النائبة هبة شاروبيم: هناك فجوة كبيرة بين واقع كليات التربية الحالية ومتطلبات إعداد المعلم    الدولار يلامس 51 جنيهاً في مصر مع تصاعد التوترات    "حياة كريمة" تقترب من إنجاز مرحلتها الأولى بتكلفة 350 مليار جنيه.. أكثر من 500 قرية تم تطويرها و18 مليون مستفيد    مصر تستهل قيادتها للاتحاد الدولي للغاز كنائب رئيس تمهيدا لرئاستها المقبلة فى 2028    وحدة السكان بالمنيا تنفذ 40 دورة تدريبية لتأهيل 4000 شاب وفتاة بقرى "حياة كريمة"    السيسي يوجه بتعزيز الانضباط المالي ومخصصات الحماية الاجتماعية    مياه سوهاج: تجديد شهادة الإدارة الفنية المستدامة ل3 محطات مياه شرب وصرف صحي    وزير الخارجية والهجرة يلتقي بمستشار الشئون الخارجية في بنجلاديش    منتخب مصر لكرة اليد للشباب يتأهل إلى الدور الرئيسي في بطولة العالم ببولندا    "زي النهاردة".. ليفربول يعلن التعاقد مع الملك المصري محمد صلاح    وزير التعليم: اتخاذ كافة الاجراءات بسرعة تجاه أي مخالفات يتم رصدها    حالة الطقس اليوم في السعودية.. أمطار رعدية وتقلبات بمكة والمدينة    تجديد حبس المتهمين باحتجاز أجنبي بسبب خلافات مالية بمدينة نصر    بالفيديو.. وزير الثقافة يدشن تمثال مجدي يعقوب: رمز للقيم ورسالة إلهام متجددة لأبناء الأجيال    منها «7 تماثيل لأبو الهول».. «سياحة الإسكندرية» تستعرض اكتشافات أثرية ب6 مواقع (صور)    تأجيل دعوى هيفاء وهبي ضد نقيب الموسيقيين إلى 10 يوليو للاطلاع    اتحاد الكرة يعلن.. اخطار كاف بالأندية الأربعة المشاركة في دوري الأبطال والكونفدرالية    ستونز: مررت ببعض اللحظات الصعبة بالموسم الماضي.. وأريد البقاء في مانشستر سيتي    رئيس بورتو البرتغالي يتوعد بالفوز على الأهلي    زلزال بقوة 5.2 درجة قرب جزر توكارا جنوب غربي اليابان    كورتوا: لا نلتفت للانتقادات وعلينا الفوز على باتشوكا لانتزاع الصدارة    أوبزرفر: خيارات إيران للرد على الضربات الأمريكية محدودة ومحفوفة بالمخاطر    وصول المتهمين الثلاثة بإنهاء حياة أدهم طالب كفر الشيخ للمحكمة استعدادًا لبدء جلسة محاكمتهم    إصابة عامل إثر انهيار عقار قديم في السيالة بالإسكندرية (صور)    3 طلاب يتسلقون طائرة هيكلية في الشرقية.. و«الداخلية» تكشف الملابسات (تفاصيل)    أمان القابضة تغلق الإصدار الثالث من سندات التوريق بقيمة 665.5 مليون جنيه    خبير صحراوي: لا تأثير سلبي لمنخفض القطارة على المياه الجوفية    تقارير: مدافع ليفربول يخضع للفحص الطبي في باير ليفركوزن    الليلة.. نانسي عجرم تغنى في موازين بعد غياب 7 سنوات    الحرس الثورى الإيرانى: الطائرات المشاركة بالهجوم على إيران تحت المراقبة    في ذكرى ميلاده.. عمرو الليثي يعرض أخر لقاء تلفزيوني أجراه أشرف عبدالغفور    وزير التعليم العالي يتفقد مركز أسوان للقلب ويشاهد إجراء عملية جراحية للقلب المفتوح من خارج غرفة العمليات    مصرع تاجر مخدرات وضبط آخرين لحيازتهم مواد ب50 مليون جنيه في أسوان    مصدر إيراني: نقلنا معظم اليورانيوم من منشأة «فوردو» إلى موقع آخر    الحرس الثوري الإيراني: القدرات الأساسية للقوات المسلحة لم يتم تفعيلها بعد    د.عبدالراضي رضوان يكتب : ل نحيا بالوعي "15" .. التساؤلات العشر حول ناكر الجميل    عبد الحفيظ: الأهلي كان ممكن يرجع ب13 مليون دولار.. لا يليق أن نودع مونديال الأندية في المركز 27    بدون تكييف.. حيل ذكية لاستخدام المروحة لتبريد منزلك بكفاءة في الصيف    محافظ أسيوط يبحث آليات دعم المنظومة الصحية وتحسين مستوى الخدمات الطبية    إرهاصات أولى لحرب عالمية ثالثة.. محللة سياسية تكشف: الحرب مع إيران لم تكن مفاجئة    تداول حل امتحان اللغة العربية للثانوية العامة 2025 في جروبات الغش.. والتعليم تحقق    هيئة الرقابة النووية: مصر بعيدة عن أي تأثير لضرب المنشآت النووية الإيرانية    صور.. المركز الكاثوليكي المصري للسينما يكرم صناع مسلسل "لام شمسية"    «الرعاية الصحية»: إطلاق برنامج «عيشها بصحة» لتعزيز الوقاية ونمط الحياة الصحي بمحافظات التأمين الصحي الشامل    النسوية الإسلامية (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا): مكانة الأسرة.. فى الإسلام والمجتمع! "130"    "الصحفيين" تطالب باجتماع عاجل مع "الأعلى للإعلام"    رئيس حزب المصريين الأحرار ل«روزاليوسف»: عصام خليل: نستعد للانتخابات بكوادر جديدة    هل يجوز إعطاء زكاة المال للأبناء؟.. أمين الفتوى يوضح    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاحد 22-6-2025 في محافظة قنا    ثانوية عامة 2025.. أولياء الأمور يرافقون الطلاب لدعمهم أمام لجان الدقي    بعد آخر انخفاض.. سعر الذهب اليوم الأحد 22-6-2025 في مصر وعيار 21 الآن    أبرزهم زيزو.. محسن صالح منتقدًا ثلاثي الأهلي: «ليس لهم عنوان في القلعة الحمراء»    ترامب عن مهلة الأسبوعين لإيران: الوقت وحده هو الذي سيخبرنا    الجامع الأزهر يعقد ملتقى التفسير بعنوان"الهجرة بين الإعجاز البلاغي والعلمي"، اليوم    إيران: " فوردو" النووية لا تحتوي على مواد مشعة    صديقة طبيبة طنطا الراحلة: خدمت مرضى كورونا وتوفيت أثناء عملها    هل يجوز الوضوء والاغتسال بماء البحر؟    التعجل في المواجهة يؤدي إلى نتائج عكسية.. حظ برج الدلو اليوم 22 يونيو    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قبسات من روائع البيان - سورة الإسراء
نشر في الفجر يوم 01 - 10 - 2011

(سُبْحَانَ الذَي أَسْرَى بِعَبِدِهِ (1)) إنّ أمرَ الإسراء لَيَسْتَحِقّ الحمدَ والثناء والشكر لله، وهذا يُناسِبُهُ أن يَسْتَهِلَ الابتداءَ بالحمد، فيقول (الحمد لله الذي أسرى بعبده)، كما قال سبحانه في مطلعِ سورة الكهف في مَعْرَضِ المِنّة (الْحَمْدُ لِلهِ الذّي~أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ) فلمَ بدأ قصة الإسراءِ بالتسبيح دون الحمد؟ هذا من براعةِ الاستهلالِ الذي يُناسِبُ مَقَامَ المُعْجِزَةِ الخارِقة، مُعْجِزَةِ الاسراء، لِأنّهُ أمْرٌ خارقٌ لِلعادة، فناسبَ اَن يبدأهُ بلفظٍ يُشِيرُ إلى كمالِ القدرة وتَنَزُّهِ اللهُ عن صفاتِ النقص.


(سُبْحَانَ الذّي أَسْرَى بِعَبِدِهِ (1)) لِمَ وصفَ النّبي صلي الله عليه وسلم بصفةِ العبد فقال (بِعَبْدِهِ)، ولم يصفهُ بالنبوّة كأن يقول (سبحان الذي أسري بنبيِّهِ)؟ وصف اللهُ تعالى نبيهُ صلّى اللهُ عليهِ وسلُم بالعُبُوديةِ فقال (أَسْرَى بِعَبِدِهِ)، لأنّهُ أشرفُ المَقَامات وأسمى المراتِبِ العَلِيَّة، ولهذا قال القاضي عِيَاض:

وممّا زَادَني شَرفا وتِيها وَكِدتُ بِأخْمَصَي أطَؤ الثّرَيّا

دخولي تحت قولِكَ يا عِبادي وَأن صَيّرْتَ أحمدَ لي نَبيا


(وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ (13)) لننظر إلى هذا التعبير الذي يرسم أمامنا صورة شاخِصة تشِفُّ عن معناها، فقد استعار لملازمةِ الإنسانُ لِعملِهِ الذي يُجزَى بهِ استعارَ صورة القِلادة التي تلزَمُ العُنُق ولا تكادُ تنفكُ عنهُ ، وهذا كُلُّهُ لِيُقَرِّبَ لكَ أيّها الإنسان صورة الحسابِ دونَ نقص.


(وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)) لِنتأمّل هذا المَشْهد الذي يُفاجئُ به كلّ الإنسانٍ يوم القيامة، حيث يُعْرضُ عليهِ سِجِلُّ أعمالهِ في كتابٍ منشور، ووصفُ الكتابِ بالمنشور إيماءٌ إلى سرعةِ اطلاع الإنسانِ على جميعِ ما عملَهُ، فالكتابُ قد أُحْضِرَ مفتوحًا قبل وصولِ صاحبهِ لِلمُطالَعَة.


(وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (15)) الوِزْر هو الثّقَل العظيم، وإنّما عبّر بهِ ربُّنا هنا عنِ (الإثم) لِتَشْبِيهِ (الإثْمِ) بالحملِ الثّقيل لِمَا يَجُرُّهُ منَ التّعب لِصاحبهِ في الآخرة، فكما إنّ الحِمْلَ يُتْعِبُ صاحبهُ ويُرهقُ كاهلهُ، فكذلك الإثمَ فإنّهُ يَقْصمُ ظهرَ صاحبه.


(مَنْ كَانَ يُرِيد الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيْهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ (18)) وقال تعالى (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَاُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَّشْكُورًا (19)) لقد عبّرَ ربُّنا عن سعي الإنسانِ وراء الدّنيا وحرصهِ على نَيْلِها بالفعل المضارع فقال (يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ)، بينما عبّر عن إرادةِ الآخرة بالماضي فقال (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا) في هذا إيماءٌ إلى أنّ إرادةَ الإنسانِ العاجلة مُتكرِّرةٌ مُتجدِّدة، وأنَّ إرادة الآخرة أدنى من إرادةِ الدّنيا ولذلك عبّرَ عنِ الآخرة بالماضي (أَرَادَ الْآخِرَة) الذي يدُلُّ على الرّسوخِ والثّبات.


(وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئك َ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا(19)) لِمَا قَيَّد ربّنا إرادةَ الآخرةِ (بالسعي)، ثم أكّدهُ بالمصدر (سَعْيَهَا) فقال (وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا) مع أنّه كان يمكن أن يقتصر على الفعلِ فيقول (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ)، في ذكرِ المصدر (سَعْيَهَا) نتبيهٌ لنا على أنّ إرادةَ خيرِ الآخرة (من غير سعي) غُرور، وأنّ إرادة كُلّ شئٍ لابد لِنجاحهِ منَ السَّعي في أسبابِ حصوله، وللهِ دَرُّ عبد الله بن المبارك الذي قال:

ترجو النّجاة ولم تَسْلُك مَسَالِكَها إنَّ الّسَفِينةَ لا تَجْرِي عَلَى الْيَبَسِ


(لَا تَجْعَل مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعَدَ مَذْمُومًا مَخّْذُولًا (22)) القعود هو الجلوس، ومن جلس على حجرٍ إلتصق بهِ، ومن قعد مخذولًا مذمومًا فقد إلتصق بهاتين الصفتين ولازمهما.


(إمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا (23)) ننظر إلى هذا السِّيَاجِ المَنِيع الذي ضربهُ ربُّنا حول حُرْمَةِ الأبوين، فقد نهانا عن النطق ب (أُفّ)، مع أنّ النهى ليسَ المقصودِ بهِ هذه الكلمة خاصةً، وإنما خصّ النهى ب (أُفّ) لأنها أوجَزُ كلمة تُوحى الأذى باللسان، ولأنها لا تدلُ على أكثر من حصولِ الضّجَرِ دونَ شَتْمٍٍ أو ذمّ، فإن كنّا قد نًهينا عن هذا الأذى الذي لا يشْعرُ بهِ الإنسان وهو يَتَفَوّهُ بهِ، فما بالك بما هو أشدّ أذىً سواءٌ أكان باللسان أم كان بالجوارح.


(وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ (24)) لننظر إلى هذا التعبير عن التواضع للوالدين، فقد صاغه تعالى لنا في صورة تذلل الطائر عندما يعتريه خوفٌ من طائرٍ أشدِ منه، إذ يخفضُ جَناحهُ مُتَذلِّلاً، والمؤمن يتذلَّلُ أمام والديه تذلُّل رحمةٍ وعطفٍ مَشُوبًا بالخوف من غضبهما الذي يُغْضِبُ الله.


(وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةًًإِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطَهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)) لننظر إلى هذه الصورة التى تأسرُ الفؤاد، فهى صورةٌ فريدةٌ لشخصَيتَنِ متناقضتينِ تماماً، شخصيةِ البخيل وشخصية المُسرِف، فأما البخيل فقد مثَّلتهُ الصورةُ بالذي غُلَّت يدُهُ إلى عنقهِ وشُدَّت بالقيدِ خَشْية أن تذلّ يدُه فتنفقَ ولو درهمًا، وأما الصورة الأُخرى فهى على نقيض هذه الصورة تماماً، فقد رسمت صورةَ المسرف و مثَّلت حالَهُ بيدٍ مبسوطةٍ غايةِ البسط بحيث لا تحفظُ ما يقعُ فيها.


(فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)) ننظر إلى هذه الخاتمة البيِّنة، فقد جاءت مُلائمةً لِما سبقها في قوله (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطَهَا كُلَّ الْبَسْطِ) فالبخيلُ ذُكِرَ أولاً فأتى جزاؤهُ أولاً فقال (فَتَقْعُدَ مَلُومًا) لأن البخيل مَلُوم، والمُسْرِف هوَ المَحْسُور. ولكن لِمَ وُصِفَ المُسرفُ (بالمحسور) ولم يوصف بالملوم؟ إذا رجعنا إلى معنى (المحسور) رأينا أنه يُقالُ لِلبَعِيرِ (حسيرِ) إذا أتعبه السير فلم تبقى لهُ قوّة، فاستُعِيرَ هذا الوَصفُ لِلمُسرِف، لِأنّهُ عندما يُضِيعُ كُلّ مالِهِ إسرافًا إنّما يُنْهِكَ قوتَهُ ويُلْقِي بنفسَهُ إلى الرَّدَى، حيث يَغْدُو غَيرَ قادرٍ على إقامةِ شُؤونهِ، فناسبهُ أن يُوصف (بالمحسور) الذى لم تعدّ لهُ قوة.


ويقول تعالى (وَلَا تَقْتُلُوا أوْلًادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإيَّاكُمْ (31)) نقف أمام مثل من دقائقِ التعبير القرآني العجيبة ، ففي هذه الآية قدّمَ ربنا سبحانه رزق الأبناء على رزق الآباء فقال (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإيَّاكُمْ)، بينما في (سورة الأنعام) آية (151) قدَّمَ رزق الآباء فقال (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإيَّاهُمْ)، فما السر في هذا التقديم والتأخير؟ إنّ السّر في ذلك أن قتلَ الأولادِ هنا في (سورة الإسراء) كان خَشيَةِ وُقُوعِ الفقرِ بِسببهم فقدّمَ تعالى رزق الأبناءِ على الآباءِ ، وفي (سورة الأنعام) كان قتلُهم بسبب فقرِ الآباء فعلًا فقدّم رزقَ الآباء؛ فللهِ دِرُ التنزيل ما أروع أسرارهُ.


ويقول تعالى (إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)) لِمَ قال ربنا (خِطَئًا)، ولم يقل (خَطَأًً كبيرًا)؟ إنَّ سرَّ التعبير القرآني في الآية يَكْمُنُ في كسرِ حرف الخاء {خِطْئًا} لأنه يدلُ على مَن أصابَ إثمًا ، والإثمُ لا يكونُ إلا عن عَمْدٍ، وأما (الخطأ) بفتحِ حرف الخاء فهو ضِدُّ العَمْد وفعلُهُ (أخْطَأ) واسم الفاعل فيه (مُخْطِئ)، كقوله تعالى (وليْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيْمَا أخْطَأتُمْ بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدت قُلُوبُكُمْ) في هذا بيانٌ لهم بأنّ قتلهم للأولاد إثمٌ ليس فيه ما يُعْذرُ عليه فاعِلُهُ.


(وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هّذَا الْقُرْءَانِ لِيَذّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إلّا نُفُورَا (41)) لنتأمّل إلى هذا التعبير (وَمَا يَزِيدَهُمْ إلَّا نُفُورًا)، لعلك تقول أين التصويرُ والتمثيلُ في هذهِ الكلمة (نُفُورًا)؟ إنّ النفور هو هروب الدابةِ بجزعٍٍ وخشية من الأذى، فعبّرَ ربنا عن إعراضِهم عن النورِ والذكرِ (بالنفور) تنزيلاً لهم منزلةِ الدوابِ والأنعامِ وما ذاك إلا لِغَرابَةِ أن يَصْدُرَ مثلُ هذا مِن البشر.


(وَإن مِّن شَئٍ إلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ (44)) لِما نفى اللهُ عنّا فِقهَ تسبيح الكائنات ولم ينفي عنا علمَ تسبيحهم؟ في قوله (لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) إشارةٌ إلى أن (المكسي) هو تسبيح الكائنات قاطِبَةًً هوعلمُ دقيقٌ جدًا لا قدرةَ لنا على إدراك كُنْهِهِ مهما أُوتينا من العلمِ والإدراك.


(وَإذَا قَرَأَتَ الْقُرْءَانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذِّينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)) لِننظرْ إلى هذا الوصف وما يُضْفِيهِ على الموصوفِ من إيغالٍ وقوة، فقد وصف ربنا (الحجابَ المستور) بالمبالغة في حقيقةِ جِنْسِهِ، أيّ هو حجابٌ بالغُ الغاية في حَجْبِ ما يَحْجُبُهُ، حتى كأنهُ مستورٌ بساتِر، وكأنّهُ يقول: وجعلنا حجابًا فوق حجاب.


(انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيْعُونَ سَبِيلًا (48)) نحن نعلمُ أن المُشركين نَسَبُوا النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى السّحْر، وممَثَّلُوهُ بالمَسْحُور، وهذا مثلٌ واحد، فلِمَ جمعَ ربنا (الأمثال) فقال (ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ)؟ جَمَعَ ربنا (الأمْثَال) وإن كان المَحْكِييُ عنهم أنهم مثَّلُوه بالمسحور وهو مثلٌ واحد لأنّ المقصودَ التعجيبُ من هذا المثلِ ومن هذا الضّلال، وهل رأيتَ أعجبَ من نِسْبَةِ الحبيبِ محمد صلى الله عليه وسلم إلى السحر !


(إنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُُ بَيْنَهُم (53)) لِمَ يُوصف عمل الشيطان (بِالنّزْغِ) ولا يوصف بالفساد؟ أن (النَّزغ) هو الضعف السريع، فعبَّر ربنا عن إفسادِ الشيطانِ (بالنزغ) إشارةً إلى أنّه إفسادٌ سريعُ الأثر.


(وَرّبُّكَ أَعْلَمُ بِمَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وءاتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)) لِمَا خَصّ ربنا داوود عليه السلام بالذكر عقبِ تفضيل بعض الأنبياء على بعض ، ولم يذكر نبيًا من أولي العزم لِيُناسبَ مَقامِ التفضيل؟ في ذكرهِ داوود إيماءٌ إلى أن كثيرًا من الأحوالِ المَرْموقة في نظر الجاهلينَ وقاصري الأنظار -الأحوال التي يَقْصُرُونها على فئة الشرفاء- هي حقيقةًً مِلْكٌ للجميع وليست حكرًا على شرفاء القوم دون فقرائهم، وهي مراتب لا تعوق الفقراء وقليلي ذاتَ اليَد من الصعودِ في مَدَارِجِ كمالِها، وأنّ النبوّةَ والرسالة لا تنشأُ عن عظمةٍ سابقة، فها هوَ داوودُ عليه السلام كان راعِيًا من رُعاةِ الغنم في بني إسرائيل فصيَّرَهُ اللهُ مَلِكًا رسولًا، فيه مِثالٌ للنبي الذي تَجْلَّي فيه اصطِفاءُ اللهِ تعالى لِمن لا يكن ذا عظمةٌ وسِيَادة.


(وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)) انظر إلى هذا الإعجاز والتحدي في الأسلوب القرآني. فقد خصّ ربنا بالذكر عذاب ثمود دون غيرهم وذلك لأن ثمود ,وآيتها قد اشتهرت بين العرب. ولأن آثار هلاكهم في بلاد العرب قريبة من أهل مكة يُبصرها صادرهم وورادهم في رحلاتهم بين مكة والشام. وما من شك بأن آثار العذاب تُرجف القلوب لأنها شواهد صادقة على ما حلّ بالأمم التي عاندت. خلافاً للعذاب الذي استأصل أمماً لم تر العين آثاره. فإنه لا يزرع الخوف كما يزرعه الأثر ولذلك دلّل على بطشه بذكر ثمود.


(قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62)) الاحتناك هو وضع الراكب اللجام في حنك الفرس ليركبه ويسيره. فلِمَ قال ربنا على لسان الشيطان (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ) إذن؟ والذرية هي نسل آدم؟ هذا تمثيل وتنبيه لكل مؤمن بأن الشيطان يتخذ الفاسق كدابّة تُساق إليه. فهو يُغوي ابن آدم ويسيّره كما يسيّر الراكب الفرس وفق رغبته وما يريد. فلتحذر أيها المؤمن أن تكون مُساقاً لأهواء الشيطان.


(وَكَانَ الْإنْسَانُ كَفُورًا (67)) لننظر إلى هذا الوصف لِنَفْسِيَة الإنسان فهو كَفُورٌ لِنِعَمِ الله، فلمَ قال اللهُ (كَفُورًا) ولم يقل (جاحِدًا)؟ خصّ ربنا الإنسانَ ب (الْكَفُور) دون (الكافر) للمبالغة في كُفْرِهِ بِنِعَمِ اللهِ، وقال (كَفُورًا) دون (جاحدًا) لأنّ الإنسانَ يعلمُ نِعَمَ اللهِ ولكنّهُ يَسْتُرُهَا، يُنكِرُها ويَنسِبَها لِنفسِهِ، فناسبَ الكُفر الذي هو السِّتر، وناسَبتِ المُبالغةُ في كُفْرانِ النِّعم لِأنّ إعرَاضَهُ عن الشُّكرِ يتكرَّرُ في كل موقف سواءٌ أكان ضلالًا أم كان سَهْوًا أو كان غَفْلَةً لِإسنادِ النّعم إلى أسبابها لا إلى مُسبِّبِها.


(عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)) المقام هو مَحِلُّ القِيام، ولا شك أن المقام هو منزلةٌٌ عظيمة سَيَنالُها الحبيبُ محمد صلّى اللهُ عليه وسَلَّم، فلِمَ عبَّر عنها ربنا بالمقام؟ عبّر عن المنزلة ب (المقام ) لما في هذا اللفظ من التعظيمِ لمنزلة محمد صلّى اللهُ عليه وسلّم، فمكانُ القيامِ هو مكانٌ معدودٌ لِأمرٍ عظيمٍ لأن من شأنِه أن يقومَ الناسُ فيهِ ولا يجلِسوا، ومقامُ النّبي صلّى اللهُ عليه وسلّم عظيم يستحِقُّ أن يقومَ الناسُ لأجلهِ ولا يقعُدُوا.


(وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)) الفعلِ (كان) في هذا الموقع هل يمكن أن يحذف فتكون الآية (إنّ البَاطِلَ زهوق)؟ إنّ الفعل (كان) في الآية دلَّ على أن الزُّهُوقَ هو شأنُ الباطِلِ في كلِّ زمان، فما إن تَراهُ يعلُو ويَظْهر حتى تُبْصِرَهُ قد اضمَحَلَّ وانزَوَى، فللهِ دَرُّ البلاغةِ القرآنية!.


(وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٍ (89)) إنّ التصريف في القرآن سابقٌ نُزُولُهُ للناس، فلِمَ تقدّم الجار والمجرور (لِلنّاس) على قولِهِ (فِي هَذَا الْقُرْءَان)؟ إنّ ذكرَ(الناسِ) في هذا المقام أهَمّ، لِأنَّ الكلام كُلُّهُ مَسُوقٌ من أجلِ تَحدِّيهم وإقامة الحُجَّةَ عليهم، وإن كان ذكر (القرآن) أهمَّ بالأصالة.


(وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا (97)) لِمَ كان جزاؤهم المشيَ على وُجُههم خاصّةًً؟ هذا المشىُ كان جزاءً مُناسبًا للجُرْمِ الذي اكتسبوه، فهم رَوَّجوا الضّلالة في صورةِ الحقِّ، وَوَسَمُوا الحق بِسِمَاتِ الضلال، فكان جزاؤهم أن حُوِّلَت وجوهُهُم أعضاءَ مَشْيٍٍ عِوَضًا عن الأرجُل، والغايةُُ من ذاك كُلِّهِ هوَ الجمعُ بينَ التشْوِيِهِ والتعذيبِ، لأنّ الوَجْهَ أرقُّ تَحَمَّلًا منَ الأرْجُل، فضلًا عن ما في المشي على الوَجْهِ منَ المهانةِ لِصاحبهِ.


(كُلَّمَا خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيرًا (97)) (الخَبْوُ) هو نقصُ اللهيب، وهذا فيهِ إشكال إذ كيف تخبو نارُ جهنّم واللهُ سبحانه يقول (فَلَا يُخَفَّف عَنْهُمُ الْعَذَاب)؟ نحن نعلم أن الكَفَرةُ هم وَقُودُ النار، فإذا أحرقتهم النار زالَ اللهبُ الذي كانَ مُتَصَاعِدًا من أجسامهم، فلا يلبثونَ أن يُعَادوا كما كانوا فَيَعُودُ الإلتهابُ لهم، ف (الخبو) وزيادةِ الاشتعال يكونُ بالنسبةِ إلى أجسادِهم لا في أصل نارِ جهنَّم، ولهذهِ النكتة سلَّطَ ربنا فعل (زِدْنَاهُم) على ضمير المشركين للدَّلالَةِ على أنَّ ازدِيادَ السعير كان فيهم، فكأنَّهُ قال (كلما خبت فيهم زدناهم سعيرًا) ولم يقل (زدناها سعيرًا).


(كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)) يحملُ في طَيَّاتِهِ التَّهكُّم والاستِخْفاف بعقولِ المشركين، فقد بدأت الآية بما يُطْمِعُ أصحابَ النارِ وَيُقَلِّصُ مِن ألَمِهِم، فقد ذكرَ ربنا خَبْوَ النار- وهو نقصُ لَهِيبِها - ولكنه قضى على هذا الأملِ باستعمال (كُلَّمَا)، فجعل إزديادِ السعير مُقْتَرِنًا بِكُلِّ زمانٍ من أزمِنةِ الخَبْو، فما إن يحصُلُ الطمعُ بحُصُولِ خَبْوٍٍ لِوُرُودِ لفظ (خَبَتْ) حتى يَؤُولَ الطمعُِ إلى يأسٍٍمنهُ لِدَوَامِ سعيرِ النارِ في كلِ الأزمان لاقْتِرَانِ ازديَادِ سَعِيرِها بكُلِّ أزْمانِ خَبْوِها، فإن خَبَت استعرت، فأنَّى لها أن تهدَأ وتَخِفّ.

(قُلْ ءَامَنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤمِنُوا (107)) هذا إسلوبِ للإنتقاصِ منَ المشركين، فقد جعل ربنا إيمانَهم وعَدَمَهُ سواءً، فهم لا قيمةَ لهم ولا يستحقُّونَ إلّا الإعراضَ عنهم واحتقارَهم وقلَّةِ المبالاةِ بهم، ناهِيكَ عن ما هذهِ الصِّيغة من الإيماءِ بتسليةِ النّبي صلَّى اللهُ عليه وسلّم بأن لا يكْتَرِثَ بهم لأنهم أقلُُّ من أن يُؤْبَهُ لهم.


(وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107)) الإنسانُ المؤمن لا يملِكُ نفسهُ من أن يَخِرُّ بين يديِّ اللهِ ساجِدًا على جبينهِ ولكن كيف يسجدُ للذَّقنِ؟ ذكرَ ربنا الَّذقنَ في السّجودِ لِيَصِفَ لك الحالةَ النّفسيّةَ للمؤمن، فهو مُتَطلِّعُ للسجود بين يَدَيِّ الله، حريصٌ عليه، ولذلك عبّرَ عن هذه الرغْبَةِ بالسجودِ على الأذقان لِيَدُلَّكَ على تَمْكِينِ وُجُوهَهُم كلَّها من الأرض من قوّةِ الرّغبةِ في السجود لِمَا فيهِ منَ استحْضارِ الخُضُوعِ للهِ تعالى، وزاد هذهِ الرغْبَةَ دِلَالةًً بِتَعْدِيَةِ الاسمِ بِحَرْفِ الجَرِ (اللام) (لِلأْذْقَان) دون (على)، أي (على الأذقان) لِما فى (اللامِ) من الدِلالةِ على مَزِيدِ التّمَكُّنِ من الشئِ الدّاخِلَ عليه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.