رغم تأكيدات السيد المستشار عاصم الجوهري رئيس جهاز الكسب غير المشروع بأنه لم يسبق قط أن صدر حكم من المحكمة الدستورية يقضي بعدم دستورية قانون الكسب غير المشروع، (وهي تأكيدات صحيحة بالفعل)، رغم هذا فإن هناك ثغرة قانونية مفزعة يمكن أن ينفذ منها أغلب المتهمين الحاليين بالفساد، ويخرجوا كما تخرج «الشعرة من العجين» كما يقال، ويحصلوا علي البراءة حتي لو ثبت أن ثرواتهم بالمليارات!!.. هذه الثغرة لا ترجع إلي حكم صادر من المحكمة الدستورية، ولكنها ترجع إلي حكم صادر من محكمة النقض في الطعن رقم 30342 لسنة 70 قضائية ( سنة 2000ميلادية)..كان الطعن مقاما من محافظ الجيزة الأسبق ( بالمناسبة ليس هو المستشار ماهر الجندي، ولكنه محافظ آخر)، ولقد اعتمد المحافظ المقصود من بين ما اعتمد عليه في طعنه ذاك علي الدفع بعدم دستورية الفقرة الثانية من المادة الثانية من القانون رقم 62 لسنة 1975 التي أدين سيادته بناء عليها، وبناء علي ذلك الطعن فقد حصل علي حكم بالبراءة رغم ثبوت تضخم ثروته علي نحو لا يتناسب مع راتبه الحكومي!! سوف يتساءل القارئ الآن ما هو نص الفقرة الثانية من المادة المذكورة، وما هو النص الدستوري الذي ذهبت محكمة النقض إلي أنها تتناقض معه؟، وللإجابة عن هذا التساؤل نقول إن الفقرة المعنية تنص علي أنه "تعتبر ناتجة بسبب استغلال الخدمة أو الصفة أو السلوك المخالف كل زيادة في الثروة تطرأ بعد تولي الخدمة أو قيام الصفة علي الخاضع لهذا القانون أو علي زوجته أو أولاده القصر متي كانت لا تتناسب مع مواردهم وعجز عن إثبات مصدر مشروع لها"، أما النص الدستوري الذي ذهبت محكمة النقض إلي أنها تتناقض معه فهو نص المادة 67 من دستور 1971التي تنص علي أن : "المتهم بريء حتي تثبت إدانته في محاكمة قانونية تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه"، (وهو نفس نص المادة 20 من الإعلان الدستوري المعمول به حاليا )، وفي رأي محكمة النقض -إذ ذاك- أن نص الفقرة الثانية من المادة الثانية من قانون الكسب غير المشروع قد خالف الأصل الدستوري الذي هو البراءة وجعل من عجز الخاضع عن إثبات مشروعية مصادر أمواله قرينة علي جرمه، وبذلك فإنها تكون قد نقلت عبء الإثبات من النيابة العامة إلي المتهم، وفي رأي محكمة النقض إذ ذاك أن النيابة العامة هي التي يقع عليها بمقتضي نص الدستور عبء إثبات أن المتهم قد حصل علي أمواله بطرق غير مشروعة، أما المتهم نفسه فليس مطالبا بإثبات مشروعية أمواله حيث إن عبء الإثبات يقع في رأيها علي من يجادل بخلاف الأصل، والأصل هو البراءة!! والواقع أن النقض رقم 30342 لسنة 70 قضائية، قد ذهب إلي أبعد من القول بعدم دستورية قانون الكسب غير المشروع، حين ذهب إلي القول إن سائر المحاكم يتعين عليها أن تمتنع عن تطبيق نص الفقرة الثانية من المادة الثانية من قانون الكسب غير المشروع، وإن لم يكن من اختصاصها أن تقضي بعد دستوريته!!، وفي رأينا أن محكمة النقض في حكمها سالف الذكر قد أغفلت اعتبارين مهمين أولهما أن هناك مبدأ مستقرا في الفقه والقضاء والتشريع يعلو علي سائر الأحكام والتشريعات، بل وعلي الدساتير أيضا ألا وهو الاتساق مع مبادئ العقل والمنطق، حيث يبطل أي حكم أو أي تشريع أو قاعدة دستورية لا تتسق مع مبادئ العقل، فإذا كان عبء الإثبات يقع علي من يجادل بخلاف الأصل الدستوري، فإن العبء قبل ذلك يقع علي من يجادل بخلاف المنطق الطبيعي للأمور، هل من مبادئ العقل والمنطق أن تكون وزيرا وأن يكون راتبك أقل من عشرة آلاف جنيه، وليس لك مصدر للدخل غيره ثم تصل ثروتك إلي عشرة مليارات، ثم تقول " لست مطالبا بإثبات شيء"؟، أما الاعتبار الثاني فهو أن قانون الكسب غير المشروع لا يتعارض مع النص الدستوري الذي يقضي بأن المتهم بريء حتي تثبت إدانته، لأن المتهم يظل متمتعا بكل حقوق المواطن البريء بالفعل حتي يتأكد تماما عدم وجود مصدر مشروع لثروته فتثبت إدانته.. صحيح أن مبادئ محكمة النقض ليست ملزمة للمحاكم الأدني التي قد يذهب بعض قضاتها إلي اجتهاد مختلف، لكن الواقع العملي يقول إن المحاكم الأدني تضع أحكام محكمة النقض في حسبانها وتحرص عادة علي عدم مخالفتها، وهنا مكمن الخطر مالم تعدل محكمة النقض عن المبدأ الذي تضمنه النقض رقم 30342 لسنة 70 قضائية، وهذا هو ما نأمله، خاصة أنه ليس هناك قانون ما يلزمها بالتمسك به