سألت نفسى السؤال الذى حير نقاد الفن السابع: هل تتأثر السينما بالواقع أم توثر فيه؟ وبصياغة أوضح: هل تخترع السينما أبطالها من الخيال، ثم يؤثرون فى الواقع بشدة، أم أنها تعكس الواقع وتستلهم أبطالها منه؟ وبصياغة اشد وضوحا: هل كان محمد أبو سويلم اختراعا سينمائيا غير موجود فى الواقع، أم أنه نموذج للفلاح المصرى الأصيل، مع تنويعات دياب، وعبد الهادى، والشيخ حسن، ومحمد افندى؟ ولماذا كانت صورة البطل السينمائى فى الستينيات تتمثل فى الضابط الوطنى على عبد الواحد فى «رد قلبى»، والمناضل على طه فى «القاهرة 30»، والفتاة المتفتحة التى تنشد الحرية وتطالب بالاستقلال الوطنى، وتواجه القهر والظلم، كما فى «الباب المفتوح»، و«أنا حرة»، و«شىء من الخوف»، و«الزوجة الثانية»؟ ولماذا تحول البطل فى عصر الانفتاح الساداتى إلى «عنتر» إمبراطور الزبالة الذى يقضى على مستقبل الأستاذ الجامعى فى «انتبهوا أيها السادة»، و«زعتر» نشال الأوتوبيسات الذى تحول إلى رجل أعمال كبير فى «أهل القمة»، ونماذج فاسدة ومتوحشة من اللصوص والمهربين ومستوردى الأغذية الفاسدة والألبان الملوثة بالإشعاع النووى كما فى «الغول»، و«حب فى الزنزانة، و«عنبر الموت»؟ وأخيرا، كيف وصل حال البطل إلى نموذج اللمبى، ودبّور، وكتكوت، وعوكل؟ لماذا اختفى حسين صدقى وأنور وجدى ويحيى شاهين وعماد حمدى وشكرى سرحان ورشدى أباظة وأحمد مظهر وكمال الشناوى وحسين رياض، وصارت صورة البطل على شاشاتنا لمحمد سعد ومحمد هنيدى وسعد الصغير ومحمد رمضان، وأسماء لا تسعد بهم الذاكرة؟ ولماذا اختفت فاتن حمامة وسعاد حسنى ومديحة يسرى وماجدة ونادية لطفى وميرفت أمين وأمينة رزق وفردوس محمد، وظهرت نماذج للمرأة التافهة «آخر حاجة»، أو محفزات التحرش والتندر؟ يقول الكاتب والسينمائى الفرنسى جان كوكتو إن السينما كتابة بالصور، فهى مرآة المجتمع، تعكس قضاياه، وتعبر عن همومه ومشكلاته، تتأثر به وتؤثر فيه. ففى الستينيات ظهر البرنس شوكت حلمى (أحمد مظهر) فى «الأيدى الناعمة» (1963) كمواطن مغترب عالة على المجتمع، يعيش معزولا فى قصره الخاوى، لأنه عاطل عن العمل، أما أحمد خميس، زوج ابنته المهندس الذى يعمل بيده فى ورشته فيمثل الطبقة الوسطى العاملة، الذى يصنع مستقبله بيده، ويبدو فى حال أفضل وأكثر احتراما، الفيلم يعظم قيمة العمل الشريف. بعد أقل من عشرين عاما أنتجت السينما «أهل القمة» (1981) ظهر الضابط الشريف محمد فوزى (عزت العلايلى) يعانى من شظف العيش هو عائلته، فى حين يصبح النشال زعتر النورى (نور الشريف) من الأثرياء بالتهريب، تنتصر قيم الفساد وتحت ضغط الحاجة توافق سهام (سعاد حسنى) ابنة أخت الضابط على الزواج بزعتر النورى رغم معرفتها بفساده. إنه الواقع الجديد بعد الانفتاح الاقتصادى الساداتى. فيلم «انتبهوا أيها السادة» (1980) سجل انتصار عنتر الزبال (محمود يس) على أستاذ الفلسفة الجامعى جلال (حسين فهمى) الذى يفشل فى الحصول على شقة تمليك يتزوج فيها فى العمارة التى يملكها عنتر، وينتهى الحال بخطيبة الأستاذ بقبول الزواح بعنتر. ما ينطبق على الأبطال طال بطلات السينما، فبعد «الباب المفتوح» و«أنا حرة» و«شىء من الخوف» و«مراتى مدير عام» و«الزوجة رقم 13» و«النظارة السوداء»، حيث كان للمرأة موقف وطنى وإنسانى وذاتى، فهى لا تقبل أن تمس كرامتها ولا أن تذل شخصيتها، نجد المرأة المصرية تتنازل وبسهولة عن طموحها وعلمها وصورتها عن نفسها لأسباب ساذجة أو طمعا فى الماديات، كما فى «استقالة عالمة ذرة»، و«تيمور وشفيقة» و«انتبهوا أيها السادة». جيل عبد الناصر الذى أثر فيه فيلم «الناصر صلاح الدين» مات كمدا فى الملاحات مع أبطال «العار». معاهدة كامب ديفيد عزلت مصر وقزمت دورها وصورتها فى محيطها العربى، وسياسة الانفتاح سحقت الطبقة الوسطى تحت مطرقة غلاء المعيشة وفساد الذمم والتحول إلى مجتمع استهلاكى ينتصر للمادة على حساب القيمة. البطل السينمائى عبر عن عجز المواطن عن الانتصار على الفساد المحتمى بالسلطة، فى فيلم «الغول» (1983) بعد أن فشل الصحفى عادل (عادل إمام) فى سجن ابن رجل الأعمال الشهير بسبب جريمة قتل كان شاهدا عليها، بسبب تدخل والده الذى اشترى الذمم، لا يجد الصحفى أمامه إلا أن ينفذ القانون بنفسه مثل رعاة البقر فى أفلام الغرب الأمريكى. حاولت السينما أن تصنع واقعا موازيا، واختارت الأمثلة الأكثر غرابة وغربة، أصبح ما يظهر على الشاشة بثورا على وجه المجتمع، الشخصيات الهمجية والعشوائية التى تعانى من التفكك الأسرى، والتفسخ والانحلال الخلقى، والنتيجة أبطال مشوهون ونساء يمثلن سلعة رخيصة قابلة للبيع والشراء تكمل المشهد المتدنى. وحين تقدم السينما أبطالا من خارج دائرة المهمشين، تختار المهزومين الذين يعيشون فى عالم من الشظايا التى تدور حول ذاتهم المنعزلة فى غربة تامة عن الآخرين، ففى فيلم «الفيل الأزرق» (2014) الدكتور يحيى (كريم عبد العزيز) يتعاطى كل أنواع المخدرات والكحوليات ويتأرجح بين العلم والشعوذة. فهل تستمر السينما على هذه الحال لأن الواقع لا يقدم لها أكثر من ذلك، أم تتغير صورة البطل فى هذه المرحلة، ونشاهد أبطالا يليقون بالبلد العنيد الذى يواجه الإرهاب ويكافح من أجل الحياة فى ظروف صعبة جدا، ويطمح أن ينتصر؟ السؤال إجبارى، وفريضة على كل صناع السينما. المقال نقلا عن التحرير