عندما اندلعت ثورة الثلاثين من يونيو لاسترداد الدولة المصرية المخطوفة رفع المصريون شعار «السيسى رئيسى»، كانت الأصوات تزعق فى كل مكان تطالب السيسى بالترشح وتولى دفة الأمور، والتدخل لإنقاذ البلاد التى باتت على شفا الانهيار والتقسيم فى ظل حكم جماعة الإخوان وسيادة الفوضى. وعندما استجاب الجيش المصرى وانحاز إلى الشعب فى ثورته نزل الناس إلى الشوارع رافعين صور السيسى، يطالبونه بتولى مسئوليته بتكليف من الشعب وإرادته، إلا أن السيسى أصر على تولى رئيس المحكمة الدستورية العليا مهمة رئيس الدولة المؤقت فى الفترة الانتقالية. وعلى مدى عام من الإلحاح والمطالبة، قرر السيسى الاستجابة للنداءات الشعبية، والترشح لرئاسة الجمهورية، بعد الموافقة الكاسحة على الدستور الجديد، وخروج التظاهرات الكبيرة فى 25 يناير 2014 التى استدعت السيسى وطالبته بتحمل مسئوليته فى هذه الفترة التاريخية الهامة. كان السيسى قد تلقى نصائح عديدة من البعض يحذرونه من مغبة تحمل المخاطر فى ظل ظروف غير طبيعية امتلأت فيها شوارع مصر بالعنف والإرهاب والانفلات القيمى والفوضى وانهيار الأوضاع الاجتماعية والأمنية والاقتصادية. وجد السيسى نفسه أمام خيارين: إما أن يبقى فى موقعه وزيراً للدفاع، وبذلك يحمى نفسه من مسئولية الفشل المتوقع فى حل المشكلات الجماهيرية، وتداعيات ذلك من تطاول وتشكيك وغضبة شعبية عارمة. وإما أن يتصدى للمسئولية، ويسعى إلى حل المشكلات المزمنة وإنقاذ البلاد من خطر الفوضى وسقوط الدولة مهما كانت النتيجة. وقد اختار السيسى الحل الثانى، لكنه اشترط على المصريين ألا يتركوه وحيداً، وأن يكونوا شركاء معه فى المسئولية وساعتها هلل المصريون، وخرجوا إلى الشوارع يعربون عن سعادتهم. لم ينسَ أوباما للسيسى هذا التحدى، خاصة بعد ترجمة مشروع جمهورية ما بعد الإخوان نفسه فى صياغة جديدة تقوم على بناء القوة الذاتية سياسياً واقتصادياً وأمنياً وعسكرياً، وإحداث توازن فى السياسة الخارجية المصرية بين الشرق والغرب، وإعادة الدور المصرى المحورى على الساحة العربية مجدداً. أدرك أوباما أن «ناصر» جديداً يعود إلى المنطقة مدافعاً عن الوطن والأمة، مجدداً إحياء سياسات كان الغرب يظن أنها قد انتهت إلى غير رجعة، التفّت حوله الجماهير فى مصر والعالم العربى ليمثل نموذجاً ومنقذاً لها فى مواجهة مخطط التفتيت والتجزئة. بدأت الدوائر الغربيةوالأمريكية وعملاؤها فى المنطقة يثيرون القلاقل تحت أقدام النظام الشعبى الجديد، دعموا الإخوان وأمدوهم بكل الإمكانات، أثاروا الفتن، والإرهاب، لكنهم فشلوا فشلاً ذريعاً بعد أن حاصرتهم الجماهير التى وعت المخطط وأبعاده. وبعد فترة من الوقت، انتقلت الدوائر المعادية إلى حرب من نوع آخر، سبق لها أن مارستها ضد مصر الناصرية، فى زمن حكم الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، تجويع الشعب المصرى وحصاره اقتصادياً، منعوا السياحة، جففوا منابع الدولار، تلاعبوا فى الأسواق، تآمروا على علاقات مصر المتميزة مع روسيا وإيطاليا وفرنسا، حاولوا الضغط بكل ما يملكون على دول الخليج للتخلى عن الوقوف مع مصر، لم يتركوا وسيلة إلا واستخدموها. كانوا يظنون أن السيسى سوف يستسلم ويتراجع، ويذهب راكعاً إلى البيت الأبيض الأمريكى، لكنه بدلاً من ذلك، سعى إلى تنويع مصادر السلاح، فجُن جنونهم. بدأ الحصار، حصار التجويع، أدرك أعداء الوطن أن هذا السلاح هو وحده القادر على إشعال نيران الغضب، والثورة فى نفوس الجماهير، استدعوا طابورهم الخامس مجدداً، أغدقوا الأموال، سخّروا الإعلام، بدأوا فى استقطاب الخلايا النائمة، وراحوا يدعمونها مجدداً، حملات التشكيك والشائعات غطت سماء البلاد، وكان الهدف هو تمهيد الأرض لمنع ترشح السيسى لرئاسة الجمهورية مجدداً فى عام 2018. أطلق أحدهم من الخارج شعار الفريق الرئاسى، وراح يرتمى فى أحضان بعض عواصم الغرب التى راحت تدعمه، وتلمع صورته، وكأنه الخليفة المنتظر، مع أنه لا يمتلك خبرة سياسية أو اقتصادية لإدارة واحد من أحياء القاهرة، وحوله شكوك كثيرة. وبات من الواضح الآن أن هذه الحملات ستتزايد حتى السابع من نوفمبر موعد الانتخابات الأمريكية الجديدة، ذلك أن الرئيس الأمريكى «باراك أوباما» يريد أن يعوّض الفشل الذى مُنى به وبمخططه، فحشد كل الإمكانات، لإثارة القلاقل وإسقاط السيسى، لتسود الفوضى، ويتمكن من تحقيق المخطط، فيقى نفسه شر المحاكمة بعد انتهاء مدته الرئاسية بسبب الأموال التى دفعها لجماعة الإخوان والفشل الذى مُنى به منذ الثلاثين من يونيو 2013 وحتى تاريخه. لقد لجأ السيسى إلى إجراءات اقتصادية إصلاحية، الهدف منها إنقاذ الأوضاع، وتحجيم العجز فى الموازنة العامة وخفض الديون التى وصلت إلى حوالى 97٪ من مجمل الناتج المحلى. لم يكن أمامه خيار آخر، فإما هذا وإما الإفلاس، لقد تصدى بجرأة لمشكلات وأزمات متعددة عاشتها مصر طيلة العقود الأربعة الماضية، وقد طالت هذه الإجراءات فئات اجتماعية متعددة، مما تسبب فى حالة من التململ والرفض. يدرك المصريون هذه المرة أن حجم معاناة البلاد وأوضاعها الاقتصادية والاجتماعية تجعلها لا تستطيع أن تتحمل تبعات أى ثورة جديدة، بل إن الخيار البديل هذه المرة هو الفوضى وانهيار المؤسسات والتدخل الخارجى لتنفيذ سيناريو مخطط الشرق الأوسط الجديد على الأرض المصرية، ليفتح الطريق واسعاً أمام إعادة رسم خريطة المنطقة على أسس طائفية وعرقية. صحيح أن آليات المؤامرة واستخدام أساليب التواصل الاجتماعى المختلفة وحرب الشائعات ليست هينة، ولكن تنسى الدوائر المعادية أن الشعب المصرى وعى الدرس خلال سنوات الفوضى التى جاهد فيها ليمنع سقوط الدولة، وأدرك خطورة الانهيار الذى يؤدى إلى تكرار السيناريو العراقى السورى الليبى اليمنى على الأرض المصرية، وهو أمر لن يتحمله المصريون الذين فاق عددهم التسعين مليوناً من المواطنين. لقد استخدمت عناصر «المؤامرة» الجديدة لغة مختلفة، تعددت أساليبها، وتنوعت وسائلها، تناولت شخص الرئيس وتسويق أكذوبة فشل سياسته، وإشاعة معلومات مغلوطة عن المشروعات الكبرى وفى مقدمتها قناة السويس الجديدة، والهدف هو إثارة الاحتقان الشعبى، انتظاراً لحدث ما، لإشعال الفتيل، ودفع الجماهير إلى إحراق الوطن، وسيادة الفوضى، وبدء نذُر الحرب الأهلية التى لن تُبقى ولن تذر. إن الغريب فى الأمر هو الاستهانة بحجم المؤامرة وأبعادها رغم أن كافة المؤشرات تؤكد وتدلل عليها. لقد حاولوا كثيراً، لكنهم فشلوا، استخدموا كل أساليب الإثارة والفتن، فلم يحققوا نتيجة تُذكر، وفى هذه المرة فإن التاريخ يعيد نفسه مجدداً. عليهم أن يقرأوا تاريخ مصر الحديث زمن جمال عبدالناصر، الحصار الاقتصادى، العدوان الثلاثى، وقف المعونة، النكسة، كل ذلك لم يؤدِّ فى النهاية إلا إلى مزيد من الالتفاف حول «جمال عبدالناصر». قطعاً التاريخ يعيد نفسه، وذاكرة المصريين ما زالت حية، ووعيهم بالتحديات ومخاطرها شاهد عيان، لكل ذلك أقولها بملء الفم.. لن ينجحوا، والأيام بيننا!!