تحدث الكثيرون عن المناظرة التليفزيونية التى شهدتها مصر للمرة الأولى فى تاريخها، بل وفى التاريخ العربى وربما الإسلامى أيضاً (الخميس 10 مايو). وصحيح أنها تمت بين اثنين فقط من مرشحى الرئاسة؛ لكنها عبرت بشكل واضح عن جوانب متعددة من الحالة التى تسود الساحة السياسية المصرية وأحداثها المضطربة خلال المرحلة الانتقالية. أما على المستوى الخارجى فقد عبرت المناظرة عن عدم وضوح الرؤية الاستراتيجية الخاصة بعلاقات مصر الخارجية، فى المستقبل، وخاصة العلاقات الإقليمية منها. ورغم الكلمات المرسلة حول ضرورة إعادة تفعيل هذه العلاقات من أجل المصالح المصرية، فلم يتطرق الحديث إلى تبيان هذه المصالح أو السياسات التى يمكنها تحقيق هذه المصالح؛ اللهم إلا ما يخص دول منابع نهر النيل. لقد غابت دولتا الجوار العربى، إيران وتركيا، عن المناظرة، كما عن برامج بقية مرشحى الرئاسة. ولعل المتابع لمجموعة اللقاءات التليفزيونية مع أبرز المرشحين لهذا المنصب الرفيع يمكن أن يتبين هذا بسهولة، حيث تبدو المسألة وكأنها كلام عام، مبهم، لا يرقى إلى مستوى رؤية سياسية استراتيجية فى كيفية صياغة علاقات دمرها نظام ظل جاثماً لفترة تمتد فى الحقيقة إلى أكثر من أربعين عاماً وليس ثلاثين كما يحاول البعض أن يصورها. وحديثنا، هنا، هو دعوة إلى مرشحى الرئاسة للنظر، أو إعادة النظر، فى مستقبل علاقات مصر الإقليمية، وتحديداً بكل من إيران وتركيا، استناداً إلى رؤية واضحة تعتمد المكانة اللائقة لتاريخ مصر وموقعها فى محيطها العربى، وتأخذ فى اعتبارها أهم النقاط التى تشير إلى الخطوط العامة، السياسية والاستراتيجية، وتتحكم فى كل من المنظورين الإيرانى والتركى تجاه المنطقة العربية. ضمن هذه النقاط، تكفى الإشارة إلى الثلاث التالية: فهناك، من ناحية، التنافس التركى الإيرانى حول «قيادة العالمية الإسلامية»، وما يمكن أن يمثله من ضغوط هائلة على النظام العربى، المتهالك أصلاً.. وهنا، يمكن ملاحظة الاعتقاد التركى فى كونها تمثل البديل الذى تفضله «النخبة» السياسية العربية، خاصةً تيارات الإسلام السياسى، وهو ما تأكد مؤخراً ليس فى مصر فقط، ولكن أيضاً فى بلدان عربية عدة، إذا لاحظنا أسماء الأحزاب السياسية الإسلامية التى تأسست حديثاً. أما إيران، فتعتقد أنها تقدم «النموذج الثورى» لحركات الإسلام السياسى، غير الحزبية؛ خاصةً فى إطار معارضتها للهيمنة الأمريكيةوالغربية عموماً.. وهو ما يدفعها إلى التحرك على المستوى الداخلى من الشئون العربية. ولنا أن نلاحظ، هنا، كيف ثارت إيران ضد حذف شركة «جوجل» لاسم الخليج الفارسى من خريطة الممر المائى الذى يفصل الهضبة الإيرانية عن شبه الجزيرة العربية، أى: الخليج العربى.. وهى مسألة ذات دلالة فى التوجهات السياسية الإيرانية تجاه العرب عموماً ومستقبل العلاقات مع «مصر الثورة» بوجه خاص. وهناك، من ناحية أخرى، التنافس التركى الإيرانى حول «النفوذ» فى شمال العراق، حيث يمكن ملاحظة مزاحمة إيران لتركيا فى هذه المنطقة، التى تأتى فى اتجاه إفشال المحاولات الكردية فى «تقرير المصير»، خوفاً من تطلعات الأكراد فى إيران، وفى سوريا أيضاً. وهى مسألة ذات دلالة بخصوص احتمالات إعادة ترسيم وهيكلة منطقتى الشام والرافدين، تلك التى مثلت تاريخياً أهم بوابات الأمن القومى المصرى: منذ أن غزا الهكسوس مصر إلى أن قامت الدولة الإسرائيلية على أرض فلسطين. ومن ناحية أخيرة، هناك التنافس التركى الإيرانى حول «الترتيبات الأمنية» فى منطقة الخليج العربى، حيث يمكن ملاحظة مدى الأهمية التى تتمتع بها هذه المنطقة بالنسبة إلى كليهما، خاصةً فى ظل المحاولات الغربية الهائلة لتحويل معادلة «الشرق الأوسط» من «النفط - التكنولوجيا» إلى «النفط - المياه». وهنا، يمكن ملاحظة أن أى إخلال بالتوازن الاستراتيجى لصالح إيران يعتبر مساساً بالأمن القومى بالنسبة إلى تركيا. وفى الوقت نفسه، تمثل هذه المنطقة رأس الرمح الغربى، وقواعده العسكرية، فى تهديد إيران لمحاولتها السير فى برنامجها النووى. ولنا أن نلاحظ، فى هذا الإطار، دلالات تشكيلة الحكومة الائتلافية فى إسرائيل التى تتضمن ثلاثة من أركان الحرب فى الجيش هناك، بما تدل عليه من احتمالات مفتوحة بخصوص إيران.. والأهم، مستقبل مصر. هذه مجرد نقاط تؤشر إلى أهمية وجود رؤية استراتيجية واضحة لمن يريد أن يتبوأ المنصب الرفيع على الساحة السياسية المصرية.. إذ لا تكفى الأمنيات، أو مجرد الكلمات العامة والمرسلة لبناء «مصر المستقبل».