الشتاء البارد هو من امتحان الفقراء والأغنياء، والنتيجة معروفة سلفاً، فالتعساء من سكان القبور والعشش والأكواخ، يشعرون بأنهم مستهدفون من البرد، معرضون للأمراض، إذ لا طعام سمين يدفع برح الجوع ويولد الدفء ويجدد الطاقة ولا كساء لأن الفقر المتأبد يحول دون السلامة، أما الأغنياء فسماؤهم في الشتاء غير ملبدة بالغيوم الداكنة، ولا مطر يهطل عليهم، ومشاعرهم منتعشة ومغيبون عن تقلبات الطقس في البذخ والترف، حتي الصقيع شفيق بهم رفيق، وكيف يرهبون الشتاء وعواصفه الراجفة، ولديهم الطعام والرياش، وثقيل اللباس، وكل ما ينشط الأجساد؟ والكافات والقافات تعبر بإيجاز عن أحوال الأغنياء والفقراء عندما يأتي الشتاء ومنذ القدم ذكر الأثرياء المنعمون الحاجات التي تحميهم من غوائل البرد وأخطاره، وفاخروا بامتلاكها، وسموها بأسمائها، وعددوها وأطلقوا عليها الكافات لأن اسم كل واحدة منها يبدأ بحرف الكاف، وأشهرها كافات الشاعر ابن سكرة الهاشمي في القرن الرابع الهجري، وأحد شعراء «يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر» للثعالبي الذي قال: جاء الشتاء وعندي من حوائجه سبع إذا القطر عن أوطاننا حبسا كن وكيس وكنون وكاس طلا مع الكباب وكف ناعم وكسا أي إذا نزل المطر، وحال دون خروجه من بلدته فعنده بيت بهي يجوس فيه، ويصد عنه العواصف العاصفة والأمطار الهاطلة، والمال الكافي لتحقيق الغايات والنار المنبعثة من مستوقد «كانون» والخمرة التي تفرق الهموم، واللحم المشوي علي اللظي واللهب، والمرأة الناعمة الملمس التي تنظر إليه بعين حافلة بالسحر والشعر والكساء المميز. هذه هي الكافات أو الحاجات السبع التي ذكرها الشاعر في بيت واحد، والتي إذا توفرت سببت الحياة الرخية الرغدة، وأضعفت تأثير الشتاء. والشاعر يخبرنا بأنه يمتلك الحاجات السبع عندما يقول «عندي» أما قوله: «عندي من حوائجه سبع» فيثير استفهاماً مفاده: هل للشتاء حوائج أخري غير ما ذكر؟ لقد تضمن بيته الحاجات الأساسية من مأكل وملبس ومسكن ومال، وزاد عليها من ضروب الترفيه الحسي، والتفكيه النفسي المرأة الناعمة والخمرة مما يجعله هازئاً ببرد الشتاء. وكافات ابن سكرة الهاشمي أشهر الكافات وأكثرها انتشاراً وترديداً، لكن هناك كافات أخري جاءت علي غرار الكافات السابقة ومنها كافات ابن مسعود الذي أضاف كافاً ثامنة ويقول فيها: سمعت من الكافات فيها ثمانياً فما شئت من مرأي أنيق حوي الحسنا كبابا وكيزانا وكيسا وكاعباً كساء وكوبا والكوانين والكنّا أضاف كوزا للكافات السالفة، وهو لا يمنح سعادة أكثر، ولا يظهر غني أوسع فيمكن للمرء أن يتجرع الماء والخمر بالكوز والكوب، ولكن شعور ابن مسعود أوفر، لذكره المنظر الأنيق، والحسن البهيج وهما من متممات السرور. وإذا كان ابن مسعود قد زاد كافا ثامنة، فان الشاعر تميم بن المعز لدين الله الفاطمي جعلها ستا أي أنقص منها واحدة، فأصاب كافاته عوار يقول: ورد علي الأرض الغمام ثيابه فعم والقه في عدة وحراب بكن وكانون وكاس مدامة وكيس وكف وافر وكباب ولا أدري لماذا نسي تميم كاف الكساء، هل لأن الوزن قضي بذلك؟ أم لأن المرء بطبيعته يرتدي ملابس فليس ما يدعو لذكرها؟ ولكن الشتاء لا تجدي معه الأردية العادية، فلابد من ملابس صوفية ثقيلة تشع الدفء، وابن سكرة عندما ذكر الكساء فانه كان يعني ما يدفئ منها شتاء. وهؤلاء الشعراء وغيرهم من السراة الذين زفت الحياة لديهم الكافات، وأفاضت عليهم من سرورها، هم الذين يأكلون حتي تسترخي بطونهم، ويسيرون في الأرض مرحاً، وهذه الجمهرة من الناس، لم يكونوا في الزمن الخالي فحسب، وانما هم موجودون بيننا الآن، وكافاتهم أكثر من القدماء. علي أن الكافات ليست هي التعبير الوحيد عن غني الغني في الشتاء، فهناك من يطلق عليه «هضوم الشتاء» وهو الثري الذي يكثر من الانفاق في فصل البرد ومن هذا قول قائل عن واحد من أهل اليسار «سمحاً هضوماً في الشتاء الأروق». القافات أما الفقراء الذين يرمي بهم البرد والجوع في هاويات الشتاء أو الشقاء ويحيون حياة بدائية، فليس لديهم كاف واحدة تحول دون قفقة الجسد، وقشعريرة البدن واصطكاك الأسنان، وقلما يجدون من يعالج آلامهم، ولا مندوحة من مد أيدي بعضهم إلي الأثرياء، لذلك يكثر الشحاذون والمتسولون في فصل البرد. ولعل الوسيلة عند هؤلاء المساكين في التدفئة هي جمع أشياء من أطلال الطبيعة كالحطب اليابس، وفروع الشجر الجافة، وجزوع نباتات ملقاة، ثم يشعلون النار فيها ليلاً، ويتحلقون حولها، ويمدون أيديهم قرب ألسنة اللهب، ويحملقون إليها ويقولون «الدفء بالعين» ويسمون النار «فاكهة الشتاء» ويا لها من فاكهة ثم يتسلون بالأسماء والحكايات، وهم يستدفئون بصهد الجمر واللظي. وإذا كان للأغنياء كافات سبع، تزيد أو تنقص، فان للفقراء قافات سبع، عبر بها عن أحوالهم شاعر وقال: قِل وقر وقلب موجع وقلا وقادر هاجر، والقيل والقال فال «قِل» بكسر القاف ضد الكثرة، والفقير ليس عنده شيء فصوامعه خالية، والقر هو البرد، والمقرور تطارده الرياح الشمالية وتنشر حوله الصقيع، فيتيبس جسده، و القلب الموجع تعبير عن البؤس والإحساس بالهزيمة في الحياة، والقلاء ضرب من البغض والهجر، والشاعر ربما كان يمهد «للقادر الهاجر» التي يعجز زوجها عن إسعادها فتبغضه، وتفر من وجهه ربما إلي صحاب الكافات، أما القيل والقال وسرد الأخبار والحكايات فهي تسلية العاطلين المعدمين الفقراء. الآثار الاجتماعية وتُظهر الكافات والقافات حرص الرجال علي النساء لأنهن من أسباب الدفء ومطالب الشتاء مع فارق يبدو بين الفريقين هو أن نظرة الأغنياء إلي المرأة هي نظرة المستهامين بها، وبقوامها يتبدي ذلك من أوصافهم لها مرة بالكاعب أي البارزة الصدر، وأخري بالناعمة وثالثة بالكف الوافرة الممتلئة، وهي أوصاف لأنثي نابضة زاخرة بالحيوية، متوهجة مبهرة للحواس، ومثل هذه الأوصاف تنم عن أغراض الأثرياء في تحقيق اللذة والنشوة. أما الفقراء فالمرأة عندهم ليست جنساً خالصاً بل هي سلوي ونجوي وتعزية في الشتاء، وذكر شاعر القافات لزوجه الفارة ضمن آلام الشتاء، مرده إلي إحساسه الشديد بفقدها في هذا الفصل الذي يحتاج فيه إلي الدفء والحنان، وذكر هؤلاء وهؤلاء للمرأة في الشتاء يساير أقوال آخرين، فقد ذهب أبوحيان التوحيدي في الليلة العاشرة من ليالي «الإمتاع والمؤانسة» إلي أن الرجل يميل إلي المرأة شتاء، و من قبل قال المنخل اليشكري الشاعر الجاهلي: «ولقد دخلت علي الفتارة الخدر في اليوم المطير» أي تزوج شتاء في يوم ممطر، وحتي المعلم الأول أرسطو أي يري أنسب الأوقات للزواج هو فصل الشتاء، وهذا يبين أهمية المرأة وضرورتها في زمن البرد. وموضوعنا هذا ليس أدبياً خالصاً، وانما فيه أبعاد اجتماعية ونفسية علي درجة كبيرة من الخطورة فأصحاب القافات الذين لا يمسح أحد دموعهم، يرفضون التعاسة التي حاقت بهم، ويجدون أنفسهم في وضع يغريهم بالجريمة، قد يرتكبون أفظع الجرائم أو يتجمعون ويخرجون علي القانون ويعرضون المجتمع لهزائز قد تهدد تماسكه، وثورة الزنج، علي سبيل المثال، هزت الدولة العباسية، وكادت تقضي عليها، وليس مبالغة قولنا إن الكافات تحض القافات علي التمرد والعصيان ولا أذهب إلي أن الفقر وحده يحث علي التغيير بالقوة ولكنه سبب قوي من أسبابه، ولابد من علاج المشاكل المزمنة قبل أن يحارب المجتمع بعضه بعضاً. وليس هذا فحسب، وانما الحرمان والمرارة والسغب التي يعانيها أصحاب القافات تولد في نفوسهم الحقد والحسد للأغنياء والحكمة القائلة «القناعة كنز لا يفني» لا تصلح في علاج نفوس عليلة، وأجساد هزيلة، والأمر في الحسد لا يقتصر علي تمنيات الفقير زوال النعمة من الغني، وإنما يتجاوز ذلك إلي الكراهية عدم التعاون معه، وتخريب ممتلكاته إذا استطاع. ولا مفر من العطف علي أصحاب القافات وتقديم المساعدة لهم بين آن وآخر وانتشالهم من الوهاد العميقة ليبصروا نور الحياة وتقوية نفوسهم بالدين وإتاحة الفرص للجميع بالتساوي دون محاباة. ومما أذكره في طفولتي أن ثورة 1952 عملت ما أمكن للحد من العوز والفقر بما جمعته من القادرين في مشروع «معولة الشتاء» وعندما سيرت «قطار الرحمة» لجمع التبرعات من نقود وثياب، وكان بعض ضباط الثورة وكبار الفنانين يشاركون في الحملة فلماذا لا يتجدد قطار الرحمة وبخاصة أن أثرياء هذا الوقت أغني من أثرياء ما قبل ثورة 1952 ؟