فى عامى الأول فى فيينا، ذهبت إلى أحد المستشفيات من أجل مراجعة لا أتذكر أسبابها، لكنى أتذكر جيداً أننى كنت جالساً فى صالة الانتظار أتصفح مجلة ألمانية، بالأصح أتفرج على الصور وأحاول فك العناوين العريضة. سمعت عبر الميكروفون الداخلى جملة تقول: (هِر آمِد تارك.. هِر آمِد تارك بيتَا!) الجزء الأول من الجملة كان بصوت أنثوى جميل، الجزء الثانى كان بالصوت نفسه بتنبيه أعلى! تعلمت منذ ذاك اليوم أن أحفظ اسمى الجديد فى البلد الجديد، ولهذا قصة لا يحتملها المقال الآن؛ تعلمت أن اسمى الجديد يبدأ باسم العائلة (آمد) وهو أحمد، وهو ليس حقيقة اسم العائلة، وأن (تارك) تعنى: طارق، أما (هِر) فهى كلمة السيد احتراماً بالألمانية و(بيتَا) تعنى من فضلك! * عوملت يومها معاملة محترمة، دون تأمين صحى وقتها، لكن هذا المستشفى فى فيينا يقدم الرعاية الصحية المجانية على أعلى مستوى، ويقوم بإجراء عمليات جراحية لمن لا تساعدهم ظروفهم المادية أو ليس لديهم تأمين صحى، وهم قلة قليلة للغاية، لأن التأمين الصحى فى النمسا إجبارى ويُستقطع من أصل المرتب، ويحق لكل مواطن أن يذهب للطبيب الذى يختاره، ويقوم بكافة الكشوف والعلاجات المطلوبة للمريض مجاناً! * المقدمة السابقة ليس لها علاقة مباشرة بما أنوى قوله، لكنها تلح علىَّ حين أرى الأحوال الصحية فى مصر، أو عندما أستمع للمآسى المؤلمة المتكررة من الأهل والأقارب والأصدقاء، فالعلاج مكلف والوضع الصحى فى تدهور. المستشفيات العامة إمكانياتها رديئة، والتعامل مع المرضى غير إنسانى، بل يموت كثير من المرضى وهم رهن إجراءات روتينية عصية حتى استكمال التأمين فيموت المريض قبل انتهائها، وقد يتدرب الأطباء المبتدئون فى هذه المستشفيات على الأجساد الرخيصة لاستكمال خبراتهم العملية. الأمراض المتفشية فى السنوات العشرين الأخيرة حدث ولا حرج، فالهواء فسد والماء فسد وهما عصب الحياة، وعدد الأطباء بالمقابل يقل، إما بالهجرة إلى الداخل نحو العائد الأفضل بالعمل فى المستشفيات الخاصة، والعيادات الخاصة للنخبة القادرة، أو بالهجرة إلى الخارج خصوصاً للدول النفطية. المريض فى مثل هذه الدول، الذى لا يملك المال الكافى، يُستبعد أو تُستنزف عائلته، خصوصاً إذا كان مرضه مستعصياً أو مكلفاً. * العيب هنا ليس على الطبيب، بل على النظام الصحى الفاشل فى الدولة إجمالاً، فالدولة تخفق فى توفير حق أساسى للمواطن بأن يكون سليماً معافى، حتى ينضم لدورة اقتصادية سليمة بقدرته على العمل، وبالتالى يتخذ دوره الاجتماعى الصحيح كمواطن له حقوق وعليه واجبات. فى مثل تلك الدول تُعتبر الرعاية الصحية للأسف بمثابة شىء كمالى، بل قد يستغنى البعض عنها حيث لا طاقة أصلاً لمجابهة تكلفة الغذاء والكساء، فما بالك بالدواء؟! يبدأ الخلل فى وقت مبكر فى النظام التعليمى الخاطئ الذى يرفع الطبيب إلى مرتبة أعلى من البشر، منذ اليوم الأول لالتحاقه بكلية الطب، وهى آفة اجتماعية أيضاً فى تلك الدول، حين يتصرف الطبيب وفق شروط الوجاهة فى المجتمع ناسياً روح الإنسانية. * كلما تأملت هذا التبجح أو التعالى أو الفرح والارتياح لأن «فلان» الشهير قد سافر إلى الخارج للعلاج على نفقة الدولة، أتألم، فهذا المفهوم المطاط يعطى انطباعاً خادعاً، كأن الشخص يستحق ما لا يستحقه الآخرون. أفهم أن أى مريض يحتاج للعلاج ويذهب إليه فى أى مكان لو استطاع إليه سبيلاً، ولكن سيظل مفهوم «العلاج على نفقة الدولة» ملتبساً، باعتباره ميزة للبعض وحرماناً للأغلبية التى لا تجد أصلاً علاجاً ينقذها من أبسط العمليات كاستئصال اللوز أو الزائدة الدودية! (فيينا، فى 17-1-2013)