب على المتابع لشئون الجمهوريات السوفيتية السابقة أن يجد فروقاً جوهرية بين زعمائها.. بعض هؤلاء فى آسيا الوسطى كان ماركسياً أكثر من «ماركس» نفسه، لكنه لم يخجل بعد انهيار الشيوعية أن يجعل القسم على القرآن الكريم ضمن مراسم حلف اليمين فى كل حفل تنصيب بالرئاسة! تتغير الوسائل تبعاً للظروف أما الأهداف فتظل واحدة وتتلخص فى سلطة مطلقة وتكديس أموال فى بنوك سويسرا للأبناء والأقارب والمحاسيب وجماعات المصالح؛ لذا لم يكن ثمة اختلاف بين أهداف الحسناء يوليا تيموشينكو ومنافسها فيكتور يانكوفيتش.. خرج الاثنان من مدرسة الحزب الشيوعى السوفيتى، وكلاهما تمتلئ صحيفة سوابقه الجنائية بجرائم نصب واحتيال.. الفرق أن تيموشينكو مدعومة من الغرب بينما يانكوفيتش مؤيَّد من روسيا! لذا لم يكن غريباً أن يسعى كل منهما عند وصوله إلى السلطة إلى سجن الآخر، واستخدام منصة الميدان نفسه لتبادل الاتهامات بالخيانة والعمالة، وإطلاق الوعود الكاذبة للشعب بالرخاء والنماء! فى لعبة الكراسى الموسيقية الأوكرانية، عندما فاز يانكوفيتش بالرئاسة عام 2010، كان من الطبيعى أن يصبح السجن مأوى عدوته اللدود تيموشينكو.. لكن الرئيس القادم على أنقاض فشل الثورة البرتقالية حاول الرقص على كل الأحبال، أراد مغازلة الغرب بينما هو على ذمة موسكو فخسر الاثنين معاً! كان واضحاً خلال الأشهر الثلاثة الماضية أن الكلمة عادت إلى الميدان من جديد، وأن التنازلات التى قدمها يانكوفيتش للمعارضة غير مجدية؛ لذا لم تفلح محاولات الزعيم الروسى فلاديمير بوتين فى الإبقاء على نظام الرئيس الأوكرانى رغم يقين «بوتين» أن الظروف لم تسعف يانكوفيتش ببيع تحالفه مع موسكو إلى واشنطن! فى 2004 كنت منبهراً من مظاهرات الأوكرانيين واعتصامهم فى الميدان عدة أسابيع دون أن يجرح شخص واحد، رغم أن أمتاراً قليلة كانت تفصل بين أنصار المعسكرين.. كنت أتجول مع زملائى الإعلاميين فى كييف ليلاً ونهاراً بحرية ومن دون خوف.. تبدل الحال هذه المرة وسقط العشرات قتلى وجرحى.. تنامت مشاعر الكراهية وأطلت من جديد دعوات انفصال الأقاليم الشرقية الناطقة بالروسية، فضلاً عن مطالبة زعماء من شبه جزيرة القرم بالعودة إلى أحضان موسكو رداً على تهديدات من منظمات يمينية متطرفة! تتداخل صور المشهد الأوكرانى المضطرب، وتزداد المخاوف من تحول البلاد إلى ساحة نزاع أخرى بين روسيا والغرب، فيما ينتظر العالم رد قيصر الكرملين على تطورات تمس أمن بلاده القومى، ويراقب الجميع الوسائل التى ستدعم بها واشنطن حلفاءها فى كييف.. وسط ذلك كله تبرز قناعة مفادها أن الدماء التى سالت فى ميدان كان رمزاً للثورات المخملية، حوّلته إلى أحد ميادين الانتقام.. ربما لو نطقت أركانه لتساءلت مرعوبة عن موعد الثورة التالية! مسكينٌ ذلك الميدان، بل مسكينةٌ كل الميادين فى أوكرانيا.. وفى بلدان أخرى!