تقترب سيارة نقل الموتى من بوابة «مشرحة زينهم»، ينقبض قلبا الشقيقتين، تمد إحداهما ذراعها وتساعد الأخرى على النهوض، تتراجعان للخلف، لإفساح مجال العبور للسيارة، تمر بسرعة تتهافتان على موظف المشرحة: «مش بنتى يا أخويا»، لا يجيب الموظف ويكتفى بهز رأسه نافياً. مشرحة زينهم بالنسبة للشقيقتين أميرة (35 سنة) وشيماء مرسى (32 سنة) أمل أخير فى الوصول ل«جثة ميت». لا ينقطع أمل الشقيقتين فى العثور على «لقاء» 14 سنة، ابنة الأولى الغائبة منذ شهر حتى ولو ميتة: «بس إلا مقابر الصدقة.. أهو ندفنها ونعرف لها قبر نزورها فيه» بهذه الجملة تعلن أميرة عن أملها الأخير، وتعود لمكانها تفترش الأرض، وتنكس إلى الأرض رأسها المثقل بالهم والحزن. لم يكن خوف الأم ورجاؤها، سوى إيحاء بأن ثمة ما هو أكثر إدماء للقلوب من الموت، الذى صار لها حقيقة نظرية فى حاجة إلى إثبات عملى بالعثور على جثة ابنتها، حتى لا تحمل فى النهاية رقماً، وترقد فى بطن الأرض بلا هوية وكأنها لم تولد، لذلك لا تمل «أميرة» من رحلتها اليومية المرهقة، تشق الزحام بطول 32 كيلومتراً فى قلب القاهرة من مسكنها فى حلوان حتى المشرحة فى حى السيدة زينب وتدعو: «يا رب قلبهم يحن ويدخلونا المشرحة ندور على «لقا» فى التلاجات». «اللقا نصيب يا أختى.. قولى يارب وسيبيها لله» تواسى شيماء شقيقتها بهذه الكلمات، وتتبادلان الحديث عن «رذالة» الموظفين الذين يرفضون السماح لهما بالبحث عن «الابنة» الغائبة فى ثلاجات المشرحة التى تحتفظ بالجثث المجهولة تحت تصرف النيابة العامة التى تأمر بدفنها على فترات على أمل أن يتم كشف هويتها وتسليمها لذويها، وعند فشل المباحث فى كشف هويتها تأمر النيابة بدفنها فى مقابر الصدقة الخاصة بمستشفيات جامعة القاهرة. يلخص مشهد الشقيقتين، مأساة عشرات الأسر التى يبدأ يومها قاتماً، مثلجاً، بلا حياة، بحثاً عن «ضناها» أو «عزيز» لديها، انقطع خبره، وتاه فى زحام الموتى المجهولين الذين تكتظ بهم دهاليز «مشرحة زينهم» التى استقبلت 49 جثة مجهولة ما بين وفاة طبيعية وجنائية خلال 15 يوماً عن طريق 17 قسم شرطة فى محافظتى القاهرة والجيزة بينهم 18 لقيطاً. الدكتور إحسان كميل رئيس مصلحة الطب الشرعى يوضح ل«الوطن» الفرق بين قرارات النيابة الخاصة بتشريح الجثث والأخرى التى تنتهى بانتداب مفتش الصحة للمعاينة بقوله: قرار عرض الجثة على طبيب الصحة يفيد بعدم وجود شبهة جنائية أى أن الوفاة طبيعية، أما قرار التشريح فإنه يفيد بوجود شبهة جنائية أى أن الوفاة غير طبيعية، وحتى إن كان سبب الوفاة ظاهراً مثل القتل بالرصاص أو عن طريق الطعنات، فالجثة تخضع للتشريح لمعرفة سبب الوفاة لأنه من الجائز أن تكون الطعنات التى طعنت بها الجثة أو الرصاص الذى تم إطلاقه عليها بغرض تضليل العدالة، فيتم تشريح الجثة للوقوف على الحقيقة، ومن الممكن أن يتم تشريح الجثة وتكون النتيجة أن الوفاة طبيعية فليس معنى تشريح الجثة أن تكون بالتأكيد وفاة جنائية، ولكن النسبة الأكبر فى نتائج تشريح الجثث تكون الوفاة جنائية، حتى إن كانت الجثة خالية من أى إصابات خارجية. «الجثث المجهولة ارتفعت أعدادها بعد الثورة وزادت على الضعف» هكذا يؤكد مصدر طبى بالمشرحة قبل أن يتابع: «الجثث المجهولة قبل الثورة كان قرار النيابة بشأنها بعد مناظرتها هو عرضها على طبيب الصحة وذلك لعدم الاشتباه فى وجود شبهة جنائية فى الوفاة، وكانت كل الجثث لمواطنين غلابة ودائماً تكون أعمارهم كبيرة، أما بعد الثورة فقد تغير الحال وأصبحنا نشرح الجثث المجهولة لشكنا بوجود شبهة جنائية سواء كانت ظاهرة على الجثة أو غير ظاهرة، وبمناظرة الجثث يتبين أنها لمواطنين من أسر وليسوا من المتسولين فى الشوارع، كما أن أعمارهم فى سن الشباب». ويلخص المصدر أسباب ذلك بقوله: «كثرة المجهولين ترجع إلى تقصير الشرطة فى عملها؛ وذلك لأن قبل الثورة فى حالة العثور على جثة مجهول مقتول كانت الداخلية تكثف تحرياتها إلى أن يتم معرفة هوية صاحب الجثة، وتكشف غموض الجريمة وتقبض على المتهمين، أما بعد الثورة فالداخلية أصبحت سبباً فى ارتفاع عدد الجثث المجهولة لإهمالها فى البحث». ويضيف «لكن الكارثة كما يكشفها المصدر أن الإدارة طلبت من النيابة العامة سرعة إصدار قرارات لدفن جثث المجهولين التى مر عليها أكثر من شهر، وذلك بسبب تعفنها واختفاء ملامحها، على الرغم من أنها موجودة داخل الثلاجات، ولكن فتح وغلق الثلاجات لمعاينة جثة أو للتعرف عليها من قبل الأسر يعرضها للهواء داخل الثلاجات ومن هنا تتعرض للتعفن الذى يخفى ملامح الجثة، مما يجعل فرصة التعرف على الجثة مستحيلة، وإذا شكت الأسر فى الجثة من الملابس فهنا لا بد من إجراء تحليل للحامض النووى، ومن هنا تكون التكلفة باهظة وكل ذلك من ميزانية المصلحة، لذلك من الأفضل أن يتم تصوير الجثث بمجرد العثور عليها والنشر عنها فى الشوارع والأقسام أو حتى الصحف؛ لكى يتم التعرف عليها أو الإرشاد عن أسر هذه الجثث، ولكن الداخلية «مش عايزة تتعب نفسها»، لأنه إذا تم التعرف على هوية صاحب الجثة، ستصبح الداخلية ملزمة بتقديم المتهمين للعدالة وفى حالة فشلها سوف تصبح مقصرة أمام أسرة القتيل وأمام الرأى العام، ولكن عندما تظل الجثة مجهولة وتدفن فى مقابر الصدقة، فهنا تدفن القضية ومعها سر صاحبها». ربما لا تعرف «أميرة» شيئاً عن تلك المتاهة، لكن كل ما يشغل بالها أن تعثر على جثة ابنتها، ثم تقلص أملها وصارت تحلم بفرصة لدخول الثلاجات، وهو ما تحقق عندما سمح لها بدخول المشرحة مع أسرة الناشط السياسى محمد الشافعى التى خاضت نفس التجربة وفى النهاية عثرت على جثته ملقاة بين الجثث، بعد نفى المسئولين وجودها بالمشرحة، وهو ما برروه لاحقاً «إحنا متأسفين.. الجثة فعلاً كانت موجودة بس تايهة بين إخواتها» وهو ما كشف وجود 49 جثة فى جوف ثلاجات الموتى من بينها 18 لقيطاً. فتشت «أميرة» فيما تبقى فى الوجوه التى كستها زرقة الموات، وفى الملابس المشربة بسوائل التحلل.. وأخيراً استجابت للعامل الذى حدثها بزهو كالمنتصر: «مش قلت لك مش موجودة» ثم استأذنها بلطف مصطنع فى مغادرة المشرحة حتى يتسنى له مراجعة عهدته من الموتى قبل إغلاق الأبواب فقد قاربت الساعة على الرابعة.. موعد انتهاء العمل رسمياً: «وابقى فوتى علينا بكرة».