"أنا لست متواضعا، فالتواضع هو شيمة الكبار فقط"! هذه العبارة اللامعة، المركبة، بشئ من براعة "السفسطائيين" القدامى في اللعب بالألفاظ، واحدة من بنات أفكار الكاتب الساخر الراحل محمد عفيفي (1922- 1981)، الأب الروحي لجيل كامل من الكُتّاب الساخرين، والمتساخرين، الجدد في مصر الآن، مع تفاوت القامات، من بلال فضل إلى عمر طاهر إلى أحمد العسيلي، وحتى أحمد خالد توفيق. هؤلاء جميعا تأثروا بعفيفي أو "انتحلوه" بشكل ما، فمنهم من تلبس بروحه وتقمصه، ومنهم من أجرى عمليات "تمصير" لكتاباته على طريقة الكبيرين نجيب الريحاني وبديع خيري قديما، بل إن منهم من "اقتبس" منه جهارا نهارا، وكأن كتاباته وكالة من غير بواّب. ووصل الأمر حد أن كاتبا شهيرا من نجوم الصحافة المصرية حاليا، يرأس مجلس تحرير صحيفة أسبوعية ذائعة الصيت، استحل تراث عفيفي في أكثر من موضع، لكنه وقع بلسانه وسجل في أحد كتبه عن النكتة السياسية "اقتباسة علنية" من عفيفي عندما قال نصا في صفحة من الكتاب المطبوع 8 طبعات "وقلت مرة أخرى في برنامج (تليفزيوني) آخر: لا أتصور أن أمامي فرصة لأصبح مليونيرا، فمن الصعب على رجل تجاوز الأربعين مثلي أن يبدأ في تعلم السرقة". وهذه الجملة التي أذاعها الكاتب على الهواء مباشرة، باعترافه، هي استعارة غير مكنية مع شئ من التصرف لعبارة عفيفي "يبدو أنني سأعيش وأموت فقيرا، فمن الصعب على رجل في الخمسين مثلي ان يشرع في تعلم السرقة"! ولكن، لماذا لم يشتهر عفيفي، وأصبح كما قال عنه خيري شلبي، "الكاتب الذي نسيه القوم، وغدرت به ذاكرة التقدير، كأنه لم يكن"، في حين أن بعض تلاميذه الساخرين من قامات أقصر، طبقت شهرتهم الآفاق؟ واقع الحال أن مشكلة عفيفي، في حياته ومماته، أنه كان كاتبا لامع العقل وحاد اللسان و"مثقفا" أكثر من اللازم، في بلد بليد العقل، ومداهن، ولا يقرأ. كما أن الرجل لم يلق من أصدقائه الكبار في شلة "الحرافيش" بزعامة نجيب محفوظ، من الوفاء والتقدير ما يحيا به ذكره وذكراه، حتى أن محفوظ نفسه الذي كان معروفا بتهذيبه الشديد، وصف عفيفي بشكل غير لائق في مذكراته التي سجلها رجاء النقاش، حينما قال عنه بعد وفاته إن "مشكلته كانت هي إدمان الخمر الرخيص". وما كان لمحفوظ الذي كتب روايته الشهيرة "ثرثرة فوق النيل" عن أحداث حقيقية دارت في عواّمة كان يسكن فيها عفيفي، ما كان له أن يفضح صديقه وهو راقد في مثواه الأخير. وعلى الرغم من ذلك، كان محفوظ هو أدرى الناس بقيمة وقامة الرجل، فقد قال عنه ذات مرة "كانت السخرية محور حياة عفيفي، ينبض بها قلبه، ويفكر بها عقله، وتتحرك بها إرادته، فهي ليست بالثوب الذي يرتديه عندما يمسك القلم، وينزعه إذا خاض الحياة، ولكنها جلده ولحمه ودمه وأسلوبه عند الجد والهزل". وكانت مشكلة عفيفي، فوق ذلك، في المحيط العام، أنه رجل تشبع بتراث السخرية الأوروبية الرفيعة، فلم يتدن إلى مستوى "الردح" في كتاباته ليرضي الذوق العام، لقد كان "الوجه المثقف" للكتابة المصرية العربية الساخرة، التي كان وجهها الآخر المقابل هو الراحل الكبير محمود السعدني، الذي كانت سخريته مزيجا من "عصير الحياة" العذب. أما عفيفي فكان أقرب إلى "الصنايعي" الماهر، ذلك الساخر الساحر، الذي تعلم استقصاء مفارقات الحياة بعقل بارد، مثل جوناثان سويفت نوعا ما، والذي تخرج منه السخرية قاسية، لمّاحة، مفارقة للمألوف، وكأن "الطبيعة التي تداوي نفسها بنفسها، كما يقول أحمد أمين، رأت البؤس داء فعالجته بالضحك دواء". ولأنه كان عازفا عن الشهرة، زاهدا في الوجاهة الاجتماعية، وكان يفضل الجلوس متوحدا في ظلال الأشجار، لم يحظ الرجل بما يستحق من الشهرة، وأصبحت كتاباته التي يعرفها القليلون مستباحة لكل من هب وكتب. ولم يسلم عفيفي من كبار الكُتّاب، وصغارهم أيضا، وكان أنيس منصور أحد هؤلاء الكبار الذين استحلوا تركة الرجل من العبارات القصيرة البارعة، خاصة في مجال السخرية من الزواج والمتزوجين، وهذه هي بعض العبارات التي نقلها "أنيس" حرفيا، أو تصرف فيها، ونشرها في "أهرام الجمعة" على مدار سنوات طويلة: • الفرق بين الحب الفاشل والحب الناجح، أن الأول يؤلمك شهرا، في حين الثاني يؤلمك مدى الحياة • لا تحزن إذا فاتك قطار الزواج، فلئن يفوتك خير من أن يدهسك • سر متاعبنا لا يكمن في أن الأشياء غير موجودة، بقدر ما يكمن في أنها موجودة في مكان آخر. • سيظل الناس يتزوجون إلى الأبد، ما دام الرجل يتوهم أن حظه سيكون أحسن من حظ الآخرين. هذا هو غيض من فيض عفيفي، الذي عاش ومات متعففا، كريم النفس، فلم يلق التكريم الذي يستحق، ولم يعترض على سرقته، حيا وميتا!.