بالأرقام.. نتيجة انتخابات نقابة أطباء أسوان    أسعار الفراخ بأسواق مطروح اليوم السبت 10-10-2025.. الكيلو ب 70 جنيها    محافظ كفر الشيخ يوجّه بتغيير خط مياه الشرب بقرية الرغامة إلى بلاستيك    «المشاط» تبحث مع المفوض الأوروبى للبيئة جهود تنفيذ آلية تعديل حدود الكربون    "المصريين الأحرار": تقرير"ستاندرد آند بورز" شهادة ثقة لتصنيف مصر الائتماني    قريبًا.. مصر تستقبل التوقيت الشتوي لعام 2025.. هل مستعد لتغيير الساعة؟    عاجل- أسطول طائرات أمريكية عملاقة يصل إسرائيل استعدادًا لزيارة ترامب المرتقبة    ويتكوف وقائد القوات الأمريكية يزوران جنود الاحتلال فى غزة.. صور    أستاذ علوم سياسية: القمة المرتقبة محطة فارقة في مسار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي    عاجل- الدفاع المدني في غزة: 9500 مواطن ما زالوا في عداد المفقودين    معهد فلسطين: اتفاق شرم الشيخ يعكس انتصار الدبلوماسية العربية ومرحلة جديدة من الواقعية الدولية    إصابة فى الفخذ تجبر كوناتي على مغادرة معسكر فرنسا    ارتفاع عدد ضحايا الفيضانات والانهيارات الأرضية في المكسيك إلى 27 قتيلا    آخر مباريات تصفيات كأس العالم.. مصر بالقميص التقليدي في مواجهة غينيا بيساو    الرباعة سارة سمير بعد التتويج بثلاث فضيات ببطولة العالم: دايمًا فخورة إني بمثل مصر    يلا شووووت تعرف على القنوات الناقلة لمباراة عمان والإمارات في تصفيات كأس العالم 2026    العرفاوي: لا ندافع فقط في غزل المحلة.. ونلعب كل مباراة من أجل الفوز    قائمة الخطيب تواصل جولاتها الانتخابية في الأهلي    انخفاض في درجات الحرارة غدا وفرص سقوط أمطار والعظمى بالعاصمة 28 درجة    مصرع شخصين فى حادث تصادم أتوبيس وسيارة بطريق أبوسمبل    إحالة قاتلة زوجها وأطفاله ال 6 فى المنيا لفضيلة المفتى    فيديو متداول يرصد اعتداء سائق على آخر بسبب أولوية المرور فى الإسكندرية    ضبط عصابة دولية لجلب وتهريب المخدرات بحوزتهم مضبوطات قيمتها 127 مليون جنيه    الجالى: فوز العنانى باليونسكو يجسد قوة مصر الناعمة ويعبر عن الجمهورية الجديدة    لحظة عقد قران إيناس الدغيدي.. وزغرودة من بوسي شلبي وهالة صدقي (صور)    تكريم يحيى الفخرانى وسلمى الشماع ويوسف عمر فى مهرجان أفلام الطلبة.. غدا    إيهاب فهمي: تشرفت بأن تحمل الدورة الثالثة لمهرجان الطفل العربي اسمي| فيديو    في أفضل حالاتهم.. 5 أبراج راحتها في الشتاء    100 ألف دولار لكل فائز.. فتح باب الترشح لجائزة الإيسيسكو حمدان لتطوير المنشآت التربوية    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 11-10-2025 في محافظة الأقصر    منها وجبات اقتصادية.. 7 أطعمة تدعم الذاكرة وصحة المخ    حان وقت تغيير ساعتك.. كيف تواجه تحديات التوقيت الشتوي؟    ما إنفلونزا المعدة؟.. الأعراض وطرق الوقاية من العدوى الفيروسية الأكثر شيوعًا    مطالبة بإلزام الاحتلال تعويض عمال فلسطين.. «العمل العربية»: إعادة إعمار غزّة أولويةٌ ملحّة (تفاصيل)    «التضامن» تبحث مع مدير مشروع تكافؤ الفرص «EOSD» بالوكالة الألمانية دعم مشروعات الحماية الاجتماعية    هدوء في اليوم ال4 للترشح لانتخابات مجلس النواب 2025 بالمنيا    «حظر جوي وعملاء ل الموساد داخل الملعب».. توترات سياسية تزين مباراة النرويج وإسرائيل    تقارير: نجم ريال مدريد مهدد بالغياب عن مباراة برشلونة    اكتشاف قلعة عسكرية جديدة من عصر الدولة الحديثة على طريق حورس الحربي بسيناء    إحالة أوراق عامل ونجله لمفتي الجمهورية لقتلهما شابا في قنا    ضبط 6 آلاف كيس عصير مجهول المصدر ومخازن دقيق وسجائر مهربة خلال حملة تموينية بالغربية    ضبط تشكيل عصابي يتزعمه زوجين بتهمة سرقة المنازل غير المأهولة بالعاشر من رمضان    موعد مباراة الزمالك وديكيداها الصومالي بالكونفدالية    فرق عمل لمتابعة أداء المستشفيات الحكومية والتعليمية والطوارئ في الشرقية    انتخابات النواب: رقمنة كاملة لبيانات المرشحين وبث مباشر لمتابعة تلقى الأوراق    7 معلومات لا تعرفها عن جون لودج مغنى فرقة ذا مودى بلوز بعد وفاته    عاجل- رئيس الوزراء يتفقد عددًا من المشروعات التنموية بمحافظة القليوبية    الأزهر للفتوى: حرق قش الأرز حرام لما فيه من إفساد في الأرض وإضرار بالنفس والبيئة    الرعاية الصحية: تعزيز منظومة الأمان الدوائي ركيزة أساسية للارتقاء بالجودة    وكيل وزارة الزراعة بالقليوبية يتفقد عددا من أماكن تجميع قش الأرز    رئيس جامعة السويس: إدراج الجامعات في تصنيف التايمز العالمي يعكس تطور التعليم    «القومي للطفولة والأمومة»: تمكين الفتيات في التعليم والصحة استثمار في مستقبل الوطن    أسعار الدولار اليوم السبت 11 أكتوبر 2025.. وصل لكام؟    الجمعية المصرية للأدباء والفنانين تحتفل بذكرى نصر أكتوبر في حدث استثنائي    تعرف على فضل صلاة الفجر حاضر    30 دقيقة تأخر على خط «القاهرة - الإسكندرية».. السبت 11 أكتوبر 2025    فتاوى.. بلوجر إشاعة الفاحشة    فتاوى.. عدة الطلاق أم الوفاة؟!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مثالان على الإعجاز التصويري في القراءات القرآنية
نشر في الفجر يوم 14 - 05 - 2015

تعتبر القراءات القرآنية ذات المعاني المتعددة من أهم مظاهر الإعجاز البياني في القرآن الكريم؛ فهي تكتنز عدداً من المشاهد التي تكون الصورة العامة للقصة أو للخبر المسوق للتربية والوعظ والتشريع في الوقت ذاته، وسنأخذ مثالين على ذلك:
المثال الأول: في {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}(البقرة:10)
ورد في قوله (يَكْذِبُونَ) قراءتان:
1) قرأ الكوفيون: {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} مخففة مفتوحة الياء من كَذَب، ومصدره الكذب.
2) وقرأ أهل المدينة والحجاز والبصرة والشام: (يُكَذِّبُونَ) بِضَمِّ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِ الذَّالِ، فهي مأخوذة من كذَّب الثلاثي المضعف، ومصدره هو التكذيب كالتعديل والتجريح.
المقارنة بين القراءتين:
الأولى بمعنى يكذبون في منطقهم وحديثهم
وأما الثانية فإن التضعيف في (يَكْذِبُونَ) يحتمل معانٍ من أربعة عشر معنىً هي التي جاءت لها فعَّل، ومن المعاني التي يحتملها التكذيب هنا: الرمي به، والتعدية، والتكثير، والتسمية:
فيكون معناها: يكذبون أي يرميهم غيرهم بالكذب، ويسميهم به فتوافق معنى قراءة التخفيف، كما يقال: شجَّعته وجبَّنته، أي رميته بالشجاعة والجبن، وسميته به
والمعنى الثاني التعدية: أي يتهمون المرسلين بالكذب أو بما كانُوا يُكَذِّبون الرسولَ والقرآنَ، وهذا محض الكفر،
والمعنى الثالث: يكذبون أي يكثرون الكذب كما تقول يكثِّر،
والمعنى الرابع: التسمية به فقد صاروا يسمون بين الناس بالكاذبين ويعرفون بذلك، وكلمة كانوا في قوله (بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) مقحمة لإفادة دوام كذبهم وتجدده أي: بسبب كذبهم المتجدد المستمر الذي هو قولهم آمنا.
وبذلك صورت القراءتان مشهدين مختلفين:
المشهد الأول: استحقاق هؤلاء المنافقين للعذاب الأليم بسبب كذبهم في أنفسهم: وتدل عليه قراءة (يَكْذِبُونَ)، ومن كذبهم أنهم يكذبون بدعواهم الإيمان وإظهارهم ذلك بألسنتهم خداعًا للَّه عزَّ وجلَّ ولرسوله وَللمؤمنين، فَقَالَ : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا}، وذلك كما في قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ*اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (المنافقون:1 -2)، {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} (المجادلة:16)، وكما قال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ}(الأنعام:157).
المشهد الثاني: وتدل عليه القراءة بِتَشْدِيدِ الذَّالِ وَضَمِّ الْيَاءِ: استحقاق هؤلاء المنافقين للعذاب الأليم بسبب صفة ذميمة أخرى هي التكذيب للصادقين، وعلى رأسهم النبي الأمين –صلى الله عليه وآله وسلم- وكثرة الكذب أمام المفلحين (إذا جعلنا التضعيف دالاً على التكثير)، وذلك كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} (يوسف: 110).
ونلاحظ هنا أن العذاب الأليم الواقع على المنافقين كان واقعاً عليهم لا لمجموع الجريمتين، وإنما بسبب كل جريمةٍ على حدة، فكلٌ منهما توجب العذاب الأليم على صاحبها: الكذب، والتكذيب وقد كانوا متصفين بهذا وهذا كما قال ابن كثير.
الحكمة في القراءتين:
1) لبيان جريمة كل من الكذب والتكذيب.
2) لإثبات جمعهم للرذيلتين، أي الكذب في دعوى الإيمان وتكذيب النبي - صلى اللَّه عليه وسلم -، فقد كانوا متصفين بهذا وهذا، فإنهم كانوا كذبة يكذبون بالحق يجمعون بين هذا وهذا، والثانية سبب الأولى، وهم إنما كانوا يكذبونه في أنفسهم، وفيما بينهم إذا خلوا إِلى شياطينهم، والعذاب عقوبةٌ عليهما معا، أي على التكذيب وهو الكفر، وعلى الكذب في دعوى الإيمان وهو النفاق، وهؤلاء في باطنهم شرٌّ من الذين كفروا عنادًا من رؤَساء قريشٍ ، فَإنهم لم يكونوا يكذبونه - صلى اللَّه عليه وسلم - وإنما كانوا يجحدون جحود استكبار ، قَالَ تَعَالَى : (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ)(الأنعام : 33)" .
سؤال في قراءة التخفيف:
صار العذاب مترتباً على الكذب من جهة، وعلى التكذيب من جهة أخرى، وترتبه على التكذيب واضحٌ فهو الكفر، ولكن لماذا جعل الْعَذَاب جَزَاءَ الْكَذِبِ دُونَ الْكُفْرِ في القراءة الأخرى؟ وَالجواب: كما يقول صاحب المنار: "أن الكفر داخل في هذا الكذب ، وإنما اختير لَفظ الكذب في التعبِير للتحذير منه، وبيان فَظاعته وعظمِ جرمه ، ولبيان أن الكفر من مشتملاته وينتهِي إليه في غاياته ، ولذلك حذر القرآن منه أشد التحذير ، وتوعد عليه أسوأ الوعيد ، وما فشا الكذب في قَومٍ إلا فشت فيهم كل جريمةٍ وكبيرةٍ ؛ لأنه ينشأ من دناءة النفس وضعف الحياء والمروءة ، ومن كان كذلك لا يترك قَبيحًا إلا بالعجز عنه ، ونعوذ بالله تعالى من عمله ومنه".وقد جمع الله بين هذين الرذيلتين الأخلاقيتين، وهذين الصنفين الرديئين من الناس في قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ}(الأعراف:37)، {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ}(يونس:17)، {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ}(الزمر:32).
المثال الثاني: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}(البقرة:74)
وردت هذه الجملة {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} في ستة مواضع في القرآن الكريم: خمسة منها في سورة البقرة، والسادس في سورة آل عمران، كما وردت بصيغة {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} حيث جاءت كلمة (ربك) بدلاً من لفظ الجلالة (الله) في ثلاثة مواضع من القرآن الكريم في الأنعام وهود والنمل، وكلها اختلف القراء فيها بين الغيبة والخطاب ما عدا موضع آل عمران، وسنأخذ أنموذجاً واحداً لها وهو الموضع الأول من سورة البقرة:
{وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}(البقرة:74)
القراءتان الواردتان في ذلك:
فقد قرأ ابن كثير ويعقوب وخلف بالغيب، والباقون بالخطاب، وكل قراءة من هاتين القراءتين العظيمتين تصور لنا موقفاً غير أنهما يجتمعان في أن هذه الجملة ختمت بها جولة عظيمة مع بني إسرائيل في تاريخهم الحافل بالكفر والتكذيب، والالتواء واللجاجة، والكيد والدس، والقسوة والجدب، والتمرد والفسوق، وكان هذه الجملة التذييلية تبين صورتين عجيبتين في التعامل مع قساة القلوب من بني إسرائيل ومن سار على نهجهم.
المشهد الذي ترسمه كل قراءة:
قراءة الخطاب تحتمل معنيين وترسم مشهدين:
المشهد الأول: يحتمل أن يكون الخطاب لبني إسرائيل مباشرة:
إكمالاً لخطابهم قبل هذا الموضع في قصة البقرة وما قبلها حتى وصل بهم وهو يخاطبهم إلى قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ*فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ*ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ}(البقرة:72 -74)، وختم ذلك بإتمام الخطاب لهم قائلاً لهم: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ})البقرة:74)، فكأنه يكمل خطابه للمكذبين من قساة القلوب من بني إسرائيل ومن سار سيرتهم ممن يعيش زمن نزول القرآن وبعد ذلك، فيقول لهم -كما قال أبو جعفر الطبري-: "وما الله بغافل -يا معشر المكذبين بآياته، والجاحدين نبوة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، والمتقولين عليه الأباطيل من بني إسرائيل وأحبار اليهود- عما تعملون من أعمالكم الخبيثة، وأفعالكم الرديئة، ولكنه محصيها عليكم، فمجازيكم بها في الآخرة، أو معاقبكم بها في الدنيا" كما قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ*وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (الزلزلة: 7-8)، وكأن الله يقول لهم -كما يقول صاحب المنار-: "قلوبكم تشبه الحجارةَ في القسوة، بل قَد تزيد في القساوة عنها، فإن الحجارةَ الصم تتأثر في باطنها بالماء اللطيف النافع، بعضها بالْقَوي منه وبعضها بالضعيف، ولكن قلوبكم لا تتأثر بالحكم والمواعظ التي من شَأنها التأثير في الوجدان والنفوذ إلَى الجنان، والحجارة تتأثر بالحوادث الهائلة التي يحدثها الله في الكون كالصواعق والزلازل، ولكن قلوبكم لم تتأثّر بتلك الآيات الإلهية التي تشبهها، فلا أفادت فيها المؤثرات الداخلية، ولا المؤثرات الخارجية كما أفادت في الأحجار، فبذلك كانت قلوبكم أشد قسوةً. ثم هددهم بقوله: (وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أي فهو سيربيكم بضروب النقم، إذا لم تتربوا بصنوف النعمِ".
المشهد الثاني: يحتمل أن يكون الخطاب للمسلمين: أي أن الله لا يغفل عما تعملون أيها المسلمون، فإن أنتم فعلتم فعل هؤلاء القساة أصابكم ما أصابهم، فقد قصصنا عليكم خبرهم، فلا تسيروا سيرتهم. قراءة الغيب: وهي قراءة ابن كثير ويعقوب وخلف بياء الغيب فيكون هكذا قوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يعْمَلُونَ}(البقرة:74):
هي إخبار للنبي-صلى الله عليه وآله وسلم- وللمسلمين يطمئنهم ويسكن روعهم ويخبرهم بأنه ليس بغافلٍ عما يعمل الأشرار وقساة القلوب من بني إسرائيل ومن نسج نسجهم، وخطابه للمسلمين بذلك يفيد:
1) أنه يعلم خطاياهم ومعاصيهم وقسوة قلوبهم وكونه يحلم عليهم لا يعني أنه غافل عنهم.
2) أنه يعلم مكرهم وشدة قسوة قلوبهم فيحيط بمكرهم ويعلم خفاياهم، وكونه يملي لهم في ذلك فليس ذلك فيه غفلة عما يعملون.
والانتقال من خطاب بني إسرائيل إلى خطاب المسلمين -كما يقول الطاهر بن عاشور- ليس "من الالتفات لاختلاف مرجع الضميرين لأن تفريع قوله: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} (البقرة:75) عليه دل على أن الكلام نقل من خطاب بني إسرائيل إلى خطاب المسلمين. وهو خبر مراد به التهديد والوعيد لهم مباشرة أو تعريضا".
والمراد من القراءتين إثبات الإحاطة الإلهية، والمعية الربانية لكل فعل وحركة {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى*لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى* وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى*اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}(طه:5 -8)، وقد قال: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا}(النساء:108).
ولذا نمى الصالحون الشعور بالرقابة الإلهية قال رجل للجنيد: بم أستعين على غض البصر؟ فقال: بعلمك أنَّ نظر الناظر إليك أسبق مِن نظرك إلى المنظور إليه، وقال الجنيد: إنما يتحقق بالمراقبة مَن يخاف على فوت حظه مِن ربه عز وجل،
وسئل المحاسبي عن المراقبة فقال: أولها علم القلب بقرب الله تعالى.
وقال سهل: لم يتزين القلب بشيء أفضل ولا أشرف مِن علم العبد بأن الله شاهده
حيث كان.
وقال حميد الطويل لسليمان بن علي: عظني.. فقال: لئن كنت إذا عصيت الله خاليًا ظننت أنه يراك؛ لقد اجترأت على أمر عظيم.. ولئن كنت تظن أنه لا يراك فلقد كفرت.
وكان بعض السلف إذا صلى صلاة استغفر من تقصيره فيها كما يستغفر المذنب من ذنبه إذا كان هذا حال المحسنين في عباداتهم فكيف حال المسيئين مثلنا في عباداتهم
وكان عمر بن عبد العزيز كان إذا أصبح أمسك بلحيته ثم قرأ:{أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ*ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ*ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ} ثم يبكي ويقول:
نهارك يا مغرور سهو وغفلة ... وليلك نوم والردى لك لازم
فلا أنت في الإيقاظ يقظان حازم ... ولا أنت في النوام ناج فسالم
تسر بما يفنى وتفرح بالمنى ... كما سر باللذات في النوم حالم
وتسعى إلى ما سوف تكره غبه ... كذلك في الدنيا تعيش البهائم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.