منذ أكثر من خمسين عاماً، كانت الفكرة المسيطرة على التفكير الدولى فيما يتعلق بالاتصال والعلاقات الثقافية، هى وجوب عدم وضع عوائق تحول دون تدفق المعلومات بين الدول، وقد عدت منظمة الأممالمتحدة فى مؤتمرها عام 1948 حرية الإعلام من الحريات الأساسية، وأن المعلومات الحرة الكافية هى حجر الزاوية لكل الحريات الأخرى التى تلتزم بها الأممالمتحدة، وعلى هذا الأساس قامت منظمة اليونسكو بعقد الاتفاقيات التى تتيح التدفق الحر للمعلومات فى جميع أنحاء العالم، وأصبح مفهوم «التدفق» يعنى إلغاء العوائق التى تحول دون ممارسة حرية الرأى والتعبير، والحق المتساوى فى الوصول لوسائل الإعلام، وضمان تدفق المعلومات عبر الحدود الوطنية دون عوائق، وخلال عقد السبعينات من القرن الماضى، اشتد الجدل بين مفكرى الدول الغربية المتقدمة -التى تحتكر وكالات الأنباء الدولية- ومفكرى دول العالم الثالث التى تسعى للتحرر من تلك السيطرة من خلال تكتلها فى حركة «عدم الانحياز»، وأصبح مطلب وجود نظام إعلامى جديد من المطالب السياسية الأساسية، وأصبحت هناك حقيقة ملموسة، فحواها أن الاستعمار لم يعد يقتصر على المجالين السياسى والاقتصادى فحسب، وإنما تعدى ذلك إلى المجالين الاجتماعى والثقافى، وظهر مطلب المناداة بالنظام الإعلامى العالمى الجديد لأول مرة فى ندوة دول عدم الانحياز الخاصة بالإعلام والتى عقدت فى تونس فى مارس 1976، وأصبح هذا المطلب جزءاً من الكفاح ضد الاستعمار، والتحرر من كل ألوان التبعية والاحتكار، كانت معظم انتقادات دول عدم الانحياز موجهة نحو الوكالات الرئيسية الأربع فى الولاياتالمتحدةالأمريكية، وروسيا وبريطانيا وفرنسا، وأن أخبار تلك الوكالات تتدفق فى اتجاه واحد فقط من الشمال إلى الجنوب، وهو ما يشكل تهديداً ثقافياً وعقائدياً للدول النامية، فضلاً عن التحكم فى شكل الأخبار ومحتواها، وكذلك القوة الاقتصادية لوكالات الإعلان الغربية، وسلاسل الصحف الدولية، وشركات الطباعة، والسيطرة على الوسائل الإلكترونية والمغناطيسية التى تتلقاها دول الجنوب، وأن من شأن ذلك أن يقيد ويعرقل الاستقلال السياسى للدول النامية، ومن جانب آخر كانت الوكالات الدولية الغربية تدافع بشراسة عن مبدأ «التدفق الحر للمعلومات» وتزعم أنها تتوخى الصدق والموضوعية فى نقل الأحداث، وهكذا اتجهت المناظرة بين الشمال والجنوب إلى منظمة اليونسكو الدولية، وأسهمت القوة العددية لدول عدم الانحياز فى الحصول على تصويت كبير من الأممالمتحدة لصالح النظام العالمى الإعلامى كما تراه الدول النامية، وهو ما أسفر عن مطالبة اليونسكو عام 1978 بضرورة إقامة نظام إعلامى جديد يراعى الحرية والتوازن بين الشمال والجنوب، وقد أدى ذلك إلى انسحاب الولاياتالمتحدةالأمريكية وبريطانيا من دعم منظمة اليونسكو. وخلال عقد التسعينات من القرن الماضى، بدا من الواضح أن عمليات العولمة السائدة فى مجالات السياسة والاقتصاد تلقى بظلالها على تدفق الأخبار الدولية، حيث يتحكم فى هذا التدفق الآن أربع وكالات دولية هى الأسوشيتدبرس وCNN الأمريكيتان، ورويترز البريطانية، ووكالة الأنباء الفرنسية، بما يتسق مع طبيعة الهيمنة الدولية السائدة الآن، وكانت وكالة الأنباء الألمانية قد تراجعت بعد هزيمة ألمانيا فى الحرب العالمية الثانية، كما تراجعت وكالة «تاس» السوفيتية بعد تفكك الاتحاد السوفيتى السابق عام 1989، وهى التى كانت تعد الوكالة الخامسة على المستوى الدولى، وتغير اسمها إلى «إنترفاكس» وتتبع جمهورية روسيا الاتحادية، تمارس هذه الوكالات الدولية دوراً بارزاً فى تفعيل عملية العولمة من خلال تجانس الأخبار التى تنقلها لكل أنحاء العالم معتمدة على قيم الأخبار الغربية، مثل السرعة، والصراع، والسلبية، والإثارة، والنظر إلى الأخبار بوصفها سلعة قابلة للبيع والشراء وخاضعة لقانون العرض والطلب، وتسهم هذه الوكالات حالياً فى ترويج الصور الذهنية للأفراد والمؤسسات والدول من منظور غربى أنجلو أمريكى، لكى تصل إلى الصفوة السياسية والاقتصادية فى باقى أنحاء العالم، وللحديث بقية..