الرواية المصرية الحديثة والقفز فوق حاجز الزمن رواية محمد الناصر ( السرابيل ) أنموذجاً بدأت الرواية في مصر وفي كل الدول العربية , وخاصة في وسط الشباب تتجه نحو التجريب والتجديد . وهي ثورة بدأت في أوربا منذ زمن بعيد وظهرت أكثر في الرواية الفرنسية منذ 0 مارسيل بروست ) في البحث عن الزمن الضائع , وهي ثورة على القيود البلزاكية المتشددة في كتابة الرواية المتقيدة بالزمن الأفقي , وتقنية ( الحبكة والصراع والحل ) . وهذه التقنية , هي التي تجعل الزمن الأفقي يتحكم فيها . وليست هي التي تتحكم في الزمن كما تفعل الرواية الحديثة . وهذا التحكم في الزمن , يجعل شخوص الرواية حرة تتجول في الزمان والمكان كما تشاء . في الماضي والحاضر وتستشرف المستقبل . ورغم مرور قرن على بداية الرواية العربية , فما زالت في مجملها وحتى وقت قريب , رواية محاكاة تستهدف القبض على الواقع والتماهي معه دون الدخول في فجواته . فقد دارت الرواية العربية زمناً طويلاً وهي تدور في وصف ممل , وغنائية زائدة , وميلو درامية جادة . وقد بدأت الرواية العربية الجديدة تثور على القيود الروائية التقليدية , ورواية محمد الناصر ( السرابيل ) , أنموذجاً للثورة على الزمن التقليدي الأفقي في كتابة الرواية . واستخدام تقنية السينما أو ما يسمى بالقفز فوق حاجز الزمن . لقد صنعت رواية ( السرابيل ) , زمنها الخاص , وذلك بتوظيف خامة التاريخ , دون الأخذ بتفصيلاته وحقائقه المعروفة والموثقة . وتلك مهمة المؤرخ وليست مهمة الكاتب الروائي . لقد استفادت هذه الرواية من الحقبة الإستعمارية الفرنسية والإنجليزية , ثم الفترة الملوكية , ( حكم الملوك والباشوات لمصر ) . ولقد استفاد الكاتب محمد الناصر بذكاء الرواية من نقد السلطة الغاشمة والمستبدة في الزمن الاستعماري البغيض . وهي سلطة استفادت من جهل العامة واستغلالهم , وانقيادهم السهل لها . ومن الاعتقادات الدينية والإيمان المطلق بالأسطورة والتي عششت في العقول زمناً طويلاً . أطلق الكاتب , على الفضاء المكاني والذي تدور فيه أحداث الرواية اسم ( التالحة ) , وهو الذي يمثل الزمن الحاضر والذي تعيش فيه شخصيات الرواية . أما توظيفه للزمن الماضي فقد كان حراً , في زمكانيته , ( كان الزمن حراً وطليقاً ) . وهذه الحرية أطلقت خيال الكاتب واسعاً في طرح فلسفته ورؤيته للحاضر الذي يعيش فيه والذي حاول أن ينتقده ممثلاً في كل سلطة مستبدة فيه . ( فالتالحة ) , تمثل المكان الرمز والذي يكون ضحية أي سلطة مستبدة وغاشمة . لقد أثبت الروائي محمد الناصر , بأن الكاتب الذي يريد أن يوظف التاريخ , ويقوم بترميز أحداثه أن يبتعد عن المكان الجغرافي المعروف حتى لا يكون مقيداً بماضيه أو حاضره . لقد صنع زمن الرواية الخاص , والذي أتاح لنصه أن يكون له تاريخاً متخيلاً داخل الزمن التاريخي الواقعي والحقيقي ( تاريخ الاستعمار) . والأهمية والأسبقية هنا هي للكتابة والتي وظف فيها الكاتب عناصر السرد والتخييل في خدمة الرسالة التي يريد توصيلها . ومثل هذه النصوص هي التي تفتح الأفق الدلالي للقارئ والمتلقي للنص . فالشخصية داخل الرواية في زمنها الحاضر , تمثل امتداداً للماضي بكل سلبياته وظلمه وظلماته . فكل شخوص الرواية الرئيسة لها امتداداها في الزمن الماضي ( السخل , سبلة , المشخلعة , براح , الرشوف , العنود ... ) . وحتى ( البقرة ) , هي متناسلة من بقرة في الزمن الماضي . فالمكان كله يعتبر ممتداً في التاريخ بأشيائه وأحيائه . فحاضر المكان , ليس منفصماً من ماضيه . أما العمدة فهو لا يسميه , وقد كان موفقاً في ذلك لأنه يمثل نموذج السلطة الممتدة في كل الأزمنة . لقد ارتبط كل حدث آني في قرية ( التالحة ) , بحدث ماضوي , وله تأثيراته المستمرة . وهو حادث ( السيل الذي اجتاح القرية ) , والذي دمرها كلها . ( أحداث ما بعد السيل ) . لقد كان الراوي حراً وهو يحكي ويسرد , ما قبل السيل وما بعده . في سياحة زمنية مشوقة وممتعة بتحفيز المتابعة للمتلقي . { يحدثهم عن السيل الذي يأتي ويفور , والخلق تظل في البلد , تكبس على نفس الأرض فتبلع منهم كلما زهقت , نفراً , أو بهيمة , أو طيراً , لما زورت وانسد نفسها , من كثرة ما دفن فيها , جاء السيل للبلد شربة ماء كبيرة , لكنها كانت بطعم الجاز , تكرعت الأرض ولما عاد خشمها للانغلاق , كانت قد بلعت عيلاً وحرمة , ماتا في المستشفى الأميري بعد السيل بأيام , مخنوقين من الدخان , وبهائم كان الجوع سيقتلها لو لم يقتلها السيل كانت سنة غبرة خيرها فليل ... } . والسيل له رمزيته ودلالاته المفتوحة التأويل . لقد أتاح الكاتب للراوي العليم السائح في الزمن أن يكون الشخصية الثانية له ( شخصية الكاتب الثانية ) والتي تعبر عنه لغة وأفكاراً . The author second self , بعيداً عن المباشرة والتقريرية . لقد كانت شخوص الرواية رغم بساطتها , ذات بعد إنساني عميق , ولها دورها في المسار الواقعي اليومي . لقد تركها الراوي تتداعى ببساطة حياتها اليومية , وبلغتها العفوية غير المصنوعة . واستخدم الكاتب تقنية ( الترميز العيني ) , وهو استنطاق الأشياء , لكي تعبر بحرية عن ما يريده الكاتب , فقد كان في آخر كل فصل كان يدع الأشياء , تنطق وتعبر فيقول : { دخان الجوزة } : [ أنا الدخان أعشق كركرة ماء الجوزة , أخرجني من صدرك , لأنتشر بلا خوف أمام عينيك فيصبح الجبل طيفاً , والقطار خيطاً أفقياً , مستقراً تحت الجبل وتذوب خضرة الزرع , بلوني , أما الصحراء التي أخفاها الجبل فيغيب عن نافوخك لونها ] دون الوقوع في فخ الواقعية السحرية أو كتابة الأسطورة , والتي كانت ستفسد المسار الواقعي للأحداث . في الماضي والحاضر . وهذا ( السيل ) , الذي يمثل محطة تاريخية مهمة في قرية ( التالحة ) , التاريخ القبل والبعد , فقد عرّي حدثه الكثير من الصفات الغير إنسانية وأظهر الصفات الحسنة أيضاً ( صراع الخير والشر ) , داخل المكان الواحد وهذا التاريخ الممتدة آثاره في الحاضر , هو الذي يجعل قراءة الواقع فيه متاحة ومفتوحة الدلالة . فبالرغم من تدمير السيل للعمران في المكان , فقد بقى إنسانه كما كان , أصيلاً بتاريخه وثقافته , كأنما أراد أن يقول الكاتب , بأن التاريخ أقوى من كل ما يقصده . وأن الإنسان هو الذي يصنع تاريخه الخالد وليست السلطة . لقد اعتمدت الرواية في معمارها على عدة أعمدة قوية وثابتة منها , معرفة الكاتب الراوي بثقافة المكان , وأشكال الحياة اليومية الغنية فيه , وبلغة العامة فيه , ( لغة التحاور والخطاب العفوي ) , والذي يناسب الفضاء الثقافي للمكان . لجأ الكاتب في روايته إلي ما يسمى بتقنية السرد المتناوب بين الراوي والشخصيات التي يروي عنها , فهو يعطيها الحق في التعبير عن نفسها وفي التحاور مع غيرها . وبهذا كان الراوي يمثل شخصية بطلة داخل النص الروائي . والذي جعل الرواية نصاً محملاً بثقافة المكان الذي تدور فيه الأحداث , والذي ينطبق عليه قول الكاتبة الإنجليزية ( فيرجينيا وولف ) , { يلزم أن تلعب الثقافة دوراً بالغاً ومهماً في أعمال الكاتب } . فالراوي عندما يتداعي حراً , فهو يعرف أسماء القرى , وكل الأحداث التاريخية القريبة والبعيدة في النوبة وصعيد مصر , يعرف أدوات الزراعة , وأسماء النجوم , والأنواء , وتقسيمات الفصول , وأدوات الطهي والديكور المنزلي الشعبي , وأسماء الأطعمة والأشربة , والعادات والأساطير والحكايات الشعبية , وهذا ما يؤكد ما جاء في كتاب الدكتور جابر عصفور ( زمن الرواية ) , والذي حدّد فيه دور الرواية في الزمن الحاضر , والذي يرى ( بان لها مسئولية في النهضة العربية , ويرى بأنها الأداة الرئيسة في محاولة تغيير الواقع العربي , وهي التي تجسد أيضاً عقلانية الاستنارة , وتمثل التسامح في مواجهة التعصب , ) . وقد تمثل كل هذا في رواية ( السرابيل ) , وكأنها تفرد للدور الثقافي والتاريخي , مهمة تغيير الواقع العربي المتخلف . وكأنها قرأت المستقبل وهي تتنبأ بالربيع العربي والتحولات الفكرية والثقافية التي أدت إليه . لقد كانت الرواية رغم القفز من حاجز الزمن , متماسكة في بنيتها , وفي منطق الواقع الذي تحكي أحداثه , وفي مقدرتها على تحفيز المتابعة حتى النهاية . فالراوي كان يقبض على حبل السرد بحيث لم يفلت منه أبداً , وقد جعل من المعلومة التاريخية سهلة ومستساغة للقارئ العادي , وتدخل وجدانه الشعبي بسهولة , دون أن تتحول إلي رواية تاريخية جافة . وقد كان حصيفاً فلم يعطى البطولة لأي شخصية , وإنما البطولة المطلقة كانت للأحداث , [ بطولة الحدث وليست بطولة الشخصية ] . لقد أفلح الكاتب في الاستخدام الجيد للمفردة اليومية ( لغة التعامل اليومي ) , في جمل محملة بالبلاغة الشعبية المصرية المعروفة , وقد تكون لدارس اللغات العربية العامية ذخيرة كبيرة ومقدرة , فالرواية قد خصصت اللغة والشكل والرؤية إلي العالم . ببصم أسلوبية ميزة وخاصة , ولغة غير معقدة , وقد اكتشف الطاقة الكامنة في اللغة العامية والمصرية واللغة العربية الفصحى .