بيت الشعر الذى يسخر منه الشباب وينكت عليه الصغار هو بالضبط ما يجرى فى ربوع مصر هذه الأيام، قال شوقى «إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا». ومات شوقى وماتت الأخلاق بعده بنحو تسعة عقود، يمكننا اليوم وبكل ثقة وحزم وحسم أن نعلن أننا بتنا بلا أخلاق، أو على أقل تقدير بات أغلبنا بلا أخلاق، ما حدث وجرى فى ربوع مصر أقرب ما يكون إلى الكابوس، والكابوس الدائرة رحاه ليلاً نهاراً فى الشوارع وبين المواطنين وعلى أثير العنكبوت حيث ما يسمى بوسائل التواصل الاجتماعى (وباتت أقرب ما يكون إلى التراشح الاجتماعى أى الشرشحة الاجتماعية) يعرف المصريون أبعاده تمام المعرفة، لكن بعضهم يرفض الاعتراف به، لا سيما أن التدنى الأخلاقى -أو بالأحرى الغياب الأخلاقى- صار أسلوب حياة لكثيرين، وفريق آخر يعتبره طفحاً ثورياً على سبيل تطهير الأمعاء المحبذ فى أعقاب النزلات المعوية والجراثيم الحلزونية، مجموعة رابعة تعتبر هذا التدنى شكلاً من أشكال العبقرية الثورية والشياطة الشبابية والحرية الشخصية، وهذه المجموعة الأخيرة تحوى فى مكوناتها أكاديميين يدرسون العلوم «الإنسانية» لطلاب الجامعات وشخصيات عامة بعضها ضمن لنفسه مقعداً تحت القبة أو آخر داخل الاستوديو أو ثالثاً فى دوائر صنع القرار، لكن تظل الغالبية على دراية تامة بأننا تحللنا من منظومة الأخلاق تماماً، نظرة واحدة إلى الشارع تكفى للتأكد من ذلك، والمشاهد والملامح أكبر من أن تعد أو تحصى أو تُرصد، ولكن إليكم مجموعة منتقاة. ■ التاكسى الأبيض صار ينافس سائقى الميكروباص الملقبين ب«عفاريت الأسفلت» وذلك فى العنف والهمجية وانعدام الحد الأدنى من المعرفة بقواعد القيادة أو التصرف اللائق. ويشار إلى أن العفاريت السابق ذكرهم قد أطيح بهم من على قمة هرم البلطجة والخروج على القانون فى السنوات الأخيرة، حيث تفوق عليهم سائقو سيارات السرفيس الثمن نقل، التى غزت شوارع القاهرة بترخيص ملاكى واستفزاز أخلاقى. ■ التوك توك لم يعد يخشى يد القانون الطائلة سابقاً الميتة سريرياً حالياً، شارع شبرا الرئيسى يئن تحت وطأة مئات التكاتك المارقة الهادرة الغادرة التى لا يقوى على نهرها «أتخن تخين» أو توقيفها أمين أو حتى عقيد. ■ التريسيكل يمكنه أن «يركن» على مطلع كوبرى أكتوبر ولا يجرؤ أحد على انتقاده أو مطالبته بالعثور على مكان آخر يقف فيه، وإلا يكون «قطاع أرزاق» و«عديم إنسانية». والأمين فى حال وجوده -وهو حال غير وارد إلا باستثناءات- لا يقترب منه ولا يناقشه أو يجادله، ما هى أصل ماجاتش عليه. ■ وعلى سيرة الأمين، وفى شارع النزهة فى مصر الجديدة الراقية سابقاً العشوائية الفوضوية كغيرها حالياً، تدور رحى مواكب الأفراح وليالى الملاح لا سيما ليل أيام الخميس، ويوم الخميس الماضى قرر أحدهم أن يشهر زواجه بموكب يشيب له الولدان وتقشعر له الأبدان، حيث الألعاب النارية وطلقات الصوت وسيارات لا أول لها أو آخر تطلق أبواقها فى صريخ أوركسترالى جماعى مع قرار بإيقاف حركة المرور تماماً «علشان العروسة تفرح»، وفى مقدمة الموكب دراجات نارية يقودها صبية وطبعاً لا تحوى لوحة أرقام واحدة، والحمد لله أنه على الجانب الآخر من الطريق كانت هناك لجنة مرورية تستوقف السيارات لتكشف على الرخص والذى منه، وبسؤال حضرة الأمين عن موقف اللجنة من السيرك الدائر على الجانب الآخر من الطريق ضحك وقال: «فرح بقى! خللى الناس تفرح». ■ فى محطة العتبة حيث الخط الثالث الرائع لمترو الأنفاق قررت إدارة المحطة أن يتم تشغيل إذاعة القرآن الكريم قبل موعد أذان العصر بأعلى صوت ليستمع الركاب المتكدسون على الرصيف لتفسير آيات الذكر الحكيم، وبعيداً عن مسائل جدلية حول إذا ما كان يصح أن يستمع الجميع غصباً لذلك وهو ما قد يدفع أبواب التكفير ويسهل دعاوى التشكيك فى الإيمان، فقد كان الصوت عالياً لدرجة استحالة تفسير الكلام، ولما حان موعد الأذان شمر عدد كبير من موظفى المحطة بنطلوناتهم وقمصانهم للتوضؤ وذهب الجميع لصلاة الجماعة فى الزاوية المخصصة لذلك فى بهو المحطة، لكن فى الوقت نفسه، وفى هذا الجو الروحانى، كان الركاب يدفعون بعضهم البعض على السلالم المتحركة، ولا يمانع الشاب اليافع فى أن يدفع الشيخ المسن حتى يمر أو يلحق بالقطار، كما أن هذه الأجواء الإيمانية الخالصة لم تردع الأخت المنتقبة ومعها الزمرة من الأخوات عن أن يهجمن على العربة دون السماح للركاب بالنزول أولاً، إذ لم يتطرق الشيخ الذى كان يفسر الآيات إلى هذه القضايا الهامشية. ■ منذ أن تم إلغاء العيب وإعلان الحرام بديلاً انقلبت مصر رأساً على عقب، فعلى سبيل المثال لا الحصر، البصق فى الشارع ليس حراماً، ولا إيقاف السيارة صفاً ثانياً أو ثالثاً أو رابعاً أو على الرصيف المخصص للمشاة، ولا رمى عبوات البطاطس المقلية والشيكولاتة وقشر اللب فى الشارع، ولا جلوس الشباب على المقاعد المخصصة لكبار السن والحوامل والمعاقين، ولا تعمد السير أمام سيارة الإسعاف، كانت هذه الأفعال وغيرها «عيب»، لكن مع إعلان سطوة الحرام وتغييب العيب، تحول الشارع إلى عيب كبير لكن برداء متدين. ■ نحن لا نحتاج لجنة لتنمية الأخلاق والضمير برعاية الرئاسة، نحن نحتاج «بوتاس» لإزالة ما علق بنا، ثم صنفرة، يعقبها تطبيق صارم للقانون، وذلك لحين إصلاح منظومة التربية والتعليم بناء على العيب والمقبول، وليس الحرام.