بصرف النظر عن العبث الصبيانى الذى ساد فى اجتماع الرئيس الحاكم مع بعض ممثلى القوى السياسية الموالية لحكمه أساساً، المذاع على الهواء مباشرة، والذى أضاف إلى سجل فشل حكم اليمين المتأسلم فضيحة دبلوماسية من العيار الثقيل، وكأن الدولة المصرية تحوّلت إلى عصبة من البلطجية الهواة والسذّج، وبعيداً عن التصريحات الرئاسية غير المسئولة بين الأهل والعشيرة التى تبادل الماء بالدم وتعادل إعلان حرب عنترى، فإن سدود النهضة الإثيوبية تمثل أزمة عصيبة لا نبالغ إن قلنا إنها أزمة وجود. بداية، هى مجموعة من أربعة سدود مخطط بناؤها فى مشروع متكامل على النيل الأزرق، وليس مجرد سد واحد، تعدها إثيوبيا مشروعاً قومياً للنهضة، حقيقياً وليس وهمياً كما اعتاد الإخوان المخادعون، ربما كما كان السد العالى لمصر فى ستينات القرن الماضى، وتعنى عند اكتمالها تحكُّم إثيوبيا فى مياه النيل الأزرق عبر أربع بوابات متتالية، ولها فى هذا مآرب عدة، كثير منها ضار بمصر. بصرف النظر عن محاولات سلطة اليمين المتأسلم اليائسة، المخادعة والفاشلة، للتهوين من حدة الأزمة فى بداية تفجُّرها، والتى لم تصمد فى مواجهة الحقائق المتراكمة، فإن أفضل المعلومات المتاحة عن اللجنة الثلاثية لتقييم سد النهضة الإثيوبى تقدّر، حيث هناك اتفاق أن الدراسات الحالية غير كافية، أن السد، بتصميمه الحالى، سيتسبب فى إيقاف توليد الكهرباء لمصر بشكل كامل بحلول عام 2017، وأن مصر ستفقد مقدار 15 مليار متر مكعب مائى فى العام الواحد. والأخطر أن كشف التقرير عن أن احتمال انهيار سد النهضة سيكون مرتفعاً، نظراً إلى نقص الدراسات بشأن سلامته، وأن السد يحمل آثاراً سلبية للسودان الشقيق، أبرزها التهديد بغرق كامل مدينة الخرطوم حال انهياره، كما طالبت اللجنة فى توصياتها النهائية بضرورة مطالبة مصر لإثيوبيا بالتوقف عن استكمال بناء السد على الأقل فى الوقت الحالى. ولا ريب فى أن إثيوبيا اتخذت موقفاً عدوانياً بالتحرُّك المنفرد، خلافاً لقواعد القانون الدولى على نهر دولى كنهر النيل، وبرفع السعة التخزينية لسد النهضة كثيراً عن المعلن قبلاً وبحيث يُخزن وراءه أربعة أمثال التصرف السنوى لنهر النيل، وبالإقدام على تحويل مجرى النيل الأزرق قبل يومين فقط من إعلان تقرير اللجنة الثلاثية التى شُكلت لدراسة السد، وبعد ساعات من لقاء الرئيس المصرى برئيس وزرائها. ولكن للحق فإن إثيوبيا أيضاً استغلت فشل السلطة الحاكمة فى مصر، وضعف مصر فى المعترك الدولى عامة، وفى أفريقيا خاصة، فالمؤكد أن شيئاً مما أقدمت عليه لم يكن ليحدث فى عهد «عبدالناصر» الذى أدرك قيمة أفريقيا لأمن مصر المائى واستثمر بكثافة فى مكانة مصر بأفريقيا دونما طنطنة فارغة. فالمثل الأفريقى يقول إنه حتى الأرانب تتكالب على الأسد المريض. فما عناصر المواجهة الجادة لهذه الأزمة المشتدة؟ من حيث المبدأ، يتعين الاعتراف بأن من حق إثيوبيا إقامة المشروعات الإنمائية على أراضيها. لكنه يجب أن يكون مفهوماً أيضاً أن مبدأ عدم الإضرار بمصالح دول أخرى على حوض النهر واجب الاحترام ضمن مبادئ المجتمع الدولى المستقرة، خصوصاً أن نهر النيل نهر دولى يجب على الدول المشتركة فيه أن تتحاشى الإضرار بمصالح بعضها البعض. ولكن لا يكفى كذلك، على الجانب المصرى، دوام التعلل بالاتفاقيات التى عُقدت فى عهد الاستعمار، عاكسة ظروف قرن مضى ولم يعد يمكن أن تعد عادلة فى الوقت الراهن ولا يُتوقع لها أن تسرى بالقوة نفسها فى الظروف الحالية التى تغيّرت جذرياً وتغيرت موازين القوى الدولية التى أنتجتها منذ عهد إبرام هذه الاتفاقات كما تغيرت موازين القوى فى القارة الأفريقية ذاتها. يتفرع عن هذا أن ترهات التدخل العسكرى والتخريب الاستخبارى فى إثيوبيا خبل منافٍ لمبادئ النظام الدولى الذى يقوم على احترام سيادة الدول وصيانة السلم الدولى ويحط من شأن الدولة المصرية فى المعترك الدولى، وقد وقع بعض من هذا الضرر فعلاً بالعبث الصبيانى فى اجتماع الرئيس بأهله وعشيرته. وعلى من يطنطنون بحلول عسكرية غير مشروعة أصلاً فى القانون الدولى، أن يتفهموا أيضاً أن موردى السلاح الرئيسيين لمصر عبر العقود الثلاثة الماضية يضعون قيوداً على استخدام هذه المعدات خارج حدود مصر، وهم أصلاً ليسوا أبرياء من التحدى الذى تمثله السدود الإثيوبية. فأحد أخطر تبعات هذا السد هو إجبار مصر على توصيل مياه النيل إلى إسرائيل بإرادتها، أو عن طريق عمل سدود ضخمة فى إثيوبيا وإنشاء أنفاق لتوصيل مياه النيل إلى إسرائيل أو عبر أنبوب يمر بالبحر الأحمر، وهى خُطط إسرائيلية قديمة. لذلك يتعين على أولى الأمر فى سلطة اليمين المتأسلم تبيّن أن إسرائيل، ومن ورائها الولاياتالمتحدة من خلال البنك الدولى وغيره من المنظمات التى تتحكم فيها الإدارة الأمريكية، كانوا وراء السدود الإثيوبية، نصحاً وترويجاً وتصميماً وتمويلاً وإنشاءً وإدارة. وبحثّ من إسرائيل والبنك الدولى، طالما طالبت دول المنبع بتسعير مياه النهر وبيع المياه خارج حوضه، الأمور التى كانت ترفضها مصر والسودان. ولكن دول المنبع تمرّدت على دولتى المصب، فى اتفاقية عنتيبى التى تنقض الاتفاقات التاريخية لتقسيم وارد نهر النيل وتحظى فيها مصر والسودان بنصيب الأسد. ومن أسف أن دولة جنوب السودان التى وُلدت على أيدى إسرائيل وشجّعتها السلطة المصرية قد انضمت مؤخراً إلى هذه الاتفاقية. ومن ثم، فعلى أصدقاء إسرائيل فى حكم اليمين المتأسلم أن يعقلوا من هو عدو مصر الأول، وإلا كانوا كمن «ترك الحمار وضرب البردعة»، وفق المثل العامى الفصيح. وبناءً عليه، فإن استعداء إثيوبيا من خلال التهديد بإجراءات تستعدى الدولة والشعب هناك ليس إلا مضيعة للجهد والطاقة، فقط يسىء إلى سمعة مصر الدولية بلا طائل، وقد رأينا ردود الفعل المتعنتة من الجانب الإثيوبى، ولا تثريب عليهم فى الدفاع عن سيادتهم. الخشية أن تنتهى إساءة معالجة الأزمة بوصم مصر باعتبارها دولة صلفة متعالية ومعتدية فى المحيط الأفريقى، مما قد يُنهى فرص الحل الاستراتيجى البديل الذى نذكر فى نهاية المقال. ولو أنه صحيح أن الأزمة موروثة من نظام الفساد والاستبداد الذى قامت الثورة الشعبية لإسقاطه، ولم تنجح بعد، فإن الحكم الحالى لم يواجهها بما تستحق من أولوية لو كانوا يضعون صالح الوطن والشعب على رأس أولوياتهم كما أقسموا. ومن ثم، فإن تفجّر الأزمة بعد عام من ولاية الرئيس الحاكم وحكومته العنين يضاف إلى سجل الفشل المزرى للسلطة التنفيذية لحكم اليمين المتأسلم كارثة مدوية. نكمل الأسبوع المقبل