"هنا شقلبان محطة إذاعة حلاوة زمان نقدم إليكم بكل اللغات مراسح وسيما وجميع الفنون صحافة ومنابر وتليفزيونات وخطبا ف جوامع وجبنة وزتون" يا الله.. ما هذه الكلمات السحرية؟ هل هي تعويذة ما؟ هكذا بدأت علاقتي بالفاجومي من خلال كاسيت ناشيونال صغير كان يضعه أبي بجوار مكتبه وتعرفت من خلاله تلصصا على نجم والشيخ إمام وفيروز وأم كلثوم ووردة وفايزة أحمد والشيخ مصطفى إسماعيل وصور الإذاعة الغنائية.. إلخ مئات من شرائط الكاسيت تم رصّها بعناية في صفوف متوازية متلاصقة كتب خيري شلبي بخطّه المنمق على غلاف كل منها محتواه، واختص الشيخ إمام ونجم بعدة صفوف هي الأقرب ليده وقلبه، وكنت أميّز صوت أبي جيدا من بين أصوات الحاضرين الذين يهللون فرحا وطربا حينا "الله الله الله"، ويغنّون مع الشيخ ككورال في معظم الأحيان. يسرّ الإذاعة وما يسركوش بهذي المناسبة وما بندعيكوش نقدّم إليكم ولا تقرفوش شحاتة المعسل بدون الرتوش كنت في الخامسة أو السادسة من عمري تقريبا في أواخر سبعينيات القرن الماضي، ولم أكن أفهم شيئا تقريبا من تلك الكلمات وما المقصود من ورائها، ولكن أذني كانتا ترقصان فرحا بذلك الإيقاع المذهل والقدرة الإعجازية على رصّ الكلمات خلف بعضها البعض تتخلّلها ضحكات عالية لا نهائية من تلك الجوقة الساكنة أبدا في ذلك الجهاز العجيب الصغير. لم أكن حتى مهتما بمحاولة أن أفهم، بل كل ما اهتممت به أن أنتهل من تلك الكلمات الراقصة قدر استطاعتي. ولأنني لم أكن من الجرأة بمكان كي أستغل غياب أبي في عمل أو نوم لأتسلل لغرفة مكتبه وأفتّش بنفسي في ذلك الكنز الإيقاعي الغنائي المسمّى بتسجيلات أبي في حضرة الشيخ ونجم وبقية جوقة "حوش قدم"، كنت حينها مضطرا للانتظار حتى يفتح أبي كنزه بنفسه لأسترق السمع من خارج الغرفة منتشيا. يأنفس يأفين يبلبع حبوب ويفضل يهلفط ولا تفهموش وتفهم ما تفهم دا ما يهمناش لأن إنت فاهم وعامل طناش ح تنكر وتحلف ح أقول لك بلاش ح تتعب دماغنا وتتعب كمان سنوات قليلة مرّت وكانت جرأتي زادت على مكتب ومكتبة أبي، بعلمه وتشجيعه أحيانا، وتلصصا أحيانا لانتهاك حُرمة شرائطه المقدسة كأنني أشرب السجائر من دون علم أهلي! عرفت خلالها أن تعويذات نجم الإيقاعية ليست الوحيدة، بل سحرتني مئات ومئات التعويذات لحدّاد وجاهين والتونسي والأبنودي وحجاب. حتى حلّ على المكتبة ضيف جديد اسمه الأعمال الشعرية الكاملة لأحمد فؤاد نجم في جزءين صادرين في لبنان، كانا بالنسبة لي مفتاح الحياة لعمر جديد بدأت فيه استيعاب أن تلك التعويذات السحرية لم تكن مجرد رصّ لكلمات إيقاعية متناغمة متجانسة بل هي الروح التي دبّت في جسدي لتخبرني ما الحياة وما الوطن وما الحب وما الخيانة وما الإخلاص، بل ومن أنا، وما سأكونه بعد سنوات وسنوات من إلقاء تلك التعويذة السحرية عليّ للمرة الأولى. يا نجم يا ساحر.. أخدت روحي معاك.