كان التغيير أملاً للمصريين، عاشوا سنوات طويلة يجاهدون من أجل تحقيقه، تحملوا فى سبيله الكثير من الظلم والاستبداد والديكتاتورية والسيطرة الأمنية على كل مقدرات الوطن. ولقد شهد المصريون وطنهم يخضع لحكم طاغية كمم الأفواه، وزوّر الانتخابات واصطنع الأحزاب، وسخّر كل موارد الوطن وإمكانياته لخدمة غروره ورغبته فى التمسك بمقعد الرئاسة إلى الأبد، وأحاط نفسه بطغمة فاسدة نهبت أموال الوطن وزينت له مشروع توريث ابنه ليكمل مسيرة الطغيان وليبقى الحكم فى آل مبارك إلى ما شاء الله. وجاءت ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 لتكون اللحظة الفارقة التى حسب الشعب أنها لحظة الخلاص حين أسقط الثوار فى ميدان التحرير رأس النظام الفاسد مؤمّلين فى الانطلاق إلى مناخ الحرية الذى طال بهم انتظاره ليحققوا التحول الديمقراطى والإصلاح السياسى والدستورى ويقيموا العدالة الاجتماعية وسيادة القانون. ولكن بعد أن مضى عامان على الثورة يجد المصريون أنفسهم فى موقف تبدو فيه صورة الوطن شديدة القتامة، وتسود حالة من الحزن العام جراء أحداث العنف المتصاعدة والتى تنذر بانهيار الدولة ومؤسساتها وضياع فرص تحقيق أهداف الثورة وإهدار دماء الشهداء والمصابين التى أريقت من أجل التخلص من النظام البائد وبدء عصر الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. بعد عامين على الثورة يعود الشعب إلى التظاهر والاعتصام ومواجهة قنابل الغاز المسلة للدموع فى كل ميادين التحرير -كما كان الموقف خلال الأيام الثمانية عشر المجيدة من يناير 2011- بعد أن سُرقت منهم ثورتهم واستولى فصيل غير مؤهل على الحكم بعد فترة من سوء الإدارة أسهم خلالها المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى إجهاض الثورة وتفريغها من مضمونها بتبنيه «خارطة طريق» عطلت مسيرة التحول الديمقراطى وأتاحت لجماعة الإخوان المسلمين وحزبهم السياسى وحلفائهم من الأحزاب التى تتبنى مرجعيات دينية -بالمخالفة لقانون الأحزاب- تحقيق أغلبية غير مستحقة فى انتخابات أول مجلس شعب بعد الثورة! لقد رُوع المصريون خلال العامين الماضيين بسلسلة من الأحداث الجسام تمثلت فى محاولات إثارة الفتنة الطائفية فى حادثة الماريناب واعتصامات ماسبيرو ثم موقعة شارع محمد محمود، وأحداث الاعتصام فى شوارع مجلس الوزراء وقصر العينى والشيخ ريحان والمجمع العلمى المصرى، لتعود الكرّة فى أحداث محمد محمود 2 ومجزرة الاتحادية -ومع دخول الثورة عامها الثالث- ليشتعل الوطن كله بالحرائق واقتحام أقسام الشرطة والاقتتال والعنف بكل مظاهره، فى الوقت الذى تمارس الحكومة والرئاسة ذات أساليب التجاهل وصم الآذان عن مطالب الشعب! إن أكثر ما تحتاجه مصر الثورة الآن هى خارطة طريق صحيحة ترشد الوطن إلى تحقيق أهدافه فى الديمقراطية والحرية والعدالة، خارطة طريق صحيحة غير ملونة بألوان فصيل سعى إلى تقسيم الوطن ووصل به إلى طريق مسدود. إن مصر فى أمسّ الحاجة إلى أن يتذكر الرئيس وجماعته وحزبه والمشايعون لهم أن المصريين قاموا بثورتهم اعتراضاً على رئيس للجمهورية أعطى لنفسه الحق فى تشويه دستور البلاد وكان مطلبهم الأساسى فى ميدان التحرير دستور جديد يحقق لهم الحرية والديمقراطية ويحافظ على النسيج الوطنى بدعم المواطنة وسيادة القانون. واليوم أتساءل: ماذا بقى من ثورة 25 يناير، بالإضافة إلى مئات الشهداء وآلاف الجرحى والمصابين والمئات من الأمهات والآباء الذين يبكون أولادهم ليل نهار، وسوى مناخ الانفلات الأمنى وسيادة البلطجة كأسلوب حياة لآلاف المصريين الذين يعانون الفقر والبطالة. ماذا بقى من ثورة شباب وشعب مصر سوى جماعات ومسئولين فى الرئاسة وحكومتها خلطوا بين شباب الثورة المطالبين بتحقيق أهدافها والمنفذين لمخططات الثورة المضادة، ومن يعملون لحساب جهات تمول أنشطتهم الهادفة إلى القضاء على الثورة! إن الثوار والغالبية من الشعب المصرى ما زالوا يطالبون بالتغيير الديمقراطى من أجل وطن حر ومجتمع تسوده الحرية بعد أن رفضوا الدستور المشوه الذى تم تمريره بليل والذى يقيد الحريات الأساسية للمواطنين ولا يقيم العدل إذ يعتدى على استقلال القضاء ويسمح بمحاكمة المدينين أمام المحاكم العسكرية ويطلق المجال أمام الجماعات المتأسلمة لتهديد السلام الاجتماعى بدعوى الحفاظ على القيم والأخلاق! والمصريون يرفضون ممارسات الرئاسة فى التغول على سلطة القضاء واستقلاله، ويرفضون صمت الرئاسة عن حصار المحكمة الدستورية، كما يرفضون تخويل مجلس الشورى سلطة التشريع وهو المطعون بعدم دستورية القانون الذى انتُخب على أساسه. إن ثورة الشعب المستمرة هى من أجل تدعيم قيم المواطنة لضمان سلامة الوطن وتأمين مستقبله، ورغبة فى تحقيق حياة إنسانية كريمة يأمن فيها المواطن على حاضره ومستقبله، وهم يطالبون بتكافؤ الفرص للجميع وعدم التمييز بينهم على أساس سوى حكم القانون. ورغم وضوح مطالب الثوار وعدالتها وإصرارهم على المضى بكل قواهم وحماسهم الوطنى لتأكيد الثورة وتحقيق أهدافها فى العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، إلا أن الرئاسة تفضّل الانزواء فى الغرف المغلقة وتعقد الاجتماعات التى لا يتم الإفصاح عما يدور خلالها مثل الاجتماع الذى دعا إليه الدكتور مرسى لمجلس الدفاع الوطنى والذى خرج علينا وزير الإعلام بعده ببيان لا يخاطب الشعب أو يتعامل مع مطالب الشعب والثوار، بل يلجأ إلى ذات الأقوال المرسلة والشعارات الجوفاء التى ملّ المصريون سماعها بعد أن فقدت معانيها والتى حفل البيان بها من عينة إدانة «العنف» من دون النظر إلى أسبابه والدعوة والتحقق ممن بدء العنف واستخدم سيولاً منهمرة من قنابل الغاز الخانقة والمسيلة للدموع، أو الدعوة إلى «الحوار الوطنى» والذى لا يلتزم به الرئيس ويفتقر إلى قائمة بموضوعات الحوار وآلياته وضمانات تنفيذ ما قد أسفر عنه، أو الاتهامات غير المؤيدة بأدلة تتهم «الفئة المندسة» أو «الطرف الثالث» وغير ذلك من تصنيفات تتهم الغاضبين والمعترضين على استخدام القوة المفرطة والميليشيات غير القانونية بأنهم وراء هذه الفوضى التى يسببها فشل الحكم والحكومة فى التخفيف من الاحتقان الشعبى والتردى فى الخدمات العامة وغلاء تكاليف المعيشة وانهيار العملة الوطنية واستمرار سياسة تسول المنح والمساعدات والقروض. ومما يزيد من دقة الموقف عودة الحكم إلى محاولة الاستقواء بالقوات المسلحة والتهديد بما لجأ إليه مبارك من فرض حظر التجوال أو احتمالات إعلان الأحكام العرفية بديلاً عن الاعتراف بأخطاء الحكم والاستجابة إلى ما يطالب به الثوار ومؤازروهم من قوى المعارضة الوطنية التى عبرت عنها «جبهة الإنقاذ الوطنى» من إعلان تشكيل حكومة إنقاذ وتشكيل لجنة قانونية محايدة لتعديل الدستور أو حتى صياغة دستور جديد ترضى عنه الأمة، أو إجراء انتخابات رئاسية جديدة لو كانت هذه رغبة الشعب! إن الخروج من هذا المأزق الذى تراكمت أسبابه منذ مرحلة الإدارة الفاشلة لشئون البلاد منذ تخلى الرئيس السابق عن منصبه، وتواصلت وتفاقمت حتى اليوم دون بادرة على قرب انفراجه هو ضرورة الانصياع لقرار الثوار فى كل مصر وقد اختاروا طريقهم الذى لن يحيدوا عنه ولا تملك أى سلطة منعهم عن استكمال ثورتهم مهما طال الزمن وزادت التضحيات.