تحت الشمس الغاربة والسماء البرتقالية ثبّت الصّياد قدميه الدقيقتين على المركب المتأرجح فوق صفحة النهر. نسّق بكفّيه الشبكة الممتلئة برائحة عطنة ثم طوّحها مفرودة عند أحد زوايا مركبه العتيد. ربط الصّياد الشاب شبكته التى استقرت فى عمق مجرى النيل ربطها فى مؤخرة المركب الصغير ثم عاد إلى منزله مع دقة مدفع الإفطار لينضم إلى زوجته على مائدة الطعام. العمل فى رمضان له نكهة خاصة، الصيام فى مهنة كمهنة الصيد قد يغير مواعيد العمل برمتها بحسب ما يقوله الصياد الشاب صلاح حسن، ذو الواحد والثلاثين عاما: الشغل بالنهار فى الأيام العادية عادى، لكن فى نهار رمضان بيكون الشغل أصعب لأن التجديف محتاج مجهود عضلى والواحد صايم مبيقدرش يمارس المجهود العضلى ده. فى ليالى رمضان يلتقى صلاح أقرباءه وأصحابه، وفى حدود الخامسة صباحاً يعاين الصّياد شباكه التى باتت فى عمق المياه منذ الليلة الماضية، يسحب صلاح شباكه ويخرج ما علق بها من أسماك «باصطاد أنواع مختلفة من السمك بلطى وبياض ورعاش وقرموط» يقول الصياد. ساعة فى الصباح بين الخامسة والسادسة تكفى «صلاح» للملمة شباكه وسحبها والتقاط السمك العالق بها ووضعه فى شنطة بلاستيكية سوداء «باخد السمك الساعة 6 الصبح وبروح بيه على السوق بياخده منى صاحب النصيب بيبقى 2 كيلو أو 3 كيلو ببيعهم له». بعد هنيهة من الصمت يتابع الصياد النحيف: «أنا عندى ميزة إنى بابيع السمك فى شنطة سودا.. خد بالك السمك أصله بيتنظر وبيتحسد». لا ينفك صلاح حسن، الصياد القاطن فى «طرة»، عن حمد الله وشكره رغم ضيق الرزق الذى يؤكده الصياد الشاب فى كلامه: «الرزق قليل يعنى فى اليوم مش باطلع بأكتر من 30 أو 40 جنيه. والنهارده مثلاً ربنا كرمنى ب7 جنيه بس، ومعنديش شغل تانى جنب الصيد بس الحمد لله ربنا يعينى على تربية ابنى زياد بالحلال». يعزو صلاح قلة السمك الذى يظفر به من النيل إلى «نزول البحر وطلوعه.. لأن لما منسوب البحر يطلع وينزل السمك بيقلّ ولما منسوب البحر بيكون ثابت السمك بيبقى كتير والخير بيزيد، قبل رمضان كان البحر ثابت وكان اليوم بيطلع لى فيه من 40 ل50 جنيه». يشارك صلاح والده فى العمل على المركب الصغير الذى اشتراه الأب بثلاثة آلاف جنيه من ورشة لتصنيع مراكب الصيد ذات المجاديف، ويقوم بعمل «عَمرة» للمركب سنوياً لصيانته والحفاظ عليه خشباً ومعدناً: «أنا وارث الصيد عن أبويا عن جدى الله يرحمه وشغلى على المركب دى من وأنا عندى 6 سنين كان مع أبويا ولحد دلوقتى بنطلع الشغل سوا والرزق اللى بيجى بيكون بالنص بينى وبين أبويا. يعنى المركب دى فاتحة بيتين». لدى صلاح الصّياد التزامات أسرية بحيث ينفق على زوجته وطفله الرضيع «زياد»، كما يدفع إيجاراً شهريا 300 جنيه للشقة التى يقطنها، وكذلك أبوه «الحاج حسن» لديه التزامات يعتمد على مركب الصيد فى الوفاء بها. هذه الضغوط المادية دفعت صلاح لأن يقرر عدم الزج بابنه «زياد» ذى العام الواحد إلى مهنة الصيد عندما يكبر فى السن ويشتد عوده: «لازم أعلم زياد وأخليه يحب التعليم علشان أى شركة دلوقتى بتطلب على الأقل دبلوم وأنا تعبت كتير ومش عايز ابنى يشوف اللى أنا شوفته». بعد الفجر، ينزل صلاح مع والده إلى مركبهما معتمدين على الأشعة القليلة المتسربة من الشمس لتنير لهما صفحة النيل، يثبت الأب السفينة بحرفية شيخ قضى عمره فى مهنة الصيد، بينما يرفع الشبكة إلى المركب ويلقى ما علق بها من سمك داخل إناء يفرزها، البلطى إلى جانب وقشر البياض إلى جانب ثانٍ والقرموط إلى جانب ثالث وهكذا. كل تلك الأنواع زادت أثمانها: «كيلو البلطى الصابح كان ب12 أو 15 جنيه دلوقتى بابيعه ب20 جنيه، وكيلو قشر البياض بيتباع فى المحلات ب45 جنيه لكن أنا بابيعه ب35 ومع ذلك سعره كده أغلى من زمان، والسمك الرعاش سعره قليل لأنه بيحتاج يتسلخ فى تنضيفه، والسمك القرموط كان ب10 جنيه وصل سعره 15 جنيه.. كل حاجة فى البلد غليت على الكل حتى أنا التزاماتى زادت ولازم أزود غصب عنى». لا يلقى «صلاح» بحسب كلامه عنتاً من المسطحات المائية التى لا تهتم إلا بفحص ترخيصه: «وكمان بقالهم فترة ولا شافوا الترخيص»، فينهى الرجل عمله فى الصباح الباكر ببيع السمك الذى اصطاده ثم يقسم ما حصل عليه من نقود بينه وبين والده، ليسرع بعد ذلك إلى منزله فينام النهار بطوله حتى قبيل المغرب حيث ينزل إلى مركبه ثانية ليلقى بشباكه فى الماء حتى الفجر التالى.. وهكذا تدور أيام الصياد.