أخرجتُ من حقيبة الزمن صوراً جميلة.. إنها صور جدتى فى شبابها، كم كانت جميلة.. ما هذه الأجواء الساحرة، الأجساد الممشوقة، الفساتين ذات الأقمشة الجميلة، العيون اللامعة، الضحكات الصافية؟ وعندما نظرت إلى جدتى الآن أدركت معنى تلك الكلمة «الزمن».. يا لك من مخلوق جبار! كيف استطعت أن تغير كثيراً من ملامح تلك الصورة؟ وعلى الفور ارتديت ملابسى وصففت شعرى وهممت بالنزول.. قالت جدتى: رايحة فين؟ قلت: رايحة أسجل شبابى. قالت: تسجلى شبابك؟! وذهبت إلى «استوديو تصوير» ربما يكون للإضاءة وزاوية التصوير والمصور كبير السن كثير الخبرة القدرة على تسجيل لمحة من الزمن أو سرقة لحظة من لحظات الساعة التى لا تتوقف عن الحركة، الساعة صاحبة العقارب الرفيعة.. تبدو كثير الرقة أيها العقرب، بطىءالحركة.. مجرد «تك.. تك.. تك»، ولكنها الحركة التى تعطى الحياة للمخلوقات الصغيرة الساكنة وتضفى السكون على المخلوقات القوية المفعمة بالحيوية! نعم أسجل شبابى، فكيف سأثبت لأحفادى، بعد مرور الزمن، أننى كنت أشبه جدتى أو أمى أو حتى لا أشبههم على الإطلاق.. فقط عليهم أن ينظروا إلى الصور ليعرفوا كيف كان شبابى، وليعرفوا الحقيقة الكبرى «الزمن»، وكيف تستطيع تلك العقارب الرفيعة -عقارب الساعة- أن تحول البشرة النضرة إلى جافة خشنة، العيون اللامعة إلى خافتة، الصوت الحالم إلى متحشرج يأتى من زمن بعيد.. يستطيع أن يحول صور الملوك وما حولهم من هالات ضوئية إلى رفات تبتلعه الأرض، والحروب الضارية إلى مجرد أطلال، والدموع الساخنة إلى لمحة حزن فى شريط الذكريات. فيالك، أيها العقرب، من قوة تفوق كل القوى.. كيف تستطيع أن تحول الحاضر إلى ذكرى، وتحول الأفراح الصاخبة إلى صدى صوت فى الماضى، وتحول الجمال الأخاذ إلى مجرد صورة تحتفظ بها سيدة عجوز ليرى الناس كيف كانت جميلة منذ زمن ليس ببعيد؟ بالطبع تخشى السيدات قطار العمر وتخشى أيضا اللون الأبيض.. رغم أن هذا اللون هو رمز الصفاء والأحلام.. الفستان الأبيض، الحصان الأبيض، الورد الأبيض، ولكن عندما يأتى هذا اللون إلى شعيرات الرأس.. يكون مخيفاً، فهل استطاعت صاحبة الشعر الأسود أو الكستنائى الاستمتاع بشبابها قبل ظهور تلك الشعيرات المخيفة؟ أم أنها على كل حال لا بد أن تتعامل مع الواقع.. تحارب هذا العقرب، أو تتناسى ذلك البياض، أو فقط تبحث عن السعادة فى أى زمان ومكان.. فالروح ما زالت فوق الأرض، والجمال يستطيع أن يخرج من هذه الروح المتمسكة بالسعادة حتى اللحظات الأخيرة.. وربما يستطيع قليل من خطوط التجميل إعادة جزء من النضارة إلى وجه الزمن.. فلا بد من تجميله ما دامت الأنفاس تعلو.. لعلنا نستطيع الانتصار على هذا العقرب الرفيع!