1 - أجمل شمس هى الساطعة فى شهر نوفمبر فى مدينة أطلانطا جنوب شرق أمريكا الشمالية، سحر الجنوب وجمال الشرق يمتزجان معًا فى إبداع واحد، حرارة الربيع مع برد الشتاء يذوبان فى دفء ناعم، يبعث على النشاط والحركة والأمل والحب، أمشى فى الصباح تحت الأشعة الذهبية، تذكرنى بشمس قريتى فى طفولتى على ضفاف النيل، ألوان الأشجار هى كل الألوان المعروفة وغير المعروفة، الألوان السبعة لقوس قزح، وألوان أخرى، خليط للأحمر والأخضر والأصفر والبرتقالى والزمردى واللازوردى والذهبى والأرجوانى، وكل ما يبهر البصر والبصيرة والفؤاد، كأنما فى نهاية الخريف تبدع أوراق الأشجار قبل سقوطها الأخير. أعود الى الوطن وحضن الأم، فأنا ابنة الشمس، ابنة الإلهة المصرية القديمة إيزيس، تمشى بقامتها الممشوقة حاملة فوق رأسها قرص الشمس. ينتظرنى الطلاب والطالبات فى فصل الابداع والتمرد، خليط من الجنسيات والأديان والألوان والمذاهب السياسية والفكرية، يجمعهم شىء واحد: الحنين الدفين منذ الطفولة للإبداع والتمرد، تتراوح أعمارهم بين العشرين والأربعين، لم يتخرجوا بعد، أو تخرجوا وحملوا شهادات عليا مثل الماجيستير أو الدكتوراه، سلبتهم أعوام التعليم من القدرة الفطرية على الإبداع والتمرد، تقول «جانيت» واحدة من الطالبات المتألقات فى كتابة الشعر: فى طفولتى كتبت الشعر، لكن أربعة عشر عاما فى المدارس والجامعة كافية بالضبط لقتل الروح! 2- دار الحوار فى الفصل حول فوز باراك أوباما فى الانتخابات يوم الثلاثاء 4 نوفمبر 2008، وحصوله على كرسى العرش فى العالم، ومنصب الرئيس فى الولاياتالمتحدةالأمريكية، شهدنا الشعوب فى الشرق والغرب، رجالا ونساءً، شبابا وعجائز، يرقصون ويغنون «أوباما أوباما»، لا تفارقنى صورة امرأة عجوز فى قرية أبيه فى كينيا، تجاعيد الفقر والشقاء محفورة على وجهها، تهز جسمها الواهى وترقص، عيناها الذابلتان تتوهجان، كأنما لأول مرة، بالضوء.. ابتسامة واهنة متعبة من طول الزمن، كابتسامة الأم المكلومة تفرح بنجاح ابنها بعد طول الانتظار، صوتها المبحوح المتحشرج تغنى: آه يا ولدى آه يا ولدى! وجدتنى أغنى معها والدموع تجرى فوق وجهى: آه يا ولدى كم يطول الشقاء وكم يطول الانتظار حتى يأتى الفرح؟ لكن الأم ماتت قبل أن تفرح بفوز ابنها، كذلك أيضا لم ينتظر الموت حتى تفرح الجدة بابن ابنتها باراك أوباما، ماتت الجدة يوم الأحد وفاز حفيدها بعد يومين فقط يوم الثلاثاء، لماذا يسخر القدر بهذا الشكل من الأمهات والجدات؟ أيكون القدر ذكورى الجنس؟ وقال شاب إن القدر قد يكون مؤنثا، وإلا فلماذا ورث أوباما المسيحية عن أمه الأمريكيةالبيضاء ولم يرث الإسلام عن أبيه الأفريقى الأسود؟ وصاحت شابة محجبة: ليس القدر الذى تحكّم هنا، ولا الأنوثة أو الذكورة، بل الجنسية الأمريكية والبشرة البيضاء، لا يكف أوباما عن الفخر بجنسيته الأمريكية ودينه المسيحى، وكم حاول أن يتنكر لدين أبيه المسلم، بل إن معاونيه فى حملته الانتخابية كانوا يبعدون الفتيات المحجبات عن الكاميرات حتى لا يربط أحد بين أوباما والإسلام. لقد حاول أوباما أن يكسب الأصوات على حساب المبادئ، لقد جعل إسرائيل هى أمريكا، وأعلن أنه سيقتل أسامة بن لادن إن عثر عليه، وهذا خرق لأول مبدأ فى العدالة والقانون الدولى، كيف يقتل المتهم قبل محاكمته؟ لقد كان رئيس باكستان أكثر تعقلا من أوباما حين سأله الصحفيون: ماذا تفعل بأسامة بن لادن إن قبضت عليه؟ قال فورا: أقدمه للمحاكمة ! رد عليه صحفى: وأين تقدمه للمحاكمة؟ قال الرئيس الباكستانى: نحاكمه فى الباكستان طبعا! سأله الصحفى فى صفاقة: ولماذا لا تسلمه لنا هنا فى أمريكا لنحاكمه؟ قال الرئيس الباكستانى مرة أخرى: نحاكمه فى الباكستان! لكن الصحفى صاح فى غضب كأنما يخاطب عبدا مأجورا وليس رئيس دولة: إذا طلبنا أن تسلمه لنا هل ترفض؟ هنا تلجلج لسان الرئيس الباكستانى وتراجع قائلا: نسلمه لأمريكا ليحاكم فيها، وتهدلت عضلات وجهه وسقط رأسه الذى كان مرفوعا. وسألت جانيت الطالبة الشاعرة: ما الذى يخيف هؤلاء الرؤساء فى الشرق الأوسط من أمريكا؟ وهل يخشى الرئيس الباكستانى أن يتم اغتياله كما حدث لزوجته بى نظير بوتو؟ دبَّ الصمت فى الفصل، دار همس يشبه الهسيس، كأنما شبهة الاغتيال تتجه نحو أمريكا، أو عملائها فى البلاد الأخرى، ومنهم بعض التيارات السياسية الدينية المتصاعدة، وبعضهم يجاهر بالعداء لأمريكا ويعمل معها فى الخفاء، وصاحت فتاة سمراء من جنوب كارولينا: عالم السياسة قبيح لماذا لا نتكلم فى الإبداع؟ ردت جانيت: لا يمكن أن نبدع فى العلم أو الفن أو حتى الشعر دون أن ندرك قبح العالم. 3- هل يغير لون البشرة من عقل الإنسان؟ هل تختلف سياسة رئيس أمريكى أسود البشرة عن آخر أبيض الوجه؟ هل تختلف المرأة عن الرجل فى السياسة وطريقة التفكير؟ هل اختلفت سياسة كوندوليزا رايس سوداء اللون عن نظيرتها مادلين أولبرايت البيضاء؟ هل اختلف كولن باول الأسود فى سياسته عن الآخرين البيض من وزراء خارجية أمريكا؟ أو عن كوندوليزا المرأة؟ المسألة ليست لون البشرة ولا التكوين البيولوجى الجنسى، بل طريقة التفكير ولمن يكون الولاء؟ لقد أقسم باراك أوباما للملايين من الشعب الأمريكى الذين انتخبوه أن يفى بوعوده لهم، أول وعد أن يعالج الأزمة الاقتصادية الطاحنة، أن يوفر فرص العمل للجميع الذين فقدوا أعمالهم خلال الشهور الماضية، عشرة آلاف فقط (بالضبط 9500) طردوا من وظائفهم خلال شهر أكتوبر 2008 فى شركة واحدة للبريد السريع هى: « دى إتش إل»، آلاف الشباب والشابات يتخرجون فى الجامعات دون عمل، ملايين الفقراء دون تأمين صحى، وعدهم أوباما أن يشمل التأمين الصحى الجميع دون استثناء. امتدت وعود أوباما إلى تحرير أمريكا من الاعتماد على بترول الأجانب خاصة هؤلاء فيما يسمى الشرق الأوسط، حيث «يقبع الارهاب المتربص» بأمريكا المقتنص أى فرصة للانتقام منها ومن قنابلها التى تفتك بالشعب العراقى، وتأييدها المطلق لإسرائيل دون قيد أو شرط! ألقى أوباما أسوأ خطبة سياسية سمعتها فى حياتى، أعلن فيها أن إسرائيل هى أمريكا، أى مساس بمصالح إسرائيل هو مساس بمصالح أمريكا، وأنه لن يتوانى عن حماية أمن اسرائيل فهو أمن أمريكا، سوف يحارب حتى آخر قطرة من دمه فداءً لإسرائيل وأمريكا، كلاهما واحد. ويرقص بعض الناس فى بلادنا فرحا لأن أوباما يحمل اسم أبيه حسين المسلم، كأنما يكفى أن يحمل الإنسان اسم حسين أو حسن أو محمد أو حسنين ليكون مناضلا من أجل العدالة فى بلده فمال بال أن يكون مناضلا من أجل العدالة فى العالم كله، بصرف النظر عن جنسه أو جنسيته أو لونه أو دينه أو لغته أو قبيلته أو عشيرته؟ كم شعرت بالخجل وأنا أشهد فوق الشاشة بعض الراقصين والراقصات فى بلادنا العربية، طربا بفوز أوباما، كأنما هو المهدى المنتظر الذى يخلصهم من بطش إسرائيل أو من بطش حكوماتهم العربية، وبعضهم يطالبه بالعمل على تحرير القدس وفلسطين والعراق وكل الشعوب المقهورة، شعرت بالعار وأنا أرى بعض الحكام فى بلادنا يسارعون الى تهنئة أوباما بالفوز، ويطالبونه بأن يضع القضية الفلسطينية نصب عينيه، كأنما هو الإله المنقذ الجديد، أو كأنما نجح أوباما فى الانتخابات بسبب أصوات العرب والفلسطينيين والمسلمين، والحقيقة أن أوباما لم يهتم مطلقا باللوبى العربى فى أمريكا، لأنه مفكك منقسم بالضبط مثل حكامه وشعوبه، ليس هناك وزن لقوة العرب خارج أمريكا فمابالها فى الداخل، أما المسلمون فيكفينا حكامهم الذين يضربون شعوبهم مثل الحكام العرب قبل أى شىء آخر. وقد حاول أوباما طوال حملته الانتخابية أن يتنصل من دين أبيه المسلم، وأن يعلن ولاءه لكنيسته ودين أمه المسيحية الأمريكيةالبيضاء. ألا يتعلم العرب والمسلمون من دروس التاريخ؟ هل تحرر العبيد إلا بعد أن نظموا أنفسهم فى قوة سياسية واقتصادية وثقافية كافية لانتزاع حقوقهم من أنياب الأسياد؟ وهل تحررت النساء إلا بعد أن نظمن أنفسهن فى حركات ثورية سياسية واقتصادية وفكرية استطاعت أن تنتزع حقوقهن من براثن القدر؟ 4- هل يغير كرسى الحكم من وجه الإنسان؟ تابعت لأكثر من عشرين شهرا حملة أوباما الانتخابية، منذ مجيئى إلى أمريكا فى أوائل عام 2007، حتى اليوم أوائل نوفمبر 2008، كنت أتابعه بدقة، أدرس ملامحه وحركات رأسه ويديه ونظرات عينيه ولون شفتيه المائل للزرقة، مثل أهل قريتى الفقراء فى وسط الدلتا بالقليوبية، لون بشرته بالضبط مثل الرجال والنساء من عائلتى الفلاحين، لون طمى النيل، لون بشرتى، البن المحروق، الخبز المحمص المطهى تحت الشمس، وقوامه الطويل النحيف المحمص أيضا بالشمس، كله عظام ليس فيه لحم، يكاد يشبه فتى أحلامى فى المراهقة، وأصبحت أستمع إلى كل خطبه، واشتريت كل كتبه وقرأتها. أكثر ما أعجبنى سيرته الذاتية، من طفولته الفقيرة مع أب مسلم من قرية فى كينيا، ثم مع زوج أمه الإندونيسى المسلم، فى مدرسته فى جاكرتا وهو تلميذ يتخبط مع أمه مع تقلبات القدر، أمه الأمريكيةالبيضاء كيف اشتغلت فى إندونيسيا لترسله إلى مدرسة لا تضرب التلاميذ بالعصا، وتعطى لهم بعض حرية التفكير، أورثته أمه طموحها المجهض، أجهض طموحها زوجان اثنان هجرتهما دون رجعة، وأنقذت ابنها من سلطتهما الأبوية الموروثة عن أسلافهما، وكم من أمهات فى بلادنا مثل هذه الأم العظيمة، التى جعلت ابنها يحلم بتغيير العالم القبيح! لكن ما أقبح عالم السياسة ! وكيف يتخلى الرجل السياسى أو المرأة السياسية عن المبادئ من أجل المصالح، والفوز، والوصول إلى الحكم والنفوذ! لا يمكن لفرد واحد أن يغير العالم، وإن كان رئيس أقوى دولة عسكرية نووية فى sالعالم، بل إن العالم القبيح هو الذى يغير الفرد، وكم تغيرت ملامح أوباما فى نظرى حين سمعته يخطب خطبته الهابطة فى العيد الستين للنكبة أو لنشوء دولة إسرائيل، وكم تقلصت عضلات وجهه بعد أن أصبح الرئيس المنتخب، كم تلاشت ابتسامته العفوية البسيطة لتكتسب ملامحه جدية الرؤساء المزيفة، هذه الجهامة الخالية من المشاعر التى يتميز بها رجال الحكم ونساؤه أيضا، أصبح وجه أوباما يشبه جورج بوش الأب والابن، وجدهما الأكبر روزفلت. حتى لون بشرته تغير، راحت حمرة الطمى المحروق والشمس، اكتسبت بشرته لونا شاحبا أبيض، كأنما هربت منها الدماء، لتصبح بلون جدران البيت الأبيض فى واشنطن، حتى صوته أيضا تغير، ضاع منه الدفء وحرارة الصدق، أصبح يتكلم مثل رؤساء أمريكا السابقين واللاحقين، وليس مثل نفسه باراك أوباما. وقالت جانيت، الشاعرة الشابة فى فصل الإبداع والتمرد: يا دكتورة لن يغير هذا العالم القبيح إلا الشعر، وضحك الفصل كله بصوت حزين مبحوح، وتذكرت قصة حبى الأولى المجهضة، حين كنت فى العاشرة من العمر! دكتورة نوال السعداوى أطلانطا الجنوب الشرقى للمحيط الأطلنطى