نظرة واحدة إلى عين الجنرال كما أطلق عليه الجميع كانت تكفى لتتيقن من أن هذا الرجل خلق ليكون قائدا عظيما ، ربما ساهمت دراسته العسكرية وعمله فى الجيش فى تكوين تلك الشخصية القيادية بداخله ، لكن المؤكد أنه ولد بموهبة وقدرات هائلة أتاحت له السيطرة على جنوده ولاعبيه عبر زمن طويل وفى مختلف البلاد ... نظرة واحدة إلى عين محمود الجوهرى كانت تكشف الكثير عن عامله الخاص . قسمات وجهه المصرية الخالصة جمعت ما بين الطيبة والأدب الشديدين ، وبين الصرامة والشجاعة ، فى مزيج قلما تجده بيننا هذه الأيام .. حتى لثغة حرف السين لديه ، منحته روحا مرحة بسيطة تجعلك تحب الاستماع إليه أكثر ، وكانت ابتسامته الدائمة تدل على خفة ظله وثقته الكبيرة بنفسه وقدرته على التعامل مع أى مشكلة تواجهه بمنتهى الهدوء والتعقل ، كان جنرالا حقيقيا رحمه الله . نحتاج إلى العودة إلى سنوات كثيرة ماضية ، وتحديدا إلى ليلة السابع عشر من نوفمبر من العام ألف وتسعمائة وتسعة وثمانين ، ليلة المواجهة الحاسمة بين المنتخب المصرى الأول لكرة القدم ومنتخب الجزائر فى آخر مباراة من التصفيات المؤهلة إلى نهائيات كأس العالم بإيطاليا 1990.. فلم تكن ليلة عادية أبدا ، حتى لو سبقها إنجازات وبطولات حققها الجوهرى كلاعب فذ فى صفوف معشوقه الأول ( النادى الأهلى المصرى ) ومع منتخب مصر ، ثم كمدرب شاب واعد منح نادى طفولته أول بطولة أفريقية عام 1982 وتنقل ذهابا إيابا خارج مصر وداخلها حتى كانت واقعة 1985 والتى أبعدته مجبرا عن ناديه ربما مظلوما بشكل واضح . تلك الليلة التى لم ينم فيها الجنرال والقائد الجوهرى ملء جفنيه مطلقا ، بل لعله كان مثل طالب فى امتحان السنة النهائية لحلمه الكبير ، تغمض عيناه للحظات ، ثم يصحو لمراجعة الخطة أو التكتيك الذى أعده للقاء الغد ، يتذكر تفصيلة صغيرة ثم يكتشف أنه حللها وسجلها لمراجعتها نهائيا مع رجاله فى صباح اليوم التالى ، فهو كان مثالا حيا للرجل المنظم الدقيق الملم بكل تفاصيل عمله طيلة سنوات طويلة من عمره .. ولو علم غيب اليوم التالى – ولا يعلم الغيب إلا الله سبحانه وتعالى – لربما ظل مستيقظا أيضا ليحتفل مبكرا بإنجازه التاريخى فى ليلة من ألف ليلة وليلة كانت فى اليوم التالى . وإذا قدر لك أن تتواجد فى صبيحة هذا اليوم ، فلن تجد فى الطرقات أو مكان العمل أو المدارس وكل المؤسسات المصرية سوى سؤال واحد يدوى طوال الوقت ( هل سنتأهل إلى كأس العالم اليوم ؟ ) .. فلم تعرف تلك الأجيال غالبا كيف يبدو فريقا مصريا فى بطولة كأس العالم لكرة القدم إلا عبر أوراق وذكريات غير واضحة المعالم عن تجربة عام 1934 بإيطاليا أيضا ... ولهذا كانت كل الجرائد وقناتا التليفزيون المصرى ( القناة الأولى والثانية كانت كل ما يمتلك أغلب مشاهدى التليفزيون وقتها ) ، تتابعان باهتمام ما يجرى فى الشارع المصرى فى هذا اليوم من ترقب المواجهة المصرية الجزائرية الحاسمة لهذا الجيل الذى اقترب من تحقيق حلم كان صعب المنال لدرجة الاستحالة . وبين آلاف المشاهدين فى مدرجات ملعب القاهرة ، وملايين خارجه تتابع اللقاء بشغف ، انطلقت ضربة البداية بينما يقف الأسد الهصور بجوار خط التماس ليوجه أولاده ، كان يشعر أو يسمع دقات قلبه وهى تقرع بقوة تكاد تفوق زئير الجماهير فى المدرجات ، ترقبا وشعورا بالمسئولية وإحساسا بقرب تحقيق الإنجاز ، وشعر الجوهرى بتسارع دقات قلبه مع هجمة تبدو منظمة يشتتها دفاع الجزائر بشكل غير مكتمل لتعود إلى الجهة اليسرى المصرية وترسل عرضية على ارتفاع مناسب ليودعها ابنه المقرب إلى قلبه ( حسام حسن ) برأسه مسجلة هدف الصعود إلى المونديال .. وتلمح بعينك الجوهرى جالسا على مقاعد البدلاء ملقيا بنظره كالثعلب نحو ملعب المباراة قبل أن يهب واقفا ليمنح أولاده الثقة أكثر معطيا بعض التعليمات لتأمين الدقائق الحرجة القادمة . ظل الجوهرى منتظرا لصافرة النهاية ، موجها لاعبيه تارة ،وتارة أخرى يجرى تبديلا لمزيد من التأمين ، قلبه القوى يدق بعنف مع هجمة خطرة عكسية للجزائريين يشتتها دفاعه أو يمسك بها حارسه ، حتى كانت اللحظة الحلم ، ولم يعد يدرى من يحمله فوق كتفه وعنقه ، طافوا به الملعب فرحا وسعادة ، فيا له من إنجاز عظيم بعد أكثر من نصف قرن من الغياب عن هذا المحفل العالمى الكبير لم يتكرر حتى لحظة كتابة تلك السطور ... طار الجوهرى فوق الرؤوس وشريط ذكريات طويل يمر أمام عينيه ، طفولته وشبابه فى النادى الأهلى ، بطولاته معه ومع منتخب مصر ، خروجه الحزين الأخير من ناديه .. إلا أن كل هذا انتحى جانبا فى عقله وتاريخه ليمنح الفرصة لوليد جديد رائع ، لم يتكرر ، حفر اسم هذا القائد بحروف متلألئة فى سماء الكرة المصرية .. ليظل كأس العالم بالنسبة للجمهور المصرى يعنى اسما واحدا فقط .. هو محمود الجوهرى . سنوات طويلة مرت ، غادر فيها الجوهرى مصر ومنتخبها وعاد مرات عديدة ، كان فى كل مرة يحمل أملا جديدا فى أن يترك بصمته المميزة لصالح بنى وطنه ، إخفاقات أحيانا وإنجازات كبرى ، ظل هو القائد الكبير المفضل لدى الجمهور المصرى كله ، كلما تأزمت الأمور ، كان الحل بسيط ... وفى جملة واحدة ذات رنين موسيقى شهير ( جوهرى .. جوهرى ) كانت كلمة السر بين هذا الرجل العظيم وبين جمهور بلده ومؤسستها الكروية . إلا أن الطبيعة البشرية لبعض المصريين كانت للأسف تمارس دورها الردئ مع رجل نادر الوجود حتى بعد إنجازات وإعجازات كروية فى وقتها ، فلم يكن يتخيل الجوهرى أن يطعن فى ظهره من أقرب المقربين إليه ، من لاعبيه ، الذين صنعهم بعد فضل الله وتوفيقه نجوما مشهورة فى تاريخ اللعبة ، وكانت تجربته الأكثر قسوة عقب فوزه بكأس الأمم الأفريقية عام 1998 ، فى بطولة لم يحلم بها أى مصرى فوق تلك الأرض ، ولم ينتظر أصحاب المصالح كثيرا ، حيث أقالوه فورا عقب هزيمة فى كأس القارات ، والتى لم تلعب فيها مصر سوى مرتين فقط فى تاريخها ، كانت الأولى مع الجوهرى .. وما بين لحظة الفرح والسعادة والفخر عام 90 ، وبين لحظة الغدر والقسوة غير المبررة عام 99 ، أدرك الجوهرى أن كارهي إنجازاته ونجاحاته لن يتركوه يهنأ بها .. ومع ذلك ، ظل القائد بداخله وروحه العنيدة القوية تجبران الجميع على احترامه ومحبته وتقديره . ابتعد قليلا وعاد مجددا ، ثم غادر وعاد ، وبينما كانت الدولة العربية الشقيقة الأردن ترغب بكل ما اوتيت من قوة فى تكريمه والاحتفاء به والاستفادة القصوى من خبراته وإمكانياته وأفكاره ، التى زادت ونضجت مع سنوات عمره المتقدمة وشعره الأشيب ونظارته الطبية الرقيقة .. كان أبناؤه داخل مصر يجحدون به ويهربون من تنفيذ أحلامه الكبيرة التى بدأت بتطبيق الاحتراف داخل مصر واستفادوا جميعا منه إلا هو ، فقد كان دوما القائد الكريم المتنزه عن تلك الصغائر والفتات ، وطعنوه طعنة أخيرة ، ليفتح له الأردن الشقيق ذارعيه مجددا ليطور ويبنى ويخطط ويرسم ملامح كرة متطورة قادمة للمملكة ، ويبتعد لآخر مرة عن بلده .. عن مصر رحم الله محمود الجوهرى وأسكنه فسيح جناته بإذنه تعالى ... ورغما عن أنف الجميع ، سيظل الجوهرى جنرالا من طراز فريد ، لم تعرفه الكرة المصرية من قبل ، ولن تجد له بديلا قط ، فكان نعم الرجل والقائد .. رحمه الله