سيدي الحبيب صلى الله عليكم وسلم ... كلما هلت علينا نسمات شهر رجب الفرد؛ هاجت ذكرى الإسراء المعراج بتأثير روابطها الذهنية القدسية الودودة؛ والتي تربطنا بأحداث عظام حولها. وعلى ضوء الرسائل الإيجابية التربوية لهذا الأحداث الجليلة؛ التي تحلق بنا شوقاً إليكم وحباً في سيرتكم؛ فنجدد معها قراءتنا لأرثكم العظيم، وعلى ضوئها نعيد ترتيب أوراقنا الحياتية، ونجدد رؤيتنا لمستقبلنا وأهدافنا، ورسالتنا في الحياة. عنوان الذكرى: "سُبْحَانَ الّذِي أَسْرَىَ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَىَ الْمَسْجِدِ الأقْصَى الّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنّهُ هُوَ السّمِيعُ البَصِيرُ". [الإسراء1] هذا هو عنوان ومفتاح تلك الذكرى العظيمة والمهيبة. فكلما قرأنا هذا المطلع المؤثر لسورة الإسراء؛ فلا ندري سر هذا الشعور الودود المريح الذي ينتاب النفس المؤمنة؛ كلما قرأت هذه الآية!؟. فلعله الحصاد الذي ترسخ في عقلنا الباطن؛ وذلك بفعل بعض رسائله التربوية الإيجابية الطيبة؛ مثل: 1-إرادة الخالق تتحقق بإرادة الخلق: الشعور النفسي بأن يده سبحانه تعالى هي التي تصنع وتعمل؛ فنحن أدوات لصنع أقداره سبحانه في دنيا الأرض، ونحن ستار لتحقيق مراده سبحانه في حركة التاريخ، وفوق ذلك كله فنحن الخلق ننال شرف الطاعة وثواب التنفيذ لمشيئة الخالق!؟. كل هذا ينسكب في أعماق النفس المؤمنة؛ عندما تتأمل المغزى العميق لهذه الرسائل التربوية النورانية: (1)(سُبْحَانَ): فهو سبحانه الذي يثنى على نفسه؛ ثناءً يليق به ونعجز عن تقديره وإحصائه، ويمجد نفسه سبحانه؛ تمجيداً لا نطيق وصفه!. عن عائشة رضي الله عنها قالت: فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان وهو يقول: اللهم أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك؛ لا أحصى ثناء عليك؛ أنت كما أثنيت على نفسك. [صحيح مسلم] (2)(أَسْرَىَ بِعَبْدِهِ): وهو سبحانه الذي يسري بعبده!؟. (3)(لَيْلاً): وهو سبحانه الذي يختار وقت الرحلة المباركة ليلاً؛ ولعلها لحظات مناسبة، وشواهد زمانية مباركة خاشعة عابدة مؤنسة!. (4)(مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَىَ الْمَسْجِدِ الأقْصَى): وهو سبحانه الذي يختار أماكن بداية ونهاية الرحلة؛ لتكون شواهد مكانية مباركة للرحلة المباركة!؟. (5)(بََارَكْنَا حَوْلَهُ): وهو سبحانه الذي بارك حول المسجد الأقصى؛ بركة ربانية!؟. (6)(لِنُرِيَهُ): وهو سبحانه الذي يُري العبد آياته؛ فيؤنسه بقدرته ورحمته وكنفه، ويبين له أهميتها وقدسيتها!؟. (7)(السّمِيعُ): وهو سبحانه السميع لكل أخبارنا وأسرارنا وأقوالنا؛ فيحيط بكل دواخلنا، ويسترنا ويرحم ضعفنا!؟. (8)(البَصِيرُ): وهو سبحانه البصير بكل أعمالنا؛ فيراقبها، وبكل جهودنا؛ فيباركها، وبكل آثارها؛ فيعفو ويجازي كما شاء!. إنه التزاوج الرائع بين إرادة الخالق وإرادة المخلوق، والتناسق بين التوفيق الإلهي وبين جهد العبد!؟. فطوبى لعبد كان ستاراً لأقداره، فنال شرف تحقيقها، ونال ثواب حملها!؟. "إن من الناس ناساً مفاتيحاً للخير مغاليقاً للشر، ومن الناس مفاتحياً للشر مغاليق للخير؛ فطوبى لمن جعل الله مفتاح الخير على يديه، وويل لمن جعل مفتاح الشر على يديه". [ظلال الجنة: الألباني حسن] 2-اقرأوا التاريخ: تلاوة هذه السورة تقوم بعملية استدعاء متكرر لصفحات طيبة من ملفات تاريخ مسيرة هذه الدعوة المباركة، فتقوم بحركة تنشيط للذاكرة المؤمنة؛ لكي لا تنسى أهمية قراءة تاريخها وتداوم على تدبر دروسه وسنن الله سبحانه الإلهية الاجتماعية في عالم الأحياء، والسنن الإلهية الكونية في عالم الكون والمادة. وهو تحذير مستتر لمن يسميه د. القرضاوي: (فاقد الذاكرة)؛ وهو كل من يهمل قراءة التاريخ؛ الذي هو ذاكرة الأمة، فينسي توجيهاته سبحانه: "قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذّبِينَ". [آل عمران137] 3-أهمية أرض الإسراء: التنبيه الدائم على قيمة وقدر هذه الأماكن التي تشرفت بذكرها في هذه الآية؛ وهي أرض الإسراء، وبجعلها ذات قدسيه ومكانه تستحق الاهتمام والزيارة، والبحث في تاريخها، وتاريخ من سكنها وحماها، والتضحية من أجلها!؟. 4-تجديد الشوق وإشعال جذوة الحب: التجديد الدائم للشوق الإيماني إلى مقدسات ومعالم وثوابت الأمة؛ وذلك استجابة لتفسير دعوة إبراهيم عليه السلام؛ الذي رجاه سبحانه أن يجعل أفئدة المؤمنين تهوي وتميل وتشتاق إلى المسجد الحرام: "رّبّنَآ إِنّيَ أَسْكَنتُ مِن ذُرّيّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرّمِ رَبّنَا لِيُقِيمُواْ الصّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ النّاسِ تَهْوِيَ إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مّنَ الثّمَرَاتِ لَعَلّهُمْ يَشْكُرُونَ". [إبراهيم37] ولكن هذا الميل القلبي والشوق العاطفي نجده ينسحب أيضاً على هذه البقعة المباركة من الأرض، والنهاية العظيمة لرحلة الإسراء والمعراج؛ وهي بيت المقدس ومن حوله؛ من مقدسات وتراب فلسطين بل وأهل فلسطين من المؤمنين الموحدين!. لقطات ... ورسائل ... وقضية: سيدي الحبيب ... وعندما نتأمل الرحلة المباركة تستوقفنا بعض اللقطات؛ والتي نتلقى منها بعض الرسائل التربوية. والعجيب أننا نجدها كلها تتمحور حول مرتكز رئيس أو قضية محورية هامة؛ وهي بث روح الأمل والتحفيز الإيجابي لكم أيها الحبيب ولكل من له مشروع تغييري واعد، ويواجه عقبات وعوائق وصعوبات وتحديات؛ منها الداخلي أو النفسي؛ عندما يستشعر صاحب القضية بالوحدة وتساقط الأسناد البشرية من حوله؛ مثل موت الزوجة والعم المناصر، وطول مدة الرحلة. ومنها الخارجي؛ مثل المؤامرات والضغوط الحياتية على الأتباع، والحصار الاقتصادي والاجتماعي. 1-لا تحزن ولا تبتئس ... فهناك من يراقب: لقد اختلفت الروايات حول الوقت الصحيح والمحدد لوقوع حادث الإسراء والمعراج؛ ولم يرجح الوقت المعين لها. ولكن من المؤكد أنها جاءت خلال فترة قاسية من ذروة التضييق والتحديات الداخلية والخارجية. مرحلة قاسية وضبابية؛ واجهها كل أصحاب المشاريع العظيمة؛ وهي "حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ". [يوسف110] فتجيء برسالة رائعة ومؤثرة؛ أن هناك من يراقبك ويسمعك ويبارك خطوك، وهناك قوة أعظم من كل القوى؛ فأعظم به وأنعم به وأعز به من نصير سبحانه؛ فَلِمَ اليأس؟. ولِمَ الاستعجال؟. ولِمَ الحزن؟. 2-لا تنس ... سنة الجهد البشري: وهي سنة إلهية اجتماعية، وقاعدة قرآنية وقانون رباني عام ينطبق في كل زمان ومكان؛ تؤكد على تناسق وتزاوج وتكامل الجهد البشري مع العون الإلهي. فإذا أردت تحقيق هدفاً أو بلوغ غاية؛ فإن عليك أن تبذل قصارى جهدك؛ فتأخذ بكل الأسباب الأرضية المشروعة، ثم تدعو ربك ليكلل جهدك بتوفيقه وعونه وتسديده؛ تماماً كما صنعتم أيها الحبيب صلى الله عليكم وسلم في هجرتكم وفي غزواتكم خاصة بدر؛ وهو ما يحقق القاعدة القرآنية: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ". [الفاتحة5] و"وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ". [العنكبوت69] 3-اقرأ سير وتجارب قدواتك: لقد كان من الرائع أن يطلعكم جبريل عليه السلام على الأنبياء عليهم السلام في كل سماء. وكأنها رسالة تثبيت برؤية تجارب القدوات العظماء، وكل من سار على هذا الطريق؛ فلاقى مثلما لاقيت، وعانى مثلما عانيت، ونجح في مشروعه، وبقي رصيداً ومعلماً لكل من أراد مثلما أرادوا، أو اختير لدور مثل دورهم. فلست بدعاً من الرسل عليهم السلام، فَلِمَ استشعار الغربة وطول الطريق؟. 4-دموع موسى عليه السلام ... إثبات لتميزك: لقد وردت لقطة موحية نستشفها من هذه الرواية؛ وهي (ثم عرج به إلى السماء السادسة، فلقى فيها موسى بن عمران، فسلم عليه، فرد عليه ورحب به، وأقر بنبوته. فلما جاوزه بكى موسى، فقيل له: ما يبكيك ؟ فقال: أبكى؛ لأن غلامًا بعث من بعدى يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتى). [الرحيق المختوم: المباركفوري] فإذا كنتم أيها الحبيب تسيرون على ما سار عليه إخوانك الانبياء عليهم السلام؛ ولكن لكم تميزكم وفضلكم ودوركم الذي سيفوق من سبقك. وهي رسالة لكل إنسان له قضية؛ أن اتبع وارتق، واعتز بدورك المميز. وبعد أيها الحبيب؛ تلكم هي بعض الرسائل الإسرائية التربوية، وإلى لقاءٍ آخر نستكملها فيه؛ نسأل الحق سبحانه ألا يحرمنا بركة رضائه، ويرضيك عنا!؟. وصلى الله عليك في عليائه وسلم عليك كثيراً. والسلام عليكم ورحماته وبركاته المخلص والمحب: د. حمدي شعيب خبير تربوي وعلاقات أسرية E-Mail: [email protected]