كما تغير المصريون فى الأعوام الثلاثة الماضية وتبدلت أحوالهم السياسية وتأرجحت أوضاعهم الاقتصادية والأمنية، تغيرت أشياء كثيرة حولنا. فليبيا الشقيقة باتت مصدر تهديد. بالطبع لا علاقة مباشرة للحكومة الليبية بهذا التحول، إذ هى نفسها فى مرمى النيران، والمثل البارز أن رئيسها، على زيدان، فى العاشر من أكتوبر الجارى تم اختطافه من مكتبه فى أحد فنادق طرابلس على أيدى مجموعة مسلحة تابعة أساسا لأحد التشكيلات الأمنية التى أنشأها البرلمان رغبة منه فى ضبط الأمن والحد من سيطرة الميليشيات البدوية فى طرابلس العاصمة، فأصبحت هى نفسها مصدرا للخروج على القانون والانفلات الأمنى. والمثير أن يعلن مسئول أمنى كبير بعد أسبوعين من عملية الاختطاف وعلى الملأ أنه شارك فى فيها وأنه فخور بهذه المشاركة! الخطف والابتزاز والتهديد وإغلاق المنشآت النفطية ووقف الإنتاج النفطى بما يمثل 75% من جملة الإنتاج الليبى، وكثرة المسلحين القبليين والخارجين عن إطار الدولة وانتشار الأسلحة بيد كل من هب ودب وكثرة عصابات التهريب عبر الحدود مع ليبيا، أصبحت ظواهر عادية للغاية وواحدة من علامات ليبيا الجديدة ما بعد القذافى، الذى قضى خلال حكمه الاستبدادى تماما على فكرة المؤسسات وأطلق العنان للتشرذم المناطقى والقبلى، وحين رُفع غطاء القهر عن الجميع، بعد ثورة 17 فبراير، تصرف كل ليبى فردا أو جماعة أو قبيلة بما يراه يحقق مصالحه الذاتية المباشرة، وحسب ما يملك من أموال وطلقات الرصاص. أما فكرة الدولة الجامعة المرتبطة بقانون ومؤسسات فتعانى التجاهل والعناد. فليبيا التى كان يحكمها الفرد الواحد المستبد بالحديد والنار تحررت من حكم الفرد وعلقت فى حكم الميليشيات، وتسودها رغبة التحرر من الدولة والتورط فى المصالح الميليشاوية المسلحة. ليبيا التى كان يحكمها أبناء القذافى ولكل منهم قوات خاصة به، مدربة لحمايته وحماية مكتسباته الذاتية، أصبحت هى نفسها رهينة فى أيدى العديد من المسلحين، بعضهم يعتبر مشاركته فى القتال المسلح ضد مجموعات القذافى دليلا كافيا على ثوريته وسببا كافيا فى أن يحصل مقابل هذه الثورية على الكثير من الأموال والمخصصات وعدم الانصياع للقانون، وكأن الليبيين العاديين والبسطاء، وهم عموم الشعب، قد استبدلوا المسلحين والخارجين عن القانون بوحدات القذافى العسكرية، ويا له من تحول بائس باسم الثورة والتغيير. خاصة أن لكل من هذه الجماعات المسلحة منطلقاتها العملية والفكرية، فالجماعات المنضوية تحت شعارات الإسلام السياسى تنادى بليبيا دولة إسلامية خالية من الأجانب، ولها علاقات قوية مع قطر كممول رئيسى كجماعة أنصار الشريعة والجماعة الإسلامية المقاتلة الليبية وميليشيا الإخوان الليبيين، وهم غير راضين عن التحولات فى مصر وينددون بعلاقات حكومة زيدان مع الحكومة المصرية وينتشرون أكثر فى شرق ليبيا، وجزء كبير من هؤلاء متورط مباشرة فى تهريب الأسلحة إلى مصر وفى جهود ما يعرف بخطة تنظيم الإخوان الدولى بإنشاء ميليشيا عميلة تحت اسم جيش مصر الحر، الذى يراد له أن يحول البلاد إلى بحور من الدماء. ولذا يجب ألا يمر مرور الكرام ما قاله أحد المسئولين الأمنيين الليبيين بأنه تم رصد 20 ألف مصرى ينتمون إلى القاعدة على الأراضى الليبية. وحتى لو كان من قبيل المبالغة فالتحقق والفحص واجب على الجهات المسئولة. وهناك جماعات أخرى تنادى بالحكم الذاتى لمناطق معينة وتحول البلاد إلى النظام الفيدرالى ومنها التكتل الفيدرالى فى بنغازى، ومجموعات مماثلة فى إقليم الجنوب فزان. أما الميليشيات القبلية فأبرزها ميليشيات الزنتان فى الغرب، ولجنة الأمن العليا فى طرابلس، إضافة إلى قوات درع ليبيا التى شكلها البرلمان. الخطف والتهديد به لا يتوقف فقط على المصريين، فهناك العديد من الجنسيات الأخرى التى تعرضت للموقف نفسه، كما أن كثيرا من المرافق الدبلوماسية الغربية تعرضت للتدمير كالقنصلية الأمريكية والفرنسية والسويدية، ومع أن لكل حادثة سببا معلنا، فإن القاسم المشترك هو ضعف الحكومة وغياب المؤسسات والفوضى الأمنية وانتشار الجماعات الدينية المسلحة التى تطرح شعارات الجهاد وطرد الأجانب باعتباره الحل للمشكلة الليبية، فضلا عن انتشار المواقع الإلكترونية المنسوبة إلى هذه الجماعات المتطرفة والتى تنذر وتتوعد شركات النفط بالهجمات والإغلاق وتطالبها بضرورة الخروج من ليبيا. مفردات الحالة الليبية على هذا النحو هى السبب الرئيسى وراء خطف السائقين المصريين كما حدث مؤخرا والذين تم الإفراج عنهم بعد تدخل المخابرات الحربية مع نظيرتها الليبية وكذلك بعد اتصالات من بعض شيوخ وعواقل القبائل فى المنطقة الغربية مع نظرائهم فى الداخل الليبى. حالة ليبيا الجديدة الضعيفة والمنقسمة على ذاتها، والمرشحة للأسوأ، سوف تستمر طويلا، وبالتالى فالتعرض للمصريين العاملين هناك مرشح للتكرار مرات ومرات. ومن بين التقارير العديدة التى حاولت إلقاء الضوء على ملابسات خطف السائقين المصريين من أشار إلى أن أحد مطالب الجهة الخاطفة أن تقوم السلطات المصرية بالإفراج عن عدد من الليبيين المحتجزين فى مصر، فى حين ردت السلطات أن هؤلاء متورطون فى تهريب الأسلحة عبر الحدود ولا مجال للإفراج عنهم بل محاسبتهم قضائيا أولا. وهو ما يعطينا مؤشرا قويا على أن مافيات تهريب الأسلحة الليبية إلى الداخل المصرى قد تعيد الكرة مرات أخرى من الخطف لمصريين آخرين بهدف ابتزاز الحكومة المصرية. وإن كان الحذر واجبا فى كل الأحيان، فقد لا ينفع أحيانا. وهؤلاء المصريون الذين تدفعهم الظروف الصعبة إلى السفر والمغامرة هناك من أجل لقمة العيش عليهم أن يدركوا أن ليبيا لم تعد الملاذ المناسب على الأقل فى هذه المرحلة التى تسود فيها الميليشيات وتتراجع فيها قدرة الحكومة الليبية على ضبط الأوضاع الداخلية، وعليهم أن يدركوا أيضاً أن من يذهب إلى هناك يمكن أن يتحول ببساطة شديدة إلى رهينة فى يد ميليشيا أو إحدى مافيات تهريب السلاح الليبى، وتحركها قوة داخلية أو خارجية تريد أن تفسد العلاقات المصرية الليبية فى مستوياتها الرسمية والشعبية، وأن تزرع فيها بذور الشك، وتحول ليبيا ما بعد القذافى إلى مصدر تهديد دائم لجارتها وشقيقتها مصر.