نيرانه تبعث الحرارة في كل من يلتف حوله، تجعلهم يشعرون بالدفء في هذا الشتاء الشديد البرودة. إنه "الكانون" أو "الموقد البلدي"، ذلك المكيف الطبيعي في مواجهة صقيع الشتاء الذي لا يرحم كل من يواجهه بالاستهانة، استطاع هذا الاختراع البدائي أن يلم شمل أسر وعائلات الصعيد من جديد بعد أن فرقتها مشاغل الحياة الحديثة. لم يقتصر "الكانون" على فقراء الصعيد الذين يستعينون به ليملأ أجسادهم بالدفء، ويغنيهم عن الغطاء المحرومين منه، بل إنه أصبح في كل منزل وديوان عائلة بقرى الصعيد ليستعيد ماضيه البعيد السعيد، حينما كان هو مدفأة الجميع، وذلك قبل أن تتطور الحياة وتتحسن الظروف الاقتصادية عند الكثيرين ومن ثم توفر الغطاء عندهم. أهل الصعيد، وخاصة الفقراء منهم، يقومون بتخزين البوص وجمع حطب الأشجار من بقايا زراعات الصيف في مكان آمن حتى يهل فصل البرد، ويتم نقل أجزاء منه كل مساء لاستخدامها في الفرن للتدفئة، والحماية من قسوة الجو. وتحرص ربات البيوت القائمات على "الكانون" في البيوت على إحضار ما يلزم من حطب، وتقطيعه إلى قطع صغيرة في فترة العصاري قبيل دخول الليل بعد المغرب مباشرة، ويقمن بإشعال النيران، ووضع الأطفال في المقدمة تحت حراستهن، ليمدوا أيديهم الصغيرة قرب ألسنة اللهب لاستجلاب الدفء. يقول علي الصغير شيخ نجع القمبرة، إن ديوان كل عائلة من عائلات الصعيد لا يخلو من "موقد بلدي"، يلتف حوله أهل كل ديوان من كبار وشباب العائلة، وغالبًا ما يتم شراء الحطب بالقنطار من تجار الخشب المقطع، ويتم تجميع ثمن الحطب بفرض مبلغ معين على كل فرد قبل حلول الشتاء. وتابع الصغير: يكون الجلوس في الديوان مساء كل يوم حول الموقد البلدي أو الكانون سببًا في أن يخرج كل شخص همومه التي يحملها، والعمل على حلها بين أفراد عائلته، لافتًا أن الكل يحرص على الحضور.