منذ نشأته عقب نكبة 1948، عاش الكيان الصهيوني وهو يحلم بيومٍ يصبح فيه كيانًا مقبولًا في العالم العربي والإسلامي، يسعى لانتزاع شرعية وجوده من واقعٍ يرفضه. حاول أن يُقنع يهود العالم بالهجرة إلى الأراضي المحتلة باعتبارها "الوطن الموعود"، وسعى لإقناع المجتمع الدولي بأنه جزء من النظام العالمي الحديث، فاستجدى الدعم الأوروبي، وخاض الحروب ليثبت نفسه كقوةٍ فاعلة كما حدث في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956. كانت الفكرة الدائمة أن يُقدّم نفسه كدولة طبيعية، بل شريكًا يمكن الوثوق به في الشرق الأوسط. لكن رغم نجاحه النسبي في مراكمة التحالفات السياسية والعسكرية، ظل الكيان عاجزًا عن تحقيق القبول الشعبي في العالم العربي، إذ فشلت دعايته المتكررة في اختراق الوعي الجمعي الذي يرى فيه مشروعًا استعماريًا غاصبًا. ومع كل جولة حرب أو موجة تطبيع، كالتي يروَّج لها مؤخرًا في إطار ما يُسمَّى "معاهدات إبراهام"، كان يكتشف من جديد أنه مكروه في الوجدان الشعبي أكثر مما يتخيل، وأن الرفض العربي له متجذر يتوارثه الجيل تلو الجيل. ولأن الإعلام كان دائمًا إحدى جبهاته المفضلة لتلميع صورته، حاول الاحتلال أن يُغيّر أدواته ووجوهه بين الحين والآخر. ومن بين تلك الوجوه كان أفيخاي أدرعي، المتحدث باسم جيش الاحتلال باللغة العربية، الذي تحوّل إلى أيقونة للدعاية الإسرائيلية الموجّهة للعرب. إلا أن ما تسميه المؤسسة "تقاعدًا" يبدو في الواقع رحيلًا إجباريًا لواجهة فقدت بريقها، بعدما عجزت عن تحسين صورة الكيان في أعين العرب، وباتت رمزًا لفشل الحرب الناعمة التي خاضها الاحتلال على منصات الإعلام. إعلان التقاعد بعد عشرين عامًا من الخدمة أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي رسميًا عن تقاعد المتحدث باسمه باللغة العربية أفيخاي أدرعي بعد قرابة عشرين عامًا من العمل في قسم الإعلام العربي، في خطوة تُنهي مسيرة طويلة من الظهور الإعلامي الذي جعل منه أحد أشهر الوجوه الإسرائيلية المكروهة في الشارع العربي. وخلال تلك السنوات، قاد أدرعي حملة دعائية متواصلة هدفت إلى اختراق الوعي العربي وتلميع صورة الاحتلال عبر أدواتٍ إعلامية حديثة وخطابٍ متقن بالعربية، حتى صار الواجهة الأشهر للإعلام الحربي الإسرائيلي. من هو أفيخاي أدرعي؟ وُلد أفيخاي أدرعي عام 1982 في مدينة حيفا بفلسطينالمحتلة، وتولى منصب المتحدث الرسمي باسم جيش الاحتلال باللغة العربية منذ بدايات الألفية الجديدة. عُرف بلغته العربية الفصيحة وأسلوبه المزدوج بين النعومة والسخرية، مقدِّمًا نفسه ك "صوت مختلف" وسط آلة الحرب الإسرائيلية. وقد ظهر بانتظام على القنوات العربية ومنصات التواصل، محاولًا تبرير سياسات الاحتلال وعدوانه على غزة ولبنان وسوريا. لسان عربي في خدمة الاحتلال لسان عربي في خدمة الاحتلال اعتمد أدرعي على أسلوبٍ إعلامي يقوم على استمالة الجمهور العربي عبر خطابٍ يبدو وديًا ومفتوحًا، لكنه يحمل رسائل نفسية موجهة. فقد كان يخلط بين المفردات الدينية والعبارات العاطفية لتخفيف حدة صورة الاحتلال، ويستغل المناسبات العربية والإسلامية للتقرب من الجمهور، في إطار ما وصفه خبراء الإعلام ب "الحرب الناعمة" التي تهدف إلى كسر الحاجز العاطفي بين المحتل والمُحتل. ورغم نشاطه الواسع، ظل حضوره مثار جدل دائم ورفض شعبي واسع. الكابتن إيلا.. ضابطة عربية تتصدر الترشيحات لخلافة أفيخاى أدرعى بالجيش الإسرائيلي عاجل| نهاية حقبة: أفيخاي أدرعي يترك الإعلام الإسرائيلي باللغة العربية استخدم أدرعي استراتيجيات غريبة كالظهور بشكل مثير للجدل أو أسلحة لغوية نفسية بمهارة، فكان يسخر من خصوم الاحتلال ويتهكم على قيادات المقاومة الفلسطينية والإعلام العربي لإثارة التفاعل وجذب الانتباه. حرب ناعمة بأسلحة لغوية خلال مسيرته الإعلامية، استخدم أدرعي استراتيجيات غريبة كالظهور بشكل مثير للجدل أو أسلحة لغوية نفسية بمهارة، فكان يسخر من خصوم الاحتلال ويتهكم على قيادات المقاومة الفلسطينية والإعلام العربي لإثارة التفاعل وجذب الانتباه. كما اعتمد على التكرار والمصطلحات الموحية لتثبيت مفاهيم تخدم رواية الاحتلال، مثل وصف المقاومة ب "المخرّبين" أو "دواعش حماس"، مقابل التأكيد على تسمية الجيش الإسرائيلي ب "جيش الدفاع". اعتمد أيضًا على الثنائيات الضدية، كالمبالغة في قوة إسرائيل مقابل التقليل من قدرات المقاومة، لتوجيه الرأي العام نحو قبول "واقع التفوق الإسرائيلي". المولد والنشأة والجذور العائلية ينحدر أدرعي من عائلة تجمع بين أصول سورية وتركية وعراقية؛ فجده من جهة الأب وُلد في فلسطين خلال الانتداب البريطاني، وجدته من أصول تركية، بينما قدم جدّاه من جهة الأم من البصرة العراقية في خمسينيات القرن الماضي واستقروا في كريات آتا قرب حيفا. هذه الخلفية المتنوعة منحته قدرة لغوية وثقافية مكّنته من التواصل مع العالم العربي، وهو ما استفاد منه في بناء صورته الإعلامية لاحقًا داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية. من الدعاية إلى التراجع مع تصاعد الحرب الإسرائيلية على غزة عامي 2023 و2024، واجه أدرعي انتقاداتٍ واسعة داخل وخارج إسرائيل بعد تراجع فاعلية خطابه الدعائي وفشل الرواية الرسمية في تبرير الجرائم بحق المدنيين. وأشارت تقارير عبرية إلى أن مغادرته جاءت ضمن إعادة هيكلة للإعلام العسكري الإسرائيلي عقب فشل ما عُرف بحملة "الردع النفسي". وبرحيله، يُغلق جيش الاحتلال صفحة أحد أبرز أدواته في الحرب الإعلامية الموجهة للعرب، بعدما تحوّل من واجهة دعائية فعالة إلى رمزٍ للخطاب المزوّر والمستفز الذي فقد تأثيره أمام مشاهد الدمار والواقع الدموي في غزة.