قد تعيش بين بينين بعض الوقت، وقد تقنع نفسك بأنك ما ليس فيك بعض الوقت، وقد تدفع نفسك إلى الهرب من الحقيقة بعض الوقت، لكن أن تظل بين بينين دائماً وأبداً، أو أن تعيش فى وهم طيلة حياتك، أو أن تنكر الحقيقة طالما أنت حى ترزق، فهذا أمر صعب ولا يعنى إلا أنك عايش «كده وكده»، والملاحظ أننا نعيش كده وكده على أصعدة عدة وكثيرة، تبدأ بأدق تفاصيل حياتنا، مروراً ببرنامجنا المعيشى اليومى، وانتهاء بالغرض الذى من أجله نحيا ونعيش فى هذه الدنيا، وهذه الحالة من ال«كده وكده» لن يحلها رئيس وطنى وحده، أو حكومة حاذقة وحدها، أو شعب متدين وحده. وأضرب عدداً من الأمثلة من حياتنا اليومية جميعها مشتق من الأيام القليلة الماضية فى الشهر الفضيل، قبل موعد الإفطار وفى دوران شبرا، كانت هناك حملة مرورية وأخرى لإزالة إشغالات الباعة الذين لم يعودوا يكتفون بافتراش الأرصفة فى شبرا، بل يسيطرون على نهر الشارع، ويمنعون السكان من إيقاف سياراتهم، ويحتلون كل الرصيف رغماً عن أنف الجميع، هذا الوجود الحكومى المكثف أدى إلى تكديس عشرات الدراجات النارية غير المرخصة فى مداخل العمارات، ولجوء التكاتك التى ترتع ليلاً ونهاراً دون رادع أو كابح إلى قصر نشاطهم على الشوارع الجانبية وذلك لحين زوال الحملة، التصرف نفسه أقبل عليه الباعة ببضاعتهم، وقرب موعد الإفطار انصرفت الحملة بالفعل ولم يبق سوى عدد من أمناء الشرطة الذين وقفوا شهود عيان على عمليات إخراج الدراجات المخالفة من مداخل العمارات، وعودة الباعة إلى الأماكن المحتلة، بل إن بعضهم تبادل الكلمات الحانية والأحضان الضاحكة مع الأمناء أنفسهم الذين كانوا يد القانون الضاربة قبل دقائق قليلة، ولكن «كده وكده»، فلا الأمناء على قناعة بأن توغل الباعة فى الشوارع بهذا الشكل أمر لا ينبغى أن يكون، ولا الباعة يرون فى توغلهم أمراً مرفوضاً، وكلاهما على يقين بأن الحملة إلى زوال، لأنها قائمة على تنفيذ القانون «كده وكده». دقائق وعاد شارع شبرا إلى حالته حيث الدراجات النارية غير المرخصة تركض فى كل الاتجاهات عكس الاتجاهات، والتكاتك ترتع دون ضابط، والضابط ورفاقه يعلمون على الأرجح أن ما يقومون به هو «كده وكده»، ومن شارع شبرا إلى شارع النزهة فى مصر الجديدة، حيث أحد أكبر أكشاك بيع الحلوى والمياه الغازية، الذى شهد فى الفترات الأخيرة كغيره تمدداً وتوغلاً وتوسعاً ينافس المستوطنات، صاحب الكشك الملتحى المتمركز أمام أحد المساجد الكبرى فى الشارع لا تفوته صلاة حاضرة ولا يألو جهداً فى تعليق الآيات القرآنية حول الكشك وخلفه وأمامه وفى داخله. لكن السلك الكهربائى البرتقالى الضخم الذى يمد الكشك بالكهرباء اللازمة لتشغيل الراديو على إذاعة القرآن الكريم، وإضاءته ليلاً، والإبقاء على المشروبات باردة آتٍ من عمود الإنارة رأساً، صاحب الكشك متدين «كده وكده» ويسعى لأكل العيش فى الحلال «كده وكده» وإن تعرض لمداهمة من قبل الشرطة لأنه حرامى كهرباء، فأغلب الظن أن جموع المصلين الخارجين من المسجد لتوهم سيتوسطون لدى الشرطة لتركه إلى حال سبيله، لأنه لم يقترف ذنباً كبيراً بل هو خطأ «نونو»، أو «إنها ماجاتش عليه»، أو «صلى على النبى ده إحنا فى نهار رمضان»، وذلك لأنهم طيبون خيرون محبون «كده وكده». ومن شارع النزهة إلى لجان الثانوية العامة، حيث «شاومينج» يصارع زمن الغش الوسطى الجميل من أجل البقاء، صفحات الكثيرين من الطلاب والطالبات السائلين المستفسرين عن مواعيد التسريب عامرة بالأدعية الدينية، والنصائح الخاصة بكيفية استقبال الآخرة بالعمل الصالح، والدعاء بالنجاح لطلابنا وطلاب كل المسلمين، والشفاء لمرضانا ومرضى كل المسلمين، والرحمة لموتانا وموتى كل المسلمين، وذلك لأنهم شباب طاهر جميل كده وكده، وعلى أرض الواقع، حيث ما زال الغش القديم موجوداً فى اللجان فردياً وجماعياً، تنشر الصور الفوتوغرافية المنشورة فى عدد من المواقع الخبرية، حيث الغش الجماعى يسود فى أجواء من المحبة والود ورعاية المراقبين، إحدى الصور لو صح محتواها، تؤكد أن منظومة التعليم برمتها كده وكده، حيث المراقبة المنتقبة تتجاذب أطراف الحديث مع زميلها المراقب فى حين يرتع الطلاب فى أرجاء اللجنة غشاً وتصويراً بأجهزة الهواتف المحمولة حيث الامتحان دائرة كده وكده، والطلاب سينجحون كده وكده، والسيدة المراقبة ترتدى النقاب لأنها متدينة كده وكده، وحين داهمت «الحكومة» المقاهى فى نهار رمضان، ثم ادعوا أن المداهمة كانت لأن المقاهى مخالفة، فهذا يشير إلى أنهم متدينون «كده وكده» لأن هناك من يعتقد أنه بهذه المداهمات «الهبلة» يرفع راية الإسلام، وهم يطبقون القانون «كده وكده» لأن نسبة المقاهى المخالفة فى ربوع مصر تشير إلى أن القوانين فى حالة موت سريرى، والأدلة والبراهين والحجج الدالة على أن جانباً كبيراً من حياتنا يروح هباء فى هواء «كده وكده» أكثر من أن تعد أو تحصى، ومن يهب غاضباً ليقول إن المسئولية تقع على عاتق الرئيس لأنه المسئول الأكبر، أو على عاهل الحكومة لأنها الجهات الموكل إليها بتنفيذ القوانين، أو على الشعب الذى تخلى بعض منه عن الضمير والأخلاق والسلوك وتعلق بتلابيب تدين مظهرى لا يسمن أو يغنى من جوع درءاً للشعور بتأنيب الضمير أو الذنب، أو وجد نفسه هكذا نتاج سنوات من الفساد الفكرى والسياسى والاقتصادى والاجتماعى والدينى مخطئ، المسئولية مسئوليتنا جميعاً، ولن تبدأ إلا باعترافنا بأننا اعتنقنا عقيدة «كده وكده» منذ سنوات.