هاتان الآيتان الكريمتان جاءتا في أول سورة النجم, وهي سورة مكية, وآياتها ثنتان وستون62 بعد البسملة, وفي ختامها سجدة من سجدات التلاوة, وهي أول سورة نزلت بها سجدة تلاوة( البخاري ومسلم). وقد سميت السورة بهذا الاسم النجم لاستهلالها بقسم من الله تعالي ( بالنجم إذا هوي) والله سبحانه وتعالي غني عن القسم لعباده, ولكن إذا جاءت الآية القرآنية بصيغة القسم كان ذلك تنبيها لنا إلي أهمية الأمر المقسم به والمقسم عليه وجواب القسم. ويدور المحور الرئيسي لسورة النجم حول قضية العقيدة, شأنها في ذلك شأن كل السور المكية. هذا وقد سبق لنا استعراض سورة النجم, وما أوردته من ركائز كل من العقيدة والعبادة والسلوك والإشارات الكونية, ونركز هنا علي وجه الإعجاز الإنبائي في الإخبار برحلة المعراج كما جاء في الآيتين اللتين اخترناهما عنوانا لهذا المقال. من أوجه الإعجاز الإنبائي في الآيتين الكريمتين: في العام العاشر من بعثة خير الأنام صلي الله عليه وسلم توفيت زوجته أم المؤمنين السيدة خديجة عليها رضوان الله ثم توفي عمه أبو طالب, وأطمعت وفاتهما كلا من كفار ومشركي قريش في رسول الله صلي الله عليه وسلم وفيمن آمن معه من المسلمين, فاشتدت وطأتهم علي عباد الله الصالحين; مما اضطر رسول الله عليه أفضل الصلاة وأزكي التسليم للجوء إلي قبيلة ثقيف في مدينة الطائف, يلتمس النصرة منهم, ولكنهم أساءوا استقباله طوال عشرة أيام قضاها بينهم, وحينما قرر العودة إلي مكة سلطوا غلمانهم وسفهاءهم يرمونه بالحجارة حتي أدموا قدميه الشريفتين. وأراد الله تعالي أن يعوض رسوله الكريم عن الشدائد التي لقيها من كل من كفار قريش وثقيف, فأكرمه برحلة الإسراء ثم بالمعراج الذي أشارت إليه الآيتان الكريمتان اللتان اتخذناهما عنوانا لهذا المقال, ثم فصلت أحاديث رسول الله صلي الله عليه وسلم الرحلتين. فبعد أن صلي الرسول الخاتم ركعات في المسجد الأقصي ومعه جبريل عليه السلام ومن استقبلهما من الملائكة الكرام, عرج به صلي الله عليه وسلم عبر السماوات السبع حتي وصل إلي سدرة المنتهي التي رأي عندها جنة المأوي, وراح يصعد حتي وقف بين يدي الله سبحانه وتعالي وسجد النبي قائلا: التحيات المباركات والصلوات الطيبات لله فقال الله عز وجل السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته, وعلي الفور جاء تسبيح الملائكة قائلين السلام علينا وعلي عباد الله الصالحين وقد جعلت هذه التحية بداية التشهد الذي يردده المسلمون في صلواتهم. وفي هذا الموقف العظيم أمر الله سبحانه وتعالي خاتم أنبيائه ورسله صلي الله عليه وسلم بالصلاة المفروضة علي عباده المسلمين: خمس صلوات في اليوم( بليله ونهاره) ولها أجر خمسين صلاة وهي: صلوات المغرب, والعشاء, ثم الفجر, والظهر, والعصر. وقد رأي رسول الله صلي الله عليه وسلم في هذه الرحلة المباركة الكثير من آيات ربه الكبري, وكان منها إطلاعه علي عظمة الكون, وضخامة بنائه, وانتظام حركته, وقدرة الله تعالي علي طي المكان وإيقاف الزمان له, ورأي من أمور الغيب ما لا يمكن لأهل الأرض أن يروه, فقد رأي كلا من الملائكة, وسابق الأنبياء والمرسلين الذين بعثهم الله سبحانه وتعالي ومكنه من التحدث إليهم ومن الاستماع إليهم, وأطلعه علي نماذج من نعيم أهل الجنة في الجنة, ومن عذاب أهل النار في النار, وكان ذلك من الآيات الكبري التي أطلع الله سبحانه وتعالي عليها خاتم أنبيائه ورسله صلي الله عليه وسلم فقال عز من قائل : سبحان الذي أسري بعبده ليلا من المسجد الحرام إلي المسجد الأقصي الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير( الإسراء:1). وقال عز من قائل : ولقد رآه نزلة أخري, عند سدرة المنتهي, عندها جنة المأوي, إذ يغشي السدرة ما يغشي, ما زاغ البصر وما طغي, لقد رأي من آيات ربه الكبري( النجم:13:18). ورحلة الإسراء والمعراج تمثل أعظم معجزة أجراها الله سبحانه وتعالي لنبي من أنبيائه عليهم السلام فقد أطلع سيدنا محمد بن عبدالله, هذا الرسول الخاتم علي ملكوت السماوات والأرض في لا زمن, بعد أن طوي له المكان, وأوقف الزمان, وأطلعه علي عدد من آيات الله الكبري, فقد كان في هذه الرحلة المباركة تأكيد وحدة رسالة السماء والأخوة بين الأنبياء وبين الناس جميعا, وذلك انطلاقا من الوحدانية المطلقة لله تعالي ومن تنزيهه عن جميع صفات خلقه, وعن كل وصف لا يليق بجلاله. وكان في هذه المعجزة المباركة أيضا تأكيد وحدة مكةالمكرمة بالقدس الشريف, وارتباط الكعبة المشرفة بالمسجد الأقصي, وكان في إمامة سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم لجميع الأنبياء تأكيد عموم رسالته وخلودها, وعلي حقيقة إمامته, وسمو دعوته وشمولها لمصالح العباد والبلاد في كل زمان ومكان. ولما رجع رسول الله صلي الله عليه وسلم إلي مكةالمكرمة بعد تلك الرحلة المباركة وجد فراشه لا زال دافئا كما تركا; مما يؤكد أن الله تعالي الذي طوي له المكان قد أوقف له الزمان. الدروس والعبر المستفادة من رحلة الإسراء والمعراج: إن الدروس والعبر المستفادة من معجزة الإسراء والمعراج عديدة نختار منها ما يلي: إدراك جانب من قدرة الله التي لا تحدها حدود, ولا يقف في طريقها عائق. التأكيد علي وحدة رسالة السماء, وعلي الأخوة بين الأنبياء, وبين الناس جميعا, وهذا كله منطلق من وحدانية الخالق سبحانه وتعالي ومن علوه فوق جميع خلقه. الإيمان بأن جميع رسالات السماء قد انطوت في القرآن الكريم وفي سنة خاتم المرسلين صلي الله عليه وسلم والتي نسخت جميع الرسالات التي أنزلت من قبلها. التسليم بعبودية جميع المخلوقات لخالقها, وبضرورة الخضوع لجلاله بالطاعة والعبادة, وفي مقدمة ذلك إقامة الصلاة, وهي العبادة الوحيدة التي فرضت من الله تعالي إلي خاتم أنبيائه ورسله صلي الله عليه وسلم مباشرة, بينما نقل جبريل عليه السلام الأوامر الإلهية بجميع العبادات الأخري إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم وهو علي سطح الأرض, وفي ذلك من الاعتناء بفضل الصلاة وشرفها ما فيه. التسليم بأن المعجزات خوارق للسنن, وبالتالي فإن العقل البشري لا يستطيع تفسيرها, فإذا جاء عنها خبر في كتاب الله أو في سنة رسول الله فعلي كل مؤمن التسليم بوقوعها, مع العلم بأن المعجزات الحسية هي حجة علي من شاهدها من الناس. الإيمان بأن الله تعالي فضل بعض الأماكن والأزمنة علي بعض, كما فضل بعض النبيين والرسل والأشخاص العاديين علي بعض, فجعل مكةالمكرمة أشرف بقاع الأرض, يليها في الفضل مدينة رسول الله صلي الله عليه وسلم ثم يلي ذلك في الكرامة بيت المقدس الذي ندعو الله تعالي أن يعيننا علي تطهيره من دنس الصهاينة المجرمين المعتدين عليه وعلي جميع أرض فلسطين وما حوله من مقدسات. التصديق بحتمية الفرج بعد الضيق, والرخاء بعد الشدة, وبأنه لا يجوز للشدائد أن تصد المسلم عن قول الحق, وعن الجهاد في سبيل الله من أجل إعلاء دينه, ومن هنا وجب الثبات علي الحق دون ملل أو يأس مهما كلف ذلك من تضحيات. التسليم بوقوع معجزة الإسراء والمعراج بالجسد والروح معا, وفي حالة من اليقظة الكاملة, وهذا من طلاقة القدرة الإلهية المبدعة. التسليم بأن معجزة الإسراء والمعراج جاءت تكريما لرسول الله صلي الله عليه وسلم بعد المعاناة الطويلة التي عاناها من كفار ومشركي قريش وثقيف, وبعد تخلي أغلب أهل الأرض عنه, وتآمرهم عليه ومطاردتهم له, تأكيدا علي أن حبل الله المتين لا ينقطع أبدا مهما انقطعت حبال الناس. من هنا يتضح وجه الإعجاز الإنبائي في الآيتين القرآنيتين الكريمتين, اللتين اتخذناهما عنوانا لهذا المقال; لأنهما الإثبات القرآني الوحيد لوقوع هذه المعجزة الكبري, وإن كانت أحاديث رسول الله صلي الله عليه وسلم قد فصلتهما, ولولا نزول هاتين الآيتين الكريمتين ما كان أمام الناس من دليل علي وقوع معجزة المعراج, وهي أعظم من معجزة الإسراء بمراحل كثيرة, وهي معجزة لا يستطيع العقل البشري استيعابها لولا وجود الإشارة إليها في كل من كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم فالحمد لله علي نعمة الإسلام, والحمد لله علي نعمة القرآن, والحمد لله علي بعثة خير الأنام صلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. المزيد من مقالات د. زغلول النجار