نعلم أن الرئيس المعنى انتُخب من الشعب. ولكن يتعين ألا ننسى أنه لم يحصل إلا على ما لا يتعدى ربع أصوات من لهم حق التصويت، وبعض الأصوات التى حازها لا ريب كانت كرهاً لمنافسه، وعلى الأغلب تبين لعدد غير قليل ممن صوتوا له بعدها أنهم تعرضوا لخداع أشر، فقد كان هدفهم تفادى عودة النظام الذى قامت الثورة لإسقاطه، فأعادته سلطة الإسلام السياسى التى انتخبوها حرفياً وزادت من نقائصة ادعاء الحكم بالإسلام فيما نعتبره أكبر إساءة للدين الحنيف. فإن كان سلوكهم فى السلطة، الذى نراه يجافى بجلاء قويم خلق وآداب الإسلام، هو فهمهم للإسلام فيتعين أن نضن عليهم بوصف المسلمين. وأبلغ دليل على انحرف سلوك جماعات الإسلام السياسى عن قويم الإسلام هو توسلهم كل أنواع الغش الانتخابى، من تزوير النماذج الانتخابية، مروراً بترويع الإخوة الأقباط ليمتنعوا عن التصويت فى بعض الجهات، وبالتأثير على الناخبين حتى داخل لجان الاقتراع، وانتهاء باستغلال الفقر والفاقة من خلال تقديم الرشى الانتخابية لبسطاء العامة، ناهيك عن إغوائهم وترويعهم دينياً. وفى الحديث الشريف أن «من غشنا فليس منا». ولكن شرعية الرئيس قد تهرأت، إن لم تكن سقطت كلية لأسباب عديدة. أولها وأهمها هو حنثه بالقسم المغلّظ، باسم الله العظيم الذى كرره عدة مرات فى مواقع مختلفة عند بداية توليه المنصب، وهو من الكبائر فى صحيح الإسلام الذى يدعّى هو وجماعته إعلاءه والحكم به. لقد كان فحوى القسم احترام سيادة القانون واستقلال القضاء، ثم عصف بهما معاً فى الإعلان الدستورى فاقد الشرعية الذى أصدره فى 22 نوفمبر وحصّن فيه قراراته السابقة واللاحقة من مراجعة القضاء وأقال النائب العام المحصن من العزل قانوناً، وأكد على الحنث بالقسم من خلال الإسراع فى الاستفتاء على مشروع الدستور على الرغم من افتقاده للتوافق المجتمعى المطلوب، كما تضمن الدستور نصوصاً صُممت للتخلص من بعض قضاة المحكمة الدستورية العليا وإطلاق يد رأس السلطة التنفيذية فى تعيين قضاة المحكمة الأعلى فى البلاد. وثانى هذه الأسباب، أن الرئيس وحكومته، فاقدة الأهلية والاعتبار، لم يبديا أى حرص جاد على تحقيق غايات الثورة الشعبية، وانصرف همهما إلى تمكين سلطة الإسلام السياسى من خناق الدولة والمجتمع، بل وأدخلا الشعب فى دوامة من الفقر والقهر والكوارث المتتالية بسرعة مذهلة تتفاقم بشكل شبه يومى، حتى صارت تُذكّر الناس بالشهور الأخيرة لحكم الطاغية المخلوع وكأن حكم محمد مرسى وجماعته مستنسخ حرفياً من حكم محمد حسنى وعصبته وأوشك على السقوط. كذلك تآكلت شرعية الرئيس وسلطة الإسلام السياسى، القليل الذى كان لهما منها، لأسباب عديدة أخرى. أولها واقعة الهجوم الدنىء على الجنود المصريين فى رفح قرب وقت الإفطار فى رمضان والتى تكاثرت الشبهات عن ضلوع جهاديين إسلاميين فى المذبحة كان بعضهم ممن أُفرج عنهم بقرار رئاسى فورى قبلها، ولم يقدم أحد من المجرمين للعدالة. كما تكررت إعلانات الرئيس وجماعته عن مؤامرات لإسقاط حكم سلطة الإسلام السياسى وأعلن على الملأ نتيجة تحقيقات ما زالت تجرى قضائياً ثم ثبت أنها غير صحيحة. ناهيك عن المؤامرات التى أُعلن أنها تحاك ضده وضد نظامه من دون أن يتيح هو أو النائب العام الذى عينه مؤخراً أى معلومات أكيدة عنها. اختصار القول أن هذه سلطة تآكلت شرعيتها، بل هى تشعر أن شرعيتها قد تهرأت. وليس من غرابة إذن أن ترددت أنباء أن دويلة غنية فى الجوار دفعت مئات ملايين الدولارات لفصيل من حركة الإخوان الدولية يحكم فى جوار مصر لتأمين حكم الرئيس وسلطة الإسلام السياسى. وعلى الرغم من الانتشار الواسع للنبأ فلم يعلق عليه الدافع أو المدفوع له أو الرئيس وجماعته. ما يُعد إقراراً ضمنياً بالأمر فى ضوء عدم ترفعهم عن الإنكار الزائف تكراراً فيما سبق. ومن حيث المبدأ فإن الدعوة لانتخابات مبكرة عرف ديمقراطى مستقر عند استحكام الأزمات السياسية. ويحدث ذلك تحديداً عندما يفشل مسئول منتخب أو هيئة منتخبة فى الوفاء بالعهود الانتخابية أو يتضح أنه لا يرقى لمهام المسئولية الملقاة على عاتقه، أو يتبين أن العملية لانتخابية التى أتت به شابها غش أو تدليس. فى جميع هذه الحالات تصبح الانتخابات المبكرة مخرجاً ديمقراطياً مباحاً من أزمة سياسية مستحكمة قد لا تُحمد عقبى استمرراها وتفاقمها، وقد تنحط بالبلاد إلى حضيص الاحتراب الأهلى. وفوق تهرؤ شرعيته فلقد فشل الرئيس المنتخب، وتبين فساد العملية الانتخابية التى أتت به. ومنصب الرئيس فى مصر، فى ظل الحكم الرئاسى الذى يحظى فيه الرئيس بسلطات مطلقة، محورى وحاسم، ولذلك يتعين ألا يستمر فيه رئيس فقد كثيراً من تأييد الشعب وحتى بعض من انتخبوه حتى سارت ضده التظاهرات الاحتجاجية المطالبة بإسقاطه فى عموم البلاد. أما عن العملية الانتخابية فقد أشرنا لعوارها فى صدر المقال. وأما الفشل فقد تجلى فى أن مصر، بعد شهور قليلة من حكم سلطة الإسلام السياسى، تتردى إلى هاوية سحيقة من بدايات الاحتراب الأهلى توجب على جميع أبنائها الترفع عن المغانم الذاتية أو السياسية الضيقة الأفق، وأن يتفانوا فى التنافس لإنقاذها من هذه الوهدة التى قد لا يتيسر منها قيام إن استعر أوار التناحر. وقد لا يحتاج القارئ لتدليل على هذا التشخيص ولكن لا ضير من إشارات سريعة. هناك أولاً تل الأرواح المزهقة وجداول الدم المسفوك أياً ما كان الانتماء السياسى أو التنظيمى لأصحابها، فكلهم أبناء مصر ومواطنوها، وأرواحهم ودماؤهم حرام حرمة أبدية. ووراء كل هذه الجرائم تكمن عقلية الاستبداد والبطش بالمواطن سبيلاً للتمسك بالسلطة التى تسكن السلطة الحاكمة وأدواتها كما كانت تسكن سابقتها وتلك السابقة عليها إلى حد فقدان البوصلة والعقل. وكأن كل سلطة استبدادية تتنافس مع سابقتها فى ارتكاب انتهاك مشين وأبشع من أسوأ ما سبقه لحقوق المواطنين. فكما جلّل العار السلطة الاستبدادية السابقة بكشوف العذرية البربرية وسحق المتظاهرين تحت المدرعات ومحاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية فقد تفوقت عليه سلطة الإسلام السياسى بواقعة سحل مواطن مجرداً من ثيابه ومكشوفة عورته وبالتغاضى عن التحرش الجنسى المشين بالمتظاهرات والذى يُجمع من خبروه وعاينوه أنه منظم ومدفوع، ولنتذاكر هنا أنه خلال الموجة الأولى من الثورة التى طالت ثمانية عشر يوماً وعلى الرغم من الازدحام الغفير لم تشكُ بنت أو سيدة من أن أحداً حتى لمسها. وعادت السلطة لممارسة العنف الباطش فى مواجهة المتظاهرين وللدفع للشقاة الصعاليك لاقتراف أشكال من العنف بين صفوف المتاظاهرين السلميين لتجريم فعل الاحتجاج الشعبى ومن يقومومن به، ولقتل شباب تحت التعذيب فى سلخانات أمن السلطة، وحتى زيادة فى الخسة مضايقة المتظاهرات. وفى مواجهة كل هذا عاد الرئيس الحاكم، تماماً كسابقه، للظهور المتكرر مع الشرطة والقوات المسلحة وتكرار التأكيد على التأييد العلنى لهما باعتبارهما قاعدة حكمه الأمنى الباطش. وقد تردد أنه أصدر أمراً للجيش بإطلاق الرصاص رفضه الجيش، وقد أنكرت سلطة الإسلام السياسى والمتحدث باسم الجيش كلاهما الواقعة، إما للحفاظ على المظهر العام أو إنكاراً معتاداً للحقائق فى ظل الحكم التسلطى المُعتم بالطبيعة. ولكن يبدو أن توتراً ما ساد هذا الاجتماع كما يزداد التذمر بين قوات الشرطة وغضب الشعب من تجاوزاتها فى ظل وزارة داخلية تؤكد يومياً أن عقيدتها الأصلية هى البطش بحقوق المواطن حماية لأمن السلطة على الرغم من التصريحات المنمقة التى تفيد العكس. ما يعنى أن القاعدة الأمنية لسلطة الإسلام السياسى تميد تحت أقدامها بسبب التناقض بين مصالح السلطة ورغبات الشعب. واقتصادياً انهار الجنيه فى مواجهة العملات الأجنبية جميعاً، ما أشعل جحيم الغلاء. وقضت الكوارث التى جرتها سلطة الإسلام السياسى على البلد إلى اغتيال السياحة المصدر الأول للعملات الصعبة، فى غياب مشروع حقيقى للنهضة الإنسانية الإنتاجية، حيث صارت الدول المهمة سياحياً تحذر مواطنيها من السفر إلى مصر بسبب انعدام الأمن وغياب الاستقرار السياسى. فى ضوء تهرؤ الشرعية والفشل الذريع هذين نتساءل: لماذا لا يتنحى محمد مرسى حقناً لدماء المصريين وبدافع الوطنية؟ لقد فعلها جمال عبدالناصر، بجلال قدره بين رؤساء مصر المعاصرة ولو كره الإخوان المتآمرون عليه، بعد هزيمة 1967. وفعلها محمد حسنى مبارك، على سيئاته الفاضحة، عندما تأكد له غضبة الشعب العارمة عليه وعلى نظام حكمه فى مطالع العام 2011، فهل يفعلها محمد مرسى العياط؟ ولم لا؟ أليس هو من قال فى مايو 2012، بالحرف: «إذا خرجت مسيرات حاشدة بميدان التحرير والميادين المختلفة تطالب بإسقاطى فانا أول من ينزل بناء على إرادة الشعب». وها هى المظاهرات تندلع مطالبة بإسقاطه فى يناير 2013 فى جميع أنحاء مصر. نعلم أن الرئيس وجماعته وأشياعه محترفو مناورة وخداع، دوماً يعدون ويخلفون، ولكن لعله يخيب ظننا السيئ فيهم مرة ويستقيل حرصاً على الوطن. أم أن جميع وعوده، ككل وعود جماعته، خداع ليل مقصود به ألا يرى نهاراً؟