يبدو أننا نعيش حالة من اللامبالاة ، التي أدت لعدم الإحساس بما يشعر به الآخرين، ويبدو أن المبدأ الذي أصبحنا نسير على خطى هذه الأيام هو التفكير فى أمورنا الشخصية، وتجاهل من حولنا من محتاجين، حتى وصل بنا الحال إلى أن حوالي واحد بالمائة مما ندفعه من مبالغ على أشياء لا تفيدنا بالمرة، هذا ما فعلته احدي شركات الاتصالات فى إعلانها الجديد، على الرغم من أن اسمها لا يحتاج لمثل هذا النوع من الدعاية الضخمة . فاجأتنا شركة اتصالات شهيرة منذ أيام بإعلان جديد في مطلع الشهر الكريم، لفت انتباه الجميع بشكل مبالغ ليس في محتوى الإعلان بشكل عام بقدر الكم الكبير من نجوم الفن ذو التاريخ الفني العظيم، الذين شاركوا خلاله فقط من أجل المقابل المادي الضخم، فالإعلان يضم 11 نجم من كبار عمالقة نجوم الفن فى الوطن العربي، فدعانا ذلك لطرح عدة أسئلة أهمها كم كانت تكلفة هذا الإعلان ؟ ومن المسؤول عن التكلفة الإعلانية؟ و كيف وافق نجوم الفن على تحويل أوبريت العرائس الشهير "الليلة الكبيرة" الى "العيلة الكبيرة"؟
فهل تحول تراثنا الفني إلى سلعة ومكسب مادي فقط؟ وهل كان كافيا لنجم واحد فقط أن يقوم بهذا الإعلان؟ أم كما يقال كل ما كثر النجوم نجحت الدعاية، وهو الأمر الذي جعلنا نبحث عن الإجابة لهذه التساؤلات.
بدأ الأمر بحالة من الانبهار بالإعلان عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي، وعمل ما يسمي "بالكوميكس" على بعض أبطال العمل الدعائي، فالبعض نظر إلى الإعلان بأنه حاله فريدة تجمع بين كل هؤلاء النجوم، والبعض الآخر نظر من زاوية أنهم جمعوا بين نجوم لم نكن نتوقع جمعهما فى عمل واحد، والبعض الآخر نظر إليها كونها مجرد دعاية لمنتج ناجح موجود بالفعل ولا يحتاج كل هذه التكلفة، بينما آخرون نظروا إلى الإعلان على حد تعبيره "والله حرام كل الملايين دي".
ومن منطلق الزاوية الإنسانية لم تلتفت الشركة لما سيقوله البعض، بل وأنها لم تهتم مطلقا لما تستقدمه من ماده إعلانية، بل اعتمدت فقط على عمالقة النجوم فى الوطن العربي والمصري تحديدا ، ولا يعيبهم أن نذكر أسماء النجوم حسب ظهورهم خلال الإعلان وهم: "أحمد السقا، ليلي علوي، منة شلبي، حكيم، درة، شريف منير، إسعاد يونس، أشرف عبدالباقي، سمير غانم، محمود العسيلي، وأخيرًا شيرين"، كل هؤلاء النجوم أدخلوا البهجة على قلوبنا بكثير من أعمالهم العظيمة والرائعة، ولا يمكن أن ننكر ذلك، إلا أنهم لم يتساءلوا قبل البدء في تصوير هذا الإعلان ما الذي أقدمه في هذا الإعلان؟ و كيف ستكون صورتي لدى المشاهد وأنا أحول أوبريت غنائي تراثي من النوع الفريد إلى "كنافة وقطايف"؟!
ترى ما كيفية استفادة المشاهد من هذا المنتج؟ كل ذلك لم يشغل بال أحد، إذن ما الذي شجعهم على تقديم الإعلان؟ كلنا بالطبع نعلم ما السبب.
ومن ثم تابع بعض نشطاء موقع التواصل الاجتماعي"الفيسبوك" ، أنها ليست بالمرة الأولى التي تستخدم الشركة مجموعة كبيرة من النجوم فى إعلان واحد حيث تقوم باستغلال مكانتهم المحببة لدى الجمهور المصري ، حيث تقوم هذه الشركة تحديدا كل عام بعمل وخلال شهر رمضان المبارك، بتقديم إعلان ترويجي جديد ، ولكنها تقدم من خلاله ما يسمي بالاستعراضات التي ينجذب الجمهور إليها، لكن هذه المرة مختلفة تمام فلا يوجد عرض واحد ليفيد المشاهد ويجذبه إلى المنتج المعروض بقدر ما كان هناك إسراف واضح.
و بالفعل أعرب عدد من نجوم الفن والمجتمع عن استيائهم من طبيعة الإعلان التي تكلفت مثل هذه المبالغ الضخمة، وأبرزهم المطرب الشعبي سعد الصغير، والذي عبر عن استيائه الشديد من عدد النجوم المشاركين بالإعلان، حيث أكد عبر موقع التواصل الاجتماعي "الفيسبوك" خلال مقطع فيديو له أنه ليس بالضرورة تواجد كل هؤلاء النجوم بل أن نجم واحد كان كافيا لعمل هذا الإعلان وتوفير كل هذه التكاليف لأعمال أخري خيرية أو للتبرع بها، حيث قال بغضب خلال الفيديو "الفلوس اللي أتصرفت على الإعلان كافية تجوز منطقة من عندنا بحالها".
فى نفس السياق، كان للناقد الفني طارق الشناوي، رأي آخر يكشف بعض الحقائق، حيث قال فى تصريح خاص ل"الفجر الفني" إن الإعلان لم يكلف الشركة المنتجة "مليم واحد"، ولكن كل هذه الأموال هي أموال الشعب، والمشتركين في هذه الشركة، وأكبر مثال على ذلك، أن الشركة كانت تحقق ربح حوالي 10 ملايين، وهي أموال المواطنين المشتركين في خدمات هذه الشركة، وإذا كانت تكلفة الإعلان مليون، فإن هذا المليون سيحقق ملايين أخرى للشركة، وكل ذلك لا يعود على الجمهور بأي فائدة تذكر.
وتابع "الشناوي" فيما يتعلق بوجود مجموعة كبيرة من نجوم الفن ، أنه ليس بالضرورة أن يحقق النجاح المتوقع ، بل إن كثرة النجوم تضع الشركة فى مأزق كبير ومسؤولية أكبر بما ستقدمه في محتوى الإعلان، وأن الإعلان اعتمد على أوبريت غنائي وهو "الليلة الكبيرة" ل سيد مكاوى و أشعار العملاق صلاح جاهين وإخراج صلاح السقا .
و بالإضافة إلى كل ما سبق، أود فقط أن أنوه إلى أن الافتقار للإبداع لم يكن الجريمة الوحيدة التي تقع بها الشركة، فقد شوهت الإعلان بعادات تختلف عن عاداتنا إلى حد ما، وتبعد عن الواقع الحقيقي الذي يجب أن يخاطب الجمهور بشكل رئيسي خلال مضمون الإعلان الدعائي، ودليل على ذلك تعليق لأحد أشهر الكتاب والذي لفت انتباهنا لهذا الجانب قائلا "فودافون أوحش ثري جي في مصر، و مع احترامي الشديد لمنة شلبي معندناش أطفال بتنزل تلعب بالريموت في الشارع".
وبعيدا عن كل ذلك إذا حاولنا النظر إلى المجهود الذي يبذله الفنانين في الإعلان، لن نجد ما يستحق تلك المبالغ التي نسمع أنها مقابلا للإعلان، والدليل على ذلك عندما أجمع الجمهور على أن شيرين عبد الوهاب على الرغم من كونها فنانة قديرة، إلا أنها لم تنطق سوى ببضع كلمات لم يستطع الجمهور فهمها وسماعها بشكل واضح، حيث لم تستغرق الثانية لتختفي اللقطة الخاصة بها من الإعلان .
وفي النهاية لا يجب أن نلوم هذه الشركة بعينها، ففي تركيزنا على الجانب الفني والذي استباح به كل شئ ، هذه الشركة ليست الوحيدة المتهمة بتحويل التراث الفني إلى مادة إعلانية سفيهة ، و لم يكن الغرض منها إلا الربح المادي فقط ، فقد تحول أوبريت "الليلة الكبيرة" إلى إعلان سخيف لا يفيد الا المشاركين به فقط، وتحولت أغنية سواح للعندليب الى إعلان آخر عن الملابس القطنية .
و في نفس السياق، كان هناك تواجد لبعض الإيحاءات الجنسية في بعض الإعلانات، مثل إعلان "بيريل"، و"جهينة" التي على الرغم من بساطة التكلفة في إعلانها، إلا أنها روجت له بشكل إيحائي من خلال تركيب أصوات الكبار على أطفال بريئة لا يمكن أن تتحدث وتتفوه بمثل هذه الكلمات التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، وأصبحت لفظ جديد للتحرش، وهو الأمر الذي يسيئ نظرة العالم إلينا لفقر أفكارنا فى المادة الإعلانية المقدمة للجمهور ، والتي لم يرضى بها المشاهد أن تدخل بيته، وها هي الشركات تفرضها علينا للمشاهدة وتجبرنا على النظرة المليئة بالحسرة لانعدام الإبداع الاعلاني لدينا والذي انتهى بنا إما للسرقة من تراثنا العريق الذي نفتخر به أمام الشعوب بل وتشويهه بشكل كامل، أو استخدام السلوكيات والألفاظ الخارجة والمنافية لأخلاقيات مجتمعنا سبيلا للفت انتباه المشاهد للمنتج فقط.
ما يجب أن نستوعبه جيدًا، أن هذه ليست أفلام داخل السينما يوضع عليها أفيش "+18"، بل إنها تجبر العائلات من مختلف المراحل العمرية على التعرض لمثل هذه التجاوزات عبر شاشات التلفزيون، دون استئذان من المشاهد واحترام لرغباته وعاداته المعروفة التي تربى عليها والتي سينقلها لأولاده وللأجيال القادمة.