مرصد الأزهر يحذر من تفاقم الظواهر السلبية داخل المدارس ويدعو إلى تأهيل المعلمين    كجوك: «المالية» صنعت جيلاً من الكفاءات يؤمن بأهمية تطوير القدرات البشرية    سعر الدينار الأردني في البنك المركزي اليوم الخميس    «إعلام إسرائيلي»: لا تقدم في مفاوضات المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار في غزة    عشرات القتلى و279 مفقودًا في حريق الأبراج العملاقة ب هونغ كونغ    بعد تغييره بسبب المصري، موعد المران الأساسي لبيراميدز في زامبيا    كأس مصر| سموحة يواجه غزل المحلة في برج العرب بحثًا عن بطاقة العبور لدور ال16    محامي رمضان صبحي: التواصل معه صعب بسبب القضية الأخرى.. وحالة بوجبا مختلفة    عادل فتحي نائبا.. عمومية المقاولون العرب تنتخب مجلس إدارة جديد برئاسة محسن صلاح    بتروجت يلتقي وادي دجلة في مواجهة قوية بدور ال32 لكأس مصر    ضبط 5 عناصر جنائية لغسل 50 مليون جنيه من النصب عبر منصة إلكترونية    التضامن: مد فترة سداد رسوم حج الجمعيات الأهلية حتى 4 ديسمبر    كنوز دار الهلال    روز اليوسف على شاشة الوثائقية قريبًا    قبل موتها المفاجئ.. المذيعة هبة زياد تكشف تعرضها للتهديد والابتزاز    الداخلية تواصل حملاتها المرورية وتضبط 145 ألف مخالفة ب24 ساعة    منتخب مصر يحدد موعد السفر إلى المغرب استعدادًا لأمم أفريقيا    ارتفاع حصيلة الفيضانات وانزلاقات التربة في إندونيسيا إلى 19 قتيلا    انخفاض أسعار النفط مع توقعات بإمكانية التوصل لوقف إطلاق النار بين روسيا وأوكرانيا    المفوضة الأوروبية: ما يحدث في السودان كارثة إنسانية    «صحف يونانية»: اكتشاف أكبر مدينة عنكبوتية عملاقة على الحدود مع ألبانيا    هيئة الرعاية الصحية تعلن الفائزين بجوائز التميز لعام 2025    وزير الانتاج الحربي يتابع سير العمل بشركة حلوان للصناعات غير الحديدية    رأس المال البشرى.. مشروع مصر الأهم    جامعة بنها ضمن الأفضل عربيًّا في تصنيف التايمز البريطاني    انطلاق أول رحلة رسولية خارجية للبابا ليو الرابع عشر نحو تركيا ولبنان    الأحزاب ترصد مؤشرات الحصر العددى: تقدم لافت للمستقلين ومرشحو المعارضة ينافسون بقوة فى عدة دوائر    انطلاق امتحانات شهر نوفمبر لطلاب صفوف النقل    إصابة 9 أشخاص فى حادث انقلاب ميكروباص بطريق أبوسمبل    القبض على مريض نفسى حرق سيارة بمدينة 6 أكتوبر    طقس الخميس.. انخفاض فى درجات الحرارة وشبورة كثيفة صباحا    وزيرة التضامن تلتقي ممثلة الاتحاد الأوروبي لحقوق الإنسان    جامعة قناة السويس تنظم ندوة "تجليات وعبقرية المعمار المسلم" ضمن "طوف وشوف"    المعارضة تقترب من حسم المقعد.. وجولة إعادة بين مرشّح حزبى ومستقل    وزير الري يستعرض المسودة الأولية للنظام الأساسي واللائحة الداخلية لروابط مستخدمي المياه    ارتفاع معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى 5.3% بالربع الأول من عام 2025 /2026    وزير البترول يشهد توقيع خطاب نوايا مع جامعة مردوخ الأسترالية    طب قصر العينى تنظم ندوة علمية لقسم الصحة العامة    الصين تصدر الكتاب الأبيض حول نظام إدارة عالمي لمجالات جديدة    عمر خيرت يوجه رسالة للجمهور بعد تعافيه من أزمته الصحية.. تعرف عليها    ضبط المتهم بالتعدى على فتاة من ذوى الهمم بطوخ وحبسه 4 أيام    اليوم.. المؤتمر الصحفي لمباراة الأهلي والجيش الملكي المغربي    مصرع 11 عاملًا وإصابة آخرين بعد اصطدام قطار بمجموعة من عمال السكك الحديدية بالصين    سر ظهور أحمد مكي في الحلقة الأخيرة من مسلسل "كارثة طبيعية" (فيديو)    الولايات المتحدة توقف معالجة طلبات الهجرة للأفغان بعد حادث إطلاق النار في واشنطن    عصام عطية يكتب: «دولة التلاوة».. صوت الخشوع    محافظ كفر الشيخ: مسار العائلة المقدسة يعكس عظمة التاريخ المصري وكنيسة العذراء تحتوي على مقتنيات نادرة    فانس يوضح الاستنتاجات الأمريكية من العملية العسكرية الروسية فى أوكرانيا    مواقيت الصلاه اليوم الخميس 27نوفمبر 2025 فى المنيا.....اعرف مواعيد صلاتك    زكريا أبوحرام يكتب: أسئلة مشروعة    علامات تؤكد أن طفلك يشبع من الرضاعة الطبيعية    ضعف المناعة: أسبابه وتأثيراته وكيفية التعامل معه بطرق فعّالة    المناعة لدى الأطفال وسبل تقويتها في ظل انتشار فيروسات تنفسية جديدة    موعد أذان وصلاة الفجر اليوم الخميس 27نوفمبر2025.. ودعاء يستحب ترديده بعد ختم الصلاه.    البيان العسكري العراقي ينفي وجود طيران أجنبي جنوب البلاد    خالد الجندي: ثلاثة أرباع من في القبور بسبب الحسد    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 26-10-2025 في محافظة الأقصر    دار الإفتاء تكشف.. ما يجوز وما يحرم في ملابس المتوفى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مثالان على الإعجاز التصويري في القراءات القرآنية
نشر في الفجر يوم 14 - 05 - 2015

تعتبر القراءات القرآنية ذات المعاني المتعددة من أهم مظاهر الإعجاز البياني في القرآن الكريم؛ فهي تكتنز عدداً من المشاهد التي تكون الصورة العامة للقصة أو للخبر المسوق للتربية والوعظ والتشريع في الوقت ذاته، وسنأخذ مثالين على ذلك:
المثال الأول: في {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}(البقرة:10)
ورد في قوله (يَكْذِبُونَ) قراءتان:
1) قرأ الكوفيون: {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} مخففة مفتوحة الياء من كَذَب، ومصدره الكذب.
2) وقرأ أهل المدينة والحجاز والبصرة والشام: (يُكَذِّبُونَ) بِضَمِّ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِ الذَّالِ، فهي مأخوذة من كذَّب الثلاثي المضعف، ومصدره هو التكذيب كالتعديل والتجريح.
المقارنة بين القراءتين:
الأولى بمعنى يكذبون في منطقهم وحديثهم
وأما الثانية فإن التضعيف في (يَكْذِبُونَ) يحتمل معانٍ من أربعة عشر معنىً هي التي جاءت لها فعَّل، ومن المعاني التي يحتملها التكذيب هنا: الرمي به، والتعدية، والتكثير، والتسمية:
فيكون معناها: يكذبون أي يرميهم غيرهم بالكذب، ويسميهم به فتوافق معنى قراءة التخفيف، كما يقال: شجَّعته وجبَّنته، أي رميته بالشجاعة والجبن، وسميته به
والمعنى الثاني التعدية: أي يتهمون المرسلين بالكذب أو بما كانُوا يُكَذِّبون الرسولَ والقرآنَ، وهذا محض الكفر،
والمعنى الثالث: يكذبون أي يكثرون الكذب كما تقول يكثِّر،
والمعنى الرابع: التسمية به فقد صاروا يسمون بين الناس بالكاذبين ويعرفون بذلك، وكلمة كانوا في قوله (بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) مقحمة لإفادة دوام كذبهم وتجدده أي: بسبب كذبهم المتجدد المستمر الذي هو قولهم آمنا.
وبذلك صورت القراءتان مشهدين مختلفين:
المشهد الأول: استحقاق هؤلاء المنافقين للعذاب الأليم بسبب كذبهم في أنفسهم: وتدل عليه قراءة (يَكْذِبُونَ)، ومن كذبهم أنهم يكذبون بدعواهم الإيمان وإظهارهم ذلك بألسنتهم خداعًا للَّه عزَّ وجلَّ ولرسوله وَللمؤمنين، فَقَالَ : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا}، وذلك كما في قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ*اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (المنافقون:1 -2)، {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} (المجادلة:16)، وكما قال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ}(الأنعام:157).
المشهد الثاني: وتدل عليه القراءة بِتَشْدِيدِ الذَّالِ وَضَمِّ الْيَاءِ: استحقاق هؤلاء المنافقين للعذاب الأليم بسبب صفة ذميمة أخرى هي التكذيب للصادقين، وعلى رأسهم النبي الأمين –صلى الله عليه وآله وسلم- وكثرة الكذب أمام المفلحين (إذا جعلنا التضعيف دالاً على التكثير)، وذلك كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} (يوسف: 110).
ونلاحظ هنا أن العذاب الأليم الواقع على المنافقين كان واقعاً عليهم لا لمجموع الجريمتين، وإنما بسبب كل جريمةٍ على حدة، فكلٌ منهما توجب العذاب الأليم على صاحبها: الكذب، والتكذيب وقد كانوا متصفين بهذا وهذا كما قال ابن كثير.
الحكمة في القراءتين:
1) لبيان جريمة كل من الكذب والتكذيب.
2) لإثبات جمعهم للرذيلتين، أي الكذب في دعوى الإيمان وتكذيب النبي - صلى اللَّه عليه وسلم -، فقد كانوا متصفين بهذا وهذا، فإنهم كانوا كذبة يكذبون بالحق يجمعون بين هذا وهذا، والثانية سبب الأولى، وهم إنما كانوا يكذبونه في أنفسهم، وفيما بينهم إذا خلوا إِلى شياطينهم، والعذاب عقوبةٌ عليهما معا، أي على التكذيب وهو الكفر، وعلى الكذب في دعوى الإيمان وهو النفاق، وهؤلاء في باطنهم شرٌّ من الذين كفروا عنادًا من رؤَساء قريشٍ ، فَإنهم لم يكونوا يكذبونه - صلى اللَّه عليه وسلم - وإنما كانوا يجحدون جحود استكبار ، قَالَ تَعَالَى : (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ)(الأنعام : 33)" .
سؤال في قراءة التخفيف:
صار العذاب مترتباً على الكذب من جهة، وعلى التكذيب من جهة أخرى، وترتبه على التكذيب واضحٌ فهو الكفر، ولكن لماذا جعل الْعَذَاب جَزَاءَ الْكَذِبِ دُونَ الْكُفْرِ في القراءة الأخرى؟ وَالجواب: كما يقول صاحب المنار: "أن الكفر داخل في هذا الكذب ، وإنما اختير لَفظ الكذب في التعبِير للتحذير منه، وبيان فَظاعته وعظمِ جرمه ، ولبيان أن الكفر من مشتملاته وينتهِي إليه في غاياته ، ولذلك حذر القرآن منه أشد التحذير ، وتوعد عليه أسوأ الوعيد ، وما فشا الكذب في قَومٍ إلا فشت فيهم كل جريمةٍ وكبيرةٍ ؛ لأنه ينشأ من دناءة النفس وضعف الحياء والمروءة ، ومن كان كذلك لا يترك قَبيحًا إلا بالعجز عنه ، ونعوذ بالله تعالى من عمله ومنه".وقد جمع الله بين هذين الرذيلتين الأخلاقيتين، وهذين الصنفين الرديئين من الناس في قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ}(الأعراف:37)، {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ}(يونس:17)، {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ}(الزمر:32).
المثال الثاني: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}(البقرة:74)
وردت هذه الجملة {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} في ستة مواضع في القرآن الكريم: خمسة منها في سورة البقرة، والسادس في سورة آل عمران، كما وردت بصيغة {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} حيث جاءت كلمة (ربك) بدلاً من لفظ الجلالة (الله) في ثلاثة مواضع من القرآن الكريم في الأنعام وهود والنمل، وكلها اختلف القراء فيها بين الغيبة والخطاب ما عدا موضع آل عمران، وسنأخذ أنموذجاً واحداً لها وهو الموضع الأول من سورة البقرة:
{وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}(البقرة:74)
القراءتان الواردتان في ذلك:
فقد قرأ ابن كثير ويعقوب وخلف بالغيب، والباقون بالخطاب، وكل قراءة من هاتين القراءتين العظيمتين تصور لنا موقفاً غير أنهما يجتمعان في أن هذه الجملة ختمت بها جولة عظيمة مع بني إسرائيل في تاريخهم الحافل بالكفر والتكذيب، والالتواء واللجاجة، والكيد والدس، والقسوة والجدب، والتمرد والفسوق، وكان هذه الجملة التذييلية تبين صورتين عجيبتين في التعامل مع قساة القلوب من بني إسرائيل ومن سار على نهجهم.
المشهد الذي ترسمه كل قراءة:
قراءة الخطاب تحتمل معنيين وترسم مشهدين:
المشهد الأول: يحتمل أن يكون الخطاب لبني إسرائيل مباشرة:
إكمالاً لخطابهم قبل هذا الموضع في قصة البقرة وما قبلها حتى وصل بهم وهو يخاطبهم إلى قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ*فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ*ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ}(البقرة:72 -74)، وختم ذلك بإتمام الخطاب لهم قائلاً لهم: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ})البقرة:74)، فكأنه يكمل خطابه للمكذبين من قساة القلوب من بني إسرائيل ومن سار سيرتهم ممن يعيش زمن نزول القرآن وبعد ذلك، فيقول لهم -كما قال أبو جعفر الطبري-: "وما الله بغافل -يا معشر المكذبين بآياته، والجاحدين نبوة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، والمتقولين عليه الأباطيل من بني إسرائيل وأحبار اليهود- عما تعملون من أعمالكم الخبيثة، وأفعالكم الرديئة، ولكنه محصيها عليكم، فمجازيكم بها في الآخرة، أو معاقبكم بها في الدنيا" كما قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ*وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (الزلزلة: 7-8)، وكأن الله يقول لهم -كما يقول صاحب المنار-: "قلوبكم تشبه الحجارةَ في القسوة، بل قَد تزيد في القساوة عنها، فإن الحجارةَ الصم تتأثر في باطنها بالماء اللطيف النافع، بعضها بالْقَوي منه وبعضها بالضعيف، ولكن قلوبكم لا تتأثر بالحكم والمواعظ التي من شَأنها التأثير في الوجدان والنفوذ إلَى الجنان، والحجارة تتأثر بالحوادث الهائلة التي يحدثها الله في الكون كالصواعق والزلازل، ولكن قلوبكم لم تتأثّر بتلك الآيات الإلهية التي تشبهها، فلا أفادت فيها المؤثرات الداخلية، ولا المؤثرات الخارجية كما أفادت في الأحجار، فبذلك كانت قلوبكم أشد قسوةً. ثم هددهم بقوله: (وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أي فهو سيربيكم بضروب النقم، إذا لم تتربوا بصنوف النعمِ".
المشهد الثاني: يحتمل أن يكون الخطاب للمسلمين: أي أن الله لا يغفل عما تعملون أيها المسلمون، فإن أنتم فعلتم فعل هؤلاء القساة أصابكم ما أصابهم، فقد قصصنا عليكم خبرهم، فلا تسيروا سيرتهم. قراءة الغيب: وهي قراءة ابن كثير ويعقوب وخلف بياء الغيب فيكون هكذا قوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يعْمَلُونَ}(البقرة:74):
هي إخبار للنبي-صلى الله عليه وآله وسلم- وللمسلمين يطمئنهم ويسكن روعهم ويخبرهم بأنه ليس بغافلٍ عما يعمل الأشرار وقساة القلوب من بني إسرائيل ومن نسج نسجهم، وخطابه للمسلمين بذلك يفيد:
1) أنه يعلم خطاياهم ومعاصيهم وقسوة قلوبهم وكونه يحلم عليهم لا يعني أنه غافل عنهم.
2) أنه يعلم مكرهم وشدة قسوة قلوبهم فيحيط بمكرهم ويعلم خفاياهم، وكونه يملي لهم في ذلك فليس ذلك فيه غفلة عما يعملون.
والانتقال من خطاب بني إسرائيل إلى خطاب المسلمين -كما يقول الطاهر بن عاشور- ليس "من الالتفات لاختلاف مرجع الضميرين لأن تفريع قوله: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} (البقرة:75) عليه دل على أن الكلام نقل من خطاب بني إسرائيل إلى خطاب المسلمين. وهو خبر مراد به التهديد والوعيد لهم مباشرة أو تعريضا".
والمراد من القراءتين إثبات الإحاطة الإلهية، والمعية الربانية لكل فعل وحركة {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى*لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى* وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى*اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}(طه:5 -8)، وقد قال: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا}(النساء:108).
ولذا نمى الصالحون الشعور بالرقابة الإلهية قال رجل للجنيد: بم أستعين على غض البصر؟ فقال: بعلمك أنَّ نظر الناظر إليك أسبق مِن نظرك إلى المنظور إليه، وقال الجنيد: إنما يتحقق بالمراقبة مَن يخاف على فوت حظه مِن ربه عز وجل،
وسئل المحاسبي عن المراقبة فقال: أولها علم القلب بقرب الله تعالى.
وقال سهل: لم يتزين القلب بشيء أفضل ولا أشرف مِن علم العبد بأن الله شاهده
حيث كان.
وقال حميد الطويل لسليمان بن علي: عظني.. فقال: لئن كنت إذا عصيت الله خاليًا ظننت أنه يراك؛ لقد اجترأت على أمر عظيم.. ولئن كنت تظن أنه لا يراك فلقد كفرت.
وكان بعض السلف إذا صلى صلاة استغفر من تقصيره فيها كما يستغفر المذنب من ذنبه إذا كان هذا حال المحسنين في عباداتهم فكيف حال المسيئين مثلنا في عباداتهم
وكان عمر بن عبد العزيز كان إذا أصبح أمسك بلحيته ثم قرأ:{أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ*ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ*ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ} ثم يبكي ويقول:
نهارك يا مغرور سهو وغفلة ... وليلك نوم والردى لك لازم
فلا أنت في الإيقاظ يقظان حازم ... ولا أنت في النوام ناج فسالم
تسر بما يفنى وتفرح بالمنى ... كما سر باللذات في النوم حالم
وتسعى إلى ما سوف تكره غبه ... كذلك في الدنيا تعيش البهائم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.