يبدو صوته مدويا تغلفه أنغام تلك الآلة الناعمة التي تشبع الروح وتنعش القلب وتبيّض وجه المقاومة، ففي أحيان ترسل أوتارها باقة ورود إلى الجنود الذين يتشوقون لنصر مبين، وفي أحيان أخرى تمسح على رأس المهجَّرين من مدينتهم لتمنيهم بقرب العودة إليها، ثم تستعيد دورها في ميدان فسيح يبحث أبناؤه عن حرية يتوقون لحلو طعمها، لتبقى سمسمية "الكابتن غزالي" هي الملاذ لكل من أحبت أذنه حكايات المقاومة. الحكاية بدأها محمد أحمد غزالي، ابن مدينة السويس، الذي فوجئ بين ليلة وضحاها بمدينته الحبيبة تغمرها طائرات قادمة من 3 دول حسبت أن مدافعها سترهب شعبها، ليهب الشاب، الذي لم يكمل عامه الثلاثين آنذاك، ويقود المقاومة الشعبية الباسلة التي استمرت لأكثر من 20 يوما، مستخدما خلالها قلمه و"سمسميته" التي ذابت عشقا في حب السويس مغنية لها: "اتعلمنا منك.. كيف الموت يتحب، واتعلمنا منك.. وقت الشدة.. نهب، واتعلمنا.. ندوس الصعب نمد الخطوة.. ندق الكعب".
"السمسمية" تعالى صوتها مع إنشاء "الكابتن غزالي" لفرقة "ولاد الأرض" في أعقاب نكسة عام 1967، فالكل أخذ طريقه مرحَّلا إلى مدن أخرى بعد أن تهدمت بيوتهم واستشهد ذووهم وتكسرت أحلامهم، بينما لم يبرح "كابتن غزالي" مكانه، وظل ممسكا بقلمه ثابتا على أرضه يطمئن إخوانه المهاجرين بأن رجالا أشداء سيجلبون الفرحة عما قريب، فالجميع يسمعه ينادي آلته المحبوبة: "غني يا سمسمية لرصاص البندقية، ولكل إيد قوية حاضنة جنودها المدافع، غني للمدافع واللي وراها بيدافع، ويوصي عبدالشافع يضرب م الطلقة ميّة".
لم يفقد الثقة لحظة في أن لحظة تعمير بلاده ستأتي من بعد نصر مبين، فها هو يصرخ في جيرانه مانعا إياهم من النظر إلى مشاهد الخراب التي عاشتها السويس في تلك الفترة، ناصحا إياهم بالتفكير في سبل تعميرها بعد نصر سيأتي لا محالة، غير أن شعره كشف أن النصر لم يكن كافيا لإطفاء النار المتأججة في قلبه، فكتب: "تسلموا فوق السفاين زي موج الضي بينشق السدود، تسلموا ع الأرض يا أشجع أسود، شدوا بكره.. من باب الديابة، غيروا يوم الغلابة.. بانتصار". فرقة "ولاد الأرض" اتخذت نوعا آخر من المقاومة بعد انتصار أكتوبر، ف"كابتن غزالي" انتبه إلى حرب جديدة يخوضها ضد الجهل بإنشاء فرقته فصولا لمحو الأمية، ثم إنشاء مكتبة كبيرة حسبه منها أن ينهل أبناء بلدته العلم منها، ليكون سببا في تثقيف عشرات الشباب الذين ما تركوه حتى اللحظات الأخيرة من حياته.
شباب ثورة الخامس والعشرين من يناير صاحبوه، أنسوا بجلسته واستحضروا كلماته المحبة لأنغام "السمسمية"، ثم يعود ليصدر ديوانه الشعري بعنوان: "ولاد الأرض"، يذكِّر فيه المصريين بحلاوة المقاومة وطيب رائحة الحرية قبل أيام قليلة من اندلاع ثورة يونيو عام 2013. شعره لم يقف عند حدود شفتيه، فالمطرب سمير الإسكندراني أسمع الدنيا صوته حينما شدا "من عيون برج الحمام"، واستقر الفنان محمد حمام صادحا "من بيوت السويس"، غير أن المفاجأة التي أسعدت الملايين تمثلت في كلمات "الكابتن غزالي" تعانق حنجرة الملك محمد منير الذي طلب منه إعادة أغنية "فات الكتير يا بلدنا"، لتكون وداعا أخيرا سبق رحيل "الكابتن غزالي" بعام واحد.